سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بوتان: لولا شعاع الأمل لما لهثت خلف حقيقة مقتل بنبركة منذ 47 سنة المحامي الفرنسي أكد أنه لم يحدث أي اختراق في الملف بسبب إصرار باريس والرباط على حجب الحقيقة
احتضنت باريس مؤخرا ندوة تكريمية للفقيدين المهدي بنبركة وعمر بنجلون، حاولت إضاءة بعض الجوانب المتعلقة باغتيالهما وتجديد مظاهر التعاطف والتعبئة حول ملفيهما. واستجلت الندوة حقيقة مفادها أن قضية المهدي بنبركة هي قضية عالمية، وأن مطلب رفع السرية عن الملفات المرتبطة به في الداخل والخارج تجاوز عائلة الشهيد وأصبح مطلبا وطنيا ودوليا تتبناه اليوم كل المنظمات والهيئات الحقوقية في العالم. لقد مضى اليوم 47 عاما على الحادث، الذي بقي سرا مكتوما لطخ، أولا، فترة رئاسة الجنرال دوغول، وشكل أيضا عبئا ثقيلا في عهد الملك الحسن الثاني. والجريمة في عمقها لها شقان: إجرامي واستخباراتي، والشق الثاني هو الأخطر لأنه يختزل فصولا مخزية من ضلوع أربع دول، هي: المغرب وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل. وعلى هامش الندوة، التي حضرها حقوقيون وفاعلون اجتماعيون، مغاربة وفرنسيون، حاورت «المساء» المحامي موريس بوتان، وهو اسم وازن في الأوساط القانونية الفرنسية، ليسلط مزيدا من الضوء على القضية بمختلف ملابساتها. وقد رافع بوتان في الكثير من الملفات السياسية بفرنسا والشرق الأوسط، أهمها الملفات المرتبطة بالعمليات الإرهابية المتتالية التي شهدتها فرنسا سنة 1994، وهو المحامي الوحيد، الذي لا يزال على قيد الحياة من بين خمسة محامين أوكلتهم عائلة بنبركة للدفاع عن الفقيد. - لماذا هذه الندوة عن بنبركة وبنجلون بشكل خاص فيما استُثنيت قيادات اشتراكية أخرى وازنة مثل بوعبيد واليوسفي؟ ليس في الأمر أي تمييز بين الرموز الاشتراكية المغربية، واختيار بنبركة وبنجلون راجع فقط إلى كونهما تعرضا لعملية اغتيال بغيضة من تدبير جناة نجهل حتى الآن هويتهم. ثم إن عمر بنجلون يلتقي مع المهدي بنبركة في الكثير من الجوانب النضالية، حيث كان من مؤيدي نهجه الثوري وظل يدافع عنه في كل المحافل الوطنية والدولية. - تقصد أن عبد الرحيم بوعبيد لم يكن على نفس الدرجة من الثورية؟ لم تُقوّلني ما لم أقل؟ - فهمت من تأكيدك على النهج الثوري للفقيد بنجلون أن بوعبيد واليوسفي كانت لديهما قناعات نضالية مختلفة. أليس كذلك؟ هناك، حسب رأيي، اختلاف بين الرموز الأربعة في النهج وليس في القناعة أو الغاية. ففيما سار عمر على الدرب الثوري الذي سلكه المهدي عن قناعة بأنه النهج الأمثل لإقرار العدالة والمساواة، اختار بوعبيد وبعده اليوسفي طريق النضال الديمقراطي من أجل تغليب قوة القانون على قانون القوة. ويمكن التأكيد في هذا السياق على أن عبد الرحيم بوعبيد، الذي كانت تجمعني به علاقات إنسانية متينة، كان خادما مثاليا للدولة بمفهومها الواسع. وقد أبان عن كفاءة عالية في المجال القانوني، بصفته محاميا رفيعا، وفي المجال الاقتصادي حينما كان وزيرا للاقتصاد، وأيضا في المجال الدبلوماسي عندما كان سفيرا. لكنه يختلف عن المهدي وعمر بخصوص النهج والطريقة. والاختلاف بين الفريقين أسهم بشكل كبير في إغناء وتعدد مشارب النضال الاشتراكي. أعتقد أن كلامي واضح بما فيه الكفاية. - سيكون ربما أوضح لو أضفيت، باختصار، «صفة خاصة» تُميز فيها بين الفريقين. الصفة باختصار شديد هي أن المهدي وعمر رجلان ثوريان، فيما بوعبيد واليوسفي إصلاحيان بالدرجة الأولى، وكلاهما أغنى الساحة النضالية المغربية في فترات عصيبة من التاريخ السياسي المغربي. - وما قولك في أن الكثير من الأوساط ترى في مثل هذه الندوات والتجمعات حول بنبركة مجرد لقاءات روتينية لا طائل منها؟ أتفق معك بعض الشيء في الجانب المتعلق بالفعالية المحدودة لمثل هذه اللقاءات، لكنها تحمل شحنة قوية من حيث الرمزية السياسية ومن حيث تذكير الأجيال الجديدة بأن نضال الرجل من أجل العدالة الإنسانية ومن أجل الكرامة والحرية امتد من المغرب إلى كافة القارات، وشكل فكره الأممي قاطرة أساسية لتحرر الشعوب في إطار معارك التحرير في الداخل وفي الخارج. ومن هنا فإن هذه الندوات، وإن كانت محدودة الفعالية السياسية، فهي، حسب رأيي، إضاءة مستمرة لكل الجوانب المتعلقة باختطافه واغتياله، وتحفيز إضافي لمواصلة معركة الكشف عن الحقيقة على كل المستويات. وهي إلى جانب ذلك محطة ضرورية لتجديد مظاهر التعاطف والدعم والتعبئة حول الملف. - وما جديد قضية بنبركة بعد مضي 47 سنة عن اغتياله؟ دعني أقول، أولا، إن المحافل الرسمية والسلطات القضائية بكل من المغرب وفرنسا تتجنب للأسف وبشتى الوسائل تسليط أي شعاع من الضوء على ظروف الجريمة ومرتكبيها اللهم بعض الإشارات الخجولة، التي لا تسمح بمعرفة كل الحقيقة عن مصير الشهيد ومكان دفن جثمانه وهوية مخططي ومنفذي الجريمة والمشاركين فيها. أما عن سؤالك، فلا جديد في القضية بعد القرار الذي اتخذته وزارة الدفاع الفرنسية قبل سنتين والقاضي بالاستجابة لمطلب رفع طابع السرية عن مجموعة من الملفات، وبالسماح لقاضي التحقيق باتريك رامائيل بعملية التنقيب بمقر المديرية العامة للأمن رفقة جاك بيل، رئيس اللجنة الاستشارية لسرية الدفاع الوطني. غير أن هذه الخطوة، التي قوبلت بارتياح من طرف المنظمات الحقوقية وعائلة الفقيد، لم تمكّن ذوي الحقوق من الاطلاع بشكل واسع على هذه الوثائق والتحقق من قيمتها ومن الإفادات التي يمكن أن تقدمها في المجال، وكذلك الإضاءات المختلفة حول الأطراف المعنية في الداخل وفي الخارج. وقد أوضحت لنا التجربة أن ملفات رُفع عنها طابع السرية لم تكن في المستوى المنتظر من حيث المعلومات أو الإفادات التي تحدد تورط الجهات المباشرة المسؤولة عن عملية الاختطاف والاغتيال. - الخطوة تحمل كيفما كانت شعاعا من الأمل في أن تقود الوثائق الجديدة إلى معرفة الحقيقة أو جزء منها على الأقل. لولا شعاع الأمل لما وجدتني ألهث خلف الحقيقة منذ 47 سنة. غير أن التجارب السابقة بقدر ما هي محبطة، فإنها تكرس إصرار المحافل الرسمية، وبالخصوص أجهزة الاستخبارات المغربية والفرنسية، على طي الملف دون الكشف عن الحقيقة كاملة حول مصير الشهيد. فبالرغم من إقدام السلطات الفرنسية على رفع ما يسمى «أسرار الدفاع» عن بعض الوثائق المرتبطة بالملف، وبالرغم أيضا من فتح تحقيقات وإنابات قضائية متتالية، لم يحدث أي اختراق يذكر في هذا الملف. - لا قيمة إذن لمذكرات القبض؟ لا قيمة لها بالطبع حينما ترفض وزارة العدل الفرنسية تبليغها عبر القنوات الدبلوماسية لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة في حق المتورطين. فالوزارة لم تكترث بمذكرة القبض الأخيرة في حق عدد من المسؤولين وكبار الضباط المغاربة بدليل أنهم يسافرون إلى الخارج دون أدنى مضايقة قضائية من طرف الشرطة الدولية (الأنتربول). - منذ 47 سنة وأنت تبحث عن الحقيقة، هل توصلت إلى ما يثبت المسؤولية المباشرة لأجهزة الاستخبارات المغربية والفرنسية في العملية؟ من المؤشرات الواجب أخذها بالاعتبار العثور في سجلات «الفندق الكبير» بالدار البيضاء، إثر تحريات تمت سنة 2001 بطلب من رئيس المحكمة التجارية بالعاصمة الاقتصادية، استجابة لإنابة قضائية في الموضوع، على ما يثبت تورط السيدة بوشسيش، زوجة جورج بوشسيش، التي كانت في شتنبر 1965 مسؤولة عن الفندق. ويحكي بيرنار فيولي في كتابه «قضية بن بركة» (دار النشر فايار 1991)، أنه لدى اختطافه بقلب باريس من طرف الشرطيين الفرنسيين لويس سوشون وروجي فيتوت، اقتيد الشهيد إلى منزل جورج بوشسيش، وهو من بين اللصوص الاستعلاميين الذين استقطبتهم المخابرات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. وكان بوشسيش أول من التحق بالمغرب، بين المجرمين، بعد ثلاثة أيام من عملية الاختطاف، أي في الفاتح من نونبر 1965، مما يؤكد بأن المجرمين كانوا يساومون مشاركتهم في العملية بالحصول من أوفقير وأجهزة الاستخبارات المغربية على امتيازات مادية، من بينها امتلاك بعض الفنادق بالدار البيضاء إلى جانب فندق سفانكس بالمحمدية، وكلها كانت محلات للرذيلة والدعارة. وقد غادرت السيدة بوشسيش المغرب سنة 1972 ولم تعد إليه بعد أن منعت من الدخول بقرار من السلطات الأمنية آنذاك. - هل من ذكريات قوية تحتفظ بها مع المهدي بنبركة؟ أشهد للرجل بذكاء ثاقب وبقدرة قوية على التكيف بسرعة خارقة مع الأوضاع والظروف الجديدة.. وأسجل للمهدي أيضا إنجازات كبيرة في مساره النضالي من أجل الحرية والديمقراطية داخل المغرب وخارجه، وإنجازات أخرى في مجال البناء، فهو من ابتكر «طريق الوحدة» الرابطة بين أكادير ووجدة، التي دشنها ولي العهد آنذاك مولاي الحسن، وهو من أعاد بناء وتنظيم حزب الاستقلال قبل أن يعلن في 25 يناير عن انشقاق الحزب وولادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي خرج من رحمه عام 1972 الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وكل هذه الإنجازات كانت ستكلفه حياته بالمغرب قبل تاريخ اختطافه بباريس بزمن طويل. - وكيف كانت علاقته بالراحل الحسن الثاني؟ علاقة عادية إلى حدّ ما حين كان المهدي يشرف على تدريسه، ثم أخذت فيما بعد طابع الصديق والخصم السياسي في آن واحد، قبل أن تتحول إلى عداوة وحقد من طرف الملك الحسن الثاني بمجرد تربعه على العرش. - ماذا تقصد؟ أقصد أن الحسن الثاني أخذ يحس بالخطر القادم من بعض رموز الحركة الوطنية، وفي مقدمتهم بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري، الذين شرعوا يروجون لصياغة دستور يخول للشعب مسؤولية الحكم ويجعل الملك يسود ولا يحكم. وأعتقد أن الملك محمد الخامس كان سيقبل بهذا التوجه دون تصادم مع رموز الحركة الوطنية. وهنا أقول للتاريخ إنني لم أسمع من المهدي بنبركة ولم يثبت عنه أن طالب في يوم من الأيام بنظام جمهوري في المغرب، كما يروج لذلك خصومه. وبنبركة فوق ذلك كان على يقين بأن المغاربة يحبون الملكية ويعتبرونها النظام الذي لا بديل عنه في بلدهم. - تحديد صلاحيات الملك كانت، إذن، نقطة الخلاف الوحيدة التي ولدت العداوة بين الرجلين؟ أظنها النقطة الأساسية إلى جانب خلافات أخرى بشأن المؤسسات التمثيلية والخيارات الاقتصادية الكبرى وغير ذلك. وهناك مسألة أخرى أججت مشاعر الغضب والحقد على المهدي حين إعلانه في 16 أكتوبر 1963 من راديو القاهرة معارضته ل«حرب الرمال» بين المغرب والجزائر، وهو ما فُهم منه وقوفه إلى جانب الجزائر، فحكم عليه بالإعدام ليبدأ رحلة المنافي التي قادته إلى أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية.