استيقظ الفرنسيون فجأة ووجدوا أنّ أنف الجمهورية صار طويلا بشكل لا يُصدَّق، وباتوا يتساءلون بكثير من الحيرة: هل أصبحنا دولة من الكذابين؟ جيروم كاهيزاك، وزير الميزانية المستقيل، اعترف في النهاية بأنه يملك حسابا مصرفيا في سويسرا هرّب إليه الملايين كي لا يدفع الضرائب في بلاده، بعد أن ظل لشهور «يتقابح» مع صحافيي «ميديا بارْت»، يفند ويُهدّد ويردّد أمام الرأي العام أنه بريء من الحساب السويسري براءة الذئب من دم يوسف.. أما حاخام فرنسا الكبير، جيل بيغنهايم، فقد اعترف -أخيرا- أنه لم يحصل يوما على شهادة التبريز في الفلسلفة بخلاف ما كان يدّعي، علما أنه وصل إلى المنصب بناء على سمعته كرجل دين يملك تكوينا عاليا في الفلسفة، وظل يرصّع «السّيفي» بشهادة التبريز دون أن يرفّ له جفن، إلى أن كتب أحد الصحافيين مقالا يقول فيه: «إيلا كان عْندو شي شهادة فالفلسفة نتحرْق بها يُومْ القيامة»... واضطرّ «الكديديبْ» إلى الاعتراف بعد أن فتش الصّحافيون لوائح المُبرّزين في الفلسفة منذ تأسيس الشعبة، اسما، اسما، ولم يعثروا له على أثر.. كبير الحاخامات سبق له أن انتحل أفكارَ غيره في كتب منشورة، ما جعل البعض يتساءلون بجدية إن كان بيغنهايم يهوديا أم منتحلا لهذه الصفة أيضا... ولا شك أنه سيفقد منصبه في الأيام القليلة المقبلة، مثل كاهوزاك، لأنّ فرنسا ما زالت بلدا ديمقراطيا رغم كل شيء، لو كانا مغربيَّيْن لبقيا في منصبيهما دون مشكلة، على غرار كثير من السياسيين الذين «قنبلونا» بالأكاذيب دون أن يحدُث أي شيء: لا هُم استقالوا ولا القضاء تحرّك لملاحقتهم، بل إن بعضهم كوفئوا بمناصب أرفع.. ّحين عين محمد الأشعري، القيادي السابق في حزب «الاتحاد الاشتراكي»، وزيرا في حكومة «التناوب»، نشرت جريدة «ليبراسيون» الناطقة باسم الحزب أن الرجل متخرج من «المدرسة الوطنية للإدارة العمومية»، علما أن الأشعري لم يحصل في حياته على أكثرَ من شهادة «الكفاءة» في الحقوق، التي يجتازها من لم يستطع الحصول على الباكالوريا.. لكنّ الكذبة لم تمنع الأشعري من الاستمرار في الحكومة ما يقارب عشر سنوات.. أما عبد الكريم بنعتيق، زميله السابق في الحكومة و«التقنبيلْ»، فما زال يُصرّ على ترصيع «السّيفي» بثلاث «دوكتورات» وهمية لم يحصل يوما على واحدة منها، دون أدنى حرج... والأشعري وبنعتيق هما مجرّد شجرة تخفي غابة من الأنوف الطويلة. ولعلّ الفرق بين قضايا الفساد التي تثار في المغرب وقضايا الفساد التي تثار في فرنسا هو أن الجمهورية تطبّق شعار «اللي فرّط يْكرّط» والمملكة ترفع شعار «عفا الله عمّا سلف». إذا كذبتَ أو خرقت القانون في فرنسا يمكن أن يتستر عليك زملاؤك في الحكومة والبرلمان ما دامت القضية لم تخرج إلى العلن، لكنْ بمجرد أن تسقط بين أيدي السلطة القضائية أو الإعلامية تدفع الفاتورة باهظة ويتبرّأ منك الجميع... قبل كاهيزاك، شاهدنا ذلك في قضية دومينيك ستروس كان، رئيس صندوق النقد الدولي السابق، الذي بات الرّفاق يتهرّبون منه بعد قضية «سوفيتيل» رغم أنهم يعرفون جيدا أنّ نوفيساتو ديالو لم تكن أولى ضحاياه. لحسن حظ المُفسدين في المغرب أنّ بإمكانهم أن يُعولوا على الرفاق إذا ما وصلت قضيتهم إلى الصحافة أو القضاء، مَهْما بلغت درجة تورّطهم، لأن الجميع «غمسوا» في القصعة نفسِها صارت «كرشهم» ممتلئة عن آخرها ب«العْجينة»، ويخافون أن يقع لهم ما وقع للحيوان الأسود في الحكاية الشهيرة: «أكِلتُ يوم أكِل الثور الأبيض». شاهدنا ذلك في مسلسل خالد عليوة مع القضاء، ورأينا كيف غادر الزنزانة بفضل الضغوط السياسية التي مُورست على العدالة إلى درجة لم يستطع معها القاضي أن يصمُد.. الضغط السياسي على القضاء يعطي دائما أكله في المغرب، ليس في قضية عليوة وحدها، بل في قضية مزوار وبنسودة، التي لم يستطع وزير العدل والحريات، بوصفه رئيسا للنيابة العامة، أن يفتح تحقيقا بشأنها، رغم القرائن والحُجج، في وقت يُلاحَق المهندس الذي فجّر الملف.. كما لم يتجرأ على فتح تحقيق في ملف الوزيرة السابقة ياسمينة بادو، التي اشترت عقارا في باريس بقيمة تناهز المليارين دون أن يعرف أحد كيف أخرجت هذا المبلغ الضخم من العملة الصعبة، علما أنّ الدولة المغربية كانت تدفع لها راتبا بالدرهم وليس بالأورو.. وفي وقت يتم اعتقال أشخاص يحاولون إخراج مبالغ تافهة لا لشيء إلا لأنهم بسطاء ولم يكونوا وزراء في يوم من الأيام.. بسبب كل هذه الضغوط، لا أحد يأخذ الصّحافي على مَحمل الجد، حتى حين يُقدّم حُججا دامغة ضد السياسي، والقضاء لا يعتبر نفسَه معنيا بما تنشره الصحافة من ملفات، ولا يتدخل إلا في حالات انتقائية، بإيعاز من جهات معروفة، يبدو أنها ما زالت تصرّ على أن تصنع «الشمس والجو الممطر» في المملكة السعيدة، رغم تقلبات الفصول!