«الأوباش هم الناظور، الحسيمة، تطوان، القصر الكبير.. عايشينْ بالتهريبْ وبْالسرقة، الناس دْيال الشّمالْ عارفينْ الحسن الثاني وليّ العهد وحسن ميعفرونش الحسن فهاد الباب.. أما أنا ما كنعرفهوم ما كيعرفوني».. كان هذا مقتطفا من إحدى أكثر خطب الحسن الثاني إثارة للجدل. جاء إلى التلفيزيون وتحدّثَ بلغة صارمة ووصف الرّيفيين، عقب اندلاع أحداث سنة 1984، ب«الأوباش».. لكنّ الملفت في خطاب الحسن الثاني هو أنه اكتسى لبوسا تهديديا وحذر مُدن الشّمال، إضافة إلى مراكش، من أن «يعرفوا» وجه الحسن الثاني، وهو ملك البلاد، بعد وفاة والده محمد الخامس.. يقول بعض المؤرخين إنّ «الرسالة» كانت واضحة، على اعتبار أنّ الحسن الثاني هو نفسُه الذي قاد القوات النظامية سنتي 1958-1959 لإخماد الثورة الرّيفية بالقوة.. وكان ما كان.. لا شك أن الخطاب كان يحمل في طياته الكثير من الرسائل السياسية، بعضها واضح وشفاف ويلفّ الغموضُ بعضَها الآخر.. بيد أنّ الأوضح من كل ذلك هو أن الريفيين الذين «صعدوا إلى الجبال» في خمسينيات القرن الماضي، لم تكن مطالبهم اجتماعية فقط، كما حاول البعض أن يؤكدوا، بقدْر ما كانت سياسية في جوهرها، وفي مقدمتها إسقاط الحكومة وعودة محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة.. المطلب الأول يعني أنّ سكان الريف كانوا مُتذمّرين من الحكومات التي تعاقبت على تسيير الشأن العامّ في مغرب ما بعد الاستقلال، بمعنى أنّ الريفيين تفطنوا إلى «خطة» حزب الاستقلال للهيمنة على الدولة، كما يشرح محمد سلام أمزيان في مذكراته.. أما المطلب الثاني ،المتمثل في عودة الخطابي، فربّما كانت -حسب بعض المؤرخين- الفتيلَ الأول لهجوم الجيش الملكي بقيادة الحسين ومساعدة أوفقير على الرّيف. لقد كان صراع الخطابي مع رموز الحركة الوطنية واضحا منذ عشرينيات القرن الماضي، أما القصر فما يزال يتوجّس من فكرة تأسيس «الجمهورية الرّيفية»، التي كان قد أعلن عنها الخطابي بعد هزمه الإسبان في الحرب التحريرية.. فهل يمكن القول، إذن، إنّ العلاقة التي سادت بين الخطابي والقصر والنخبة السياسية المغربية أسهمت بقسط ما في تأجيج أحداث 1958-1959؟.. الشعب يريد إسقاط الحكومة وعودة الخطابي في نونبر 1958 وجّه سكان الريف مذكرة مطلبية إلى الديوان الملكي، اختلف الباحثون حول عدد النقط المُدرَجة فيها.. وأيا كان الأمر، فإنّ المطالب الأساسية التي تضمّنتها المذكرة تمثلت -حسب محمد سلام أمزيان كما نحتها في مذكراته- في جلاء القوات الأجنبية عن الوطن دون قيد ولا شرط، لأنّ وجودها مُنافٍ للاستقلال والحرية المنشودَين، وعودة الأمير الخطابي وأسرته إلى وطنه، الذي ضحّى في سبيله، وحلُّ الأحزاب السياسية والعمل على إنشاء اتحاد وطني ووجوب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمُختطَفين، وفي الأخير إسقاط الحكومة، واستبدالها لحكومة شعبية يتوفر فيها التمثيل الصحيح، ناهيك عن مَطالب أخرى ترتبط، بالأساس، بدمج الرّيفيين في أسلاك الإدارة العمومية ومحاربة «الإقصاء» الذي تمارسه الأحزاب السياسية تجاه المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني. لكنْ قبل ذلك، كانت قبائل كزناية، المجاورة لقبيلة آيتْ ورياغلْ، تُعدّ العُدة لاستقبال شهداء جيش التحرير، ومن بينهم عباس المساعدي، الذي لا يُعرَف إلى حدود اليوم مَن اغتاله وكيف تم اغتياله ومن هي الجهة التي تفق وراء ذلك.. في اليوم ذاته حل عبد الكريم الخطيب وحدو أبرقاش والمحجوبي أحرضان، في غفلة من الجميع، بالمنطقة، وقدّموا أنفسهم على أنهم يساندون مطالب السكان.. يقول حدو أبرقاش، أول كاتب لحزب الحركة الشعبية، إنهم جاؤوا من فاس بعد لقائهم بالملك الراحل محمد الخامس. يروي أبرقاش في شهادته حول الأحداث قائلا: «ذهبنا إلى فاس، وكان الملك محمد الخامس في قصر مولاي عبد الله، حاولنا رؤية الملك واتصلنا بأوفقير، الذي كان مرافقا له وقال إنه سيتصل به، لكنه لم يفعل لأنّ الملك كان مشغولا، انتظرنا أوفقير أن يتصل بنا، سألني الخطيب عما إذا كان اتصل، وأجبته بالنفي. في تلك اللحظة وصلتنا أخبار أنه تم نقل رفات عباس المساعدي إلى أجدير من دون الحصول على ترخيص. إثر ذلك ذهبنا، أنا والخطيب وبن عبد الله وأحرضان، إلى قصر مولاي عبد الله في فاس والتقينا مسعود الشيكر، وزير الداخلية، الذي بدا غاضبا، ثم أضاف: «علاش خليتوهومْ ينقلو رفات بْلا ترخيص؟ واشْ مكاين قانون فهاد لبلادْ؟».. قلنا له: «دابا أش كاينْ»، قال: تكلّمو لسيدْنا».. دخل الخطيب وسأله محمد الخامس: «سّي الخطيب، أشْ درتو؟» قاليهْ: ما دْرنا والو، ها رسالة صيفطناها وما جاوبناشْ.. وهذه رفات شهداء الوطن ويقتدون بالملك»، قال الملك: «أشْ هادشي أسّي مسعود؟ (وهو وزير الداخلية حينذاك) فأجابه بأنه أحال الرسالة على عبد السلام السلاوي، المسؤول عن قسم الاستعلامات، فردّ عليه محمد الخامس: «هذا لعب».. سأل الشيكر الملك ما إذا كان عليه أن يعتقلنا، فقال له: «دعهم يذهبون».. مع ذلك، هل تشفع هذه الشهادة لأبرقاش لتبرئة رفاق دربه من إشعال فتيل الأحداث في الرّيف، أو على الأقلّ، المساهمة فيها؟.. تقول بعض المصادر إنّ جميع الوسائل كانت مباحة في الصراع بين المؤسسة الملكية، الرامية إلى تثبيت دعائمها، وحزب الاستقلال، الساعي إلى حسم الصراع لصالحه. ولعلّ من بين هذه الوسائل الاستحواذ على المشهد السياسي والبروز بمظهر «المُنقذ». كان علال الفاسي رجلا ذكيا وخبيرا بمُناوَرات السياسة، ومن الجانب الآخر، وعى محمد الخامس أنّ الصراع مع الحزب يجب أن يتخذ أبعادا أخرى.. وعلى ضوء ذلك، تشير بعض الدراسات القليلة التي تناولت الموضوع بالدرس والتحليل التاريخيَّيْن، إلى أنّ محمد الخامس هو الذي أوعز للخطيب وأحرضان بتأسيس حزب الحركة الشعبية للحد من نفوذ الحزب «العتيد».. واستنادا على هذه المصادر تبرز فرضية تورّط كل من الخطيب وأحرضان في نقل جذوة الانتفاضة من كزناية إلى آيتْ ورياغلْ.. فرضية تمنحنا أكثر من مسوغ لطرح علامات استفهام كثيرة: هل كان القصر يعرف «مزاج» الرّيفيين ويعرف أنهم لا يُكنّون كثيرَ ود لحزب الاستقلال، لاسيما بعد اغتيال أحد أبرز قيادات جيش التحرير، وهو عباس لمساعدي؟.. ثم لماذا أحرضان والخطيب بالذات؟.. يجيب الأستاذ الراحل علي فهمي، الذي عايش تلك الأحداث في حوار صحافي سابق: «يجب أن نتذكر، أولا، حالة التضامن مع سكان آيتْ ورياغلْ، حيث انضمّ ما بين 70 و76 قبيلة في الريف فعلا إلى الإضراب العامّ للورياغليين.. وهنا أتذكر أن اختراقا ما قد يكون وقع. وما يزكي هذا هو أن انشقاقا وقع بين تماسينت وبني بوخلف، المنتمين معا إلى قبيلة آيتْ وْرياغلْ، حيث قامت حركة تمرّدية ضد ميس نرحاج سلام في تماسينت، وبالتالي أتساءل: لماذا وقع انشقاق ضمن القبيلة نفسْها؟ حينما أعود لتذكر ما حدث أجد أن من أشعل فتيلَ المشكل في البداية هما الدكتور الخطيب وأحرضان، ليشكلا بعد ذلك، حزب الحركة، غير أنّ هذا الحزب لم يكن له وجود في الرّيف.. ومَن هم الذين انتموا إليه بعد أحداث الريف؟ إنهم مجموعة المُنشقين من جماعة تماسينت ضد دوار بني بوخلف، الذي ينتمي إليه ميس نرحاج سلام. إنّ الاختراق وقع هنا من أجل القضاء على الجميع، وهو ما تم بالفعل.. في ذلك اليوم وقعت مناوشات بين السلطة والسكان، حيث كانت الأولى ترفض نقل جثمان لمساعدي إلى مقبرة الشهداء في أجدير، في حين كان السكان يريدون ذلك، وهو ما أدى إلى اعتقال الخطيب وأحرضان، ليُسجنا في سجن «عين قادوس» في فاس لمدة شهرين.. وأقبِر ملفاهما منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، غير أنّ السؤال -اللغز هو: كيف انتقلت الانتفاضة من كزناية إلى آيت ورياغل؟ أتساءل -يضيف علي فهمي- «كيف اضطلع شخصان مثل الخطيب وأحرضان بنقل جثمان لمساعدي إلى كزناية؟ ألم يكن الأمر يتعلق بتنافس سياسيّ على حساب عفوية السكان؟.. هي أسئلة مشروعة، لكنها لا يمكن أبدا أن تُقزّم دور السكان الريفيين في الانبراء للدفاع عن مطالبهم العادلة في وجه حكومة مشغولة بصراع السلطة.. البداية كانت من آيتْ بوخلف، وهي المنطقة نفسُها التي ينتمي إليها محمد سلام أمزيان.. قرية هادئة، نالت منها سنوات الجفاف وأنهكتها -كما باقي مناطق الريف- نوائبُ الفقر والقحط، وبذلك تحالف الفقر مع السياسة، لينفجر الريفيون في وجه حكومة عبد الله إبراهيم، التي قيل إنها تورّطت -بشكل أو بآخر- في أحداث الريف. في المقابل، كان الإسبان يرقبون، عن كثب، ما يحدث في بلاد الريف، وهم الذين غادروه قبل سنة فقط، والحنين ما زال يساورهم لإحكام القبضة على المنطقة الشمالية، بل هناك من الباحثين من ذهب إلى أبعد مدى حينما تحدّثوا عن دور إسباني مُفترَض في مدّ الثوار بالسلاح.. ولم يكن خافيا وقتئذ أنّ إسبانيا ما تزال تحيك الدسائس لإيجاد نافذة جديدة للاستعمار.. غير أنّ السؤال الذي ظلّ يُحيّر الباحثين هو مدى التنسيق بين محمد سلام أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي. لا ريب أنّ الخطابي كان يحمل في ذهنه مشروعا تحرريا يقوم على وحدة «المغرب الكبير»، لكنه لم يكن غافلا عممّا يجري في البلاد وبالتحديد في قبيلته. يقول محمد أمزيان، ابن قائد الثورة في هذا الصدد: «كان هناك اتصال بين الخطابي وزعيم الانتفاضة عن طريق التراسل والرُّسَل ذوي الثقة، قبل دخول محمد الحاج سلام أمزيان السجن، وأيضا حينما كان هذا الأخير (أمزيان) يُعَدّ مع مبعوثي الخطابي، أمثال العقيد الهاشمي الطود، لقيام جيش التحرير. ولمّا قامت الانتفاضة أصدر الأمير الخطابي -من القاهرة- بيانات وأدلى بتصريحات مؤيدة لأهداف الانتفاضة. كما بعث منشورات كانت تُتلى على الناس وتوزَّع على المُنتفضين. وحينما انتهت الانتفاضة إلى ما انتهت إليه، التحق قائد الانتفاضة بعبد الكريم الخطابي في القاهرة، وأصبح واحدا من أفراد الأسرة الخطابية.. وقبل أن يصل محمد سلام أمزيان إلى القاهرة قضى ما يربو على ثمانية أشهر في إسبانيا بين إشبيلية وألميرية». أمّا الخطابي فيبدو من خلال الرسائل التي أوردها محمد سلام أمزيان في مذكراته أنه كان حاسما في هذا الباب قائلا «أمّا في المغرب فقد اندلعت الآن، مرة أخرى، ثورة شعبية بزعامة القائد محمد أمزيان، ليست ضد الاستعمار فحسب، بل ضد عملائه أيضا في الدرجة الأولى.. وأهداف الثورة الحاضرة، التي ستؤدي أغراضها بإذن الله، إنْ نالت التأييدَ من قادة الحرية والقومية العربية، هي جلاء القوات الأجنبية من المغرب والقضاء على ما أسماه الخطابي «النظام المُتعفّن الذي مسخ التاريخ والوجود». على كل حال، فقد كان للتجاذبات السياسية دور -كبير أو هامشي -في إذكاء جذوة الأحداث، وشكّل الريف آنذاك ساحة لتصفية الحسابات والبحث عن موطئ قدم في «العهد الجديد»، بيد أنّ هذه الصراعات أدّت إلى حدوث مآسٍ إنسانية وتدخُّل عنيف من الجيش المغربي، فكيف تدخّلَ، وماذا حدث بالضبط؟ وكيف عذب المعتقلون؟ ومن ثم كيف قاد الملك الراحل الحسن الثاني -بمساندة أوفقير- هجوما على الرّيفيين؟.. عامْ بُوقبارْنْ.. المأساة بعيدا عن شجون السياسة، التصقت بالمخيال الجمعيّ للريفيين صورة «عام بُوقبارْنْ»، وتعني الكلمة «واقيات الرأس» الكبيرة التي كان يرتديها جنود الجيش المغربي.. صورة تحوّلت إلى مأساة حقيقية يحكيها الأجداد في سهرات الشاي وتستحثّ الجدّات ذاكرتهنّ لنسج «إزرَانْ» حول ما وقع في الريف.. في حينها اهتدى وليّ العهد الحسن الثاني، الرجل القوي في الدولة المغربية الحديثة، إلى مهاجمة «الذين أعلنوا العصيان في وجه الحكومة المركزية».. قد نفهم هذا الهجوم ونحن نقرأ ما كتبه هو نفسه في «مذكرات ملك»، كان كلاما واضحا لا يحتاج إلى مجهود كبير لفك ألغازه: «لم يهضم مساعدو فرانكو تصفية الاستعمار في المغرب فكانوا يوفرون السلاح والزاد للسكان المعتصمين في الجبل، لقد كانت الوضعية قابلة للانزلاق في المتاهات».. في غفلة من الجميع أصيبت طائرة وليّ العهد أثناء الأحداث، وعلّم الريفيين -كما قال يوما- «دروسا في الانضباط».. يتحدث محمد سلام أمزيان في مذكراته عن ممارَسات فظيعة تعرّضَ لها المعتقلون على خلفية الأحداث، ويسرد كيف تدخل الجيش المغربي في القرى الريفية.. الكلام لأمزيان: «تحرَّكْنا ندافع عن ديارنا ووطننا وحقوقنا، التي اغتصبها الأجنبي بالعدوانية الصليبية، فواجهتنا الحزبية الحاكمة بالحقد الأعمى، تجلى في إحراق القرى دون مراعاة للنساء والأطفال وحتى الحيوانات.. ولم يكن هناك فرق بين عدوان الحزبية علينا وعدوان المُستعمِر على وطننا وأهلنا، أي لم يكن هناك فرق بين رئيس حكومة سنة 1959، عبد الله إبراهيم، الحزبي العلالي، وابن غبريط أو ابن غرنيط، رئيس حكومة الغزو والاحتلال سنة 1912.. إنه تدكير وتقتيل وإبادة بوحشية شاذة وواحدة». ثم يستطرد أمزيان في المذكرات نفسِها: «وليس التدمير دليلا على الشجاعة وليس تخريب منازل الأمنيين دليلا على أننا مُتمرّدون عليهم، لأنّ ما فعلوه هو الذي فعله الاستعمار، ولا تزال تفعله قوات الاحتلال، فحارَبْنا الاستعمار وقاومنا الاحتلال، وسنحارب الحزبية العلالية وسنقاوم الاستبداد الحزبيّ الخياني، وهذا قدَرنا، بالسلاح والقلم وبالأسنان ولا نستسلم.. تحرّكنا لأنهم تحدّثوا عن تمرُّدِنا وعصياننا، وكان عليهم أن يتحدّثوا عن غضبتنا في وجه الظلم وتمرّدنا على الخيانة وثورتنا على الوجود الأجنبي وعصياننا على التخاذل.. وبين هذا وذاك، شفقتنا عليهم وهم ينبطحون تحت أقدام الأعداء التقليديين».. في السياق نفسه، أي في سياق التجاوُزات التي ارتكبها الجيش المغربي إبانذاك، يروي علي فهمي أنه «كانت هناك ممارسات عنيفة جدا لأفراد الجيش، لكنْ يجب ألا ننسى أنّ القوات المسلحة آنذاك كان أكثرُ جنودها ممّن عملوا مع الجيش الإسباني أو الجيش الفرنسي، هؤلاء لم يكونوا إنسانيين.. في حين كانت هناك مجموعة من الشباب خريجي ما بعد الاستقلال، ضباط وضباط صف، كانت تصرفات هؤلاء تختلف كثيرا عن تصرفات النوع الأول، فعلى سبيل المثال تعرّض منزل خالٍ لي، رحمه الله، للإحراق نهائيا، فكان الضباط الشباب هم الذين تركوا لخالي الفرصة ليهرب دون القبض عليه.. إنني لا أتصور أنّ الجيش المغربي الحقيقي، لا المُفبرَك، يصل به الأمر إلى حد قتل المواشي وإحراق محاصيل الحبوب، في مواجهة أناس عزّل.. فلم تكن هناك سوى بضع بنادق قديمة تعود إلى عهد بن عبد الكريم الخطابي، وبعض القنابل التقليدية من صنع يدويّ، ويُستعمَل ضدهم الطيران والإحراق.. وانتهى الأمر إلى الإحراق الجماعي.. حيث إنّ تسعين في المائة من ساكنة آيثت ورياغل تم اعتقالهم وإيداعهم السجون وتعريضهم لأبشع أنواع التعذيب».. ربما كانت السلطات المركزية تفكر في الخطابي أكثرَ مما تفكر في أحداث الريف، فقد أصبحت لديها الخبرة في إخماد جمرة الثورات، كما حدث مع انتفاضة عدو أوبيهي، ولذلك كانت تريد أن تبعث رسالة واضحة وغيرَ قابلة للنقاش: إنّ الخطابي انتهى «وأصبح شيخا»، كما وصفه الوطنيون يوما.. لكنّ هذه الرسائل جاءت قوية، وعلى هذا الأساس يكتب محمد سلام أمزيان في مذكراته المهمة: معارضة حزب الاستقلال والتآمر على الحكومة وتأييد عبد الكريم في العمل على إجلاء القوات الأجنبية والتآمر ضد العرش... وذكر اسم عبد الكريم يعني مسّ الذات المقدسة، ذات الجلالة الملكية، وذكره باللقب الذي منحه إياه الأحرار واعترف العالم كله، وهو لقب الأمير خيانة عظمى.. يقول أمزيان: إن العقوبة المترتبة عن هذه التهمة هي زنزانة مخصصة للتعذيب، ولا يكون جماعيا إلا في بعض الحالات الاستثنائية عندما كانوا يريدون الإهانة، فيجمعون بين الأب والابن والأستاذ والتلميذ.. في الزنزانة برميل مليء بسائل القاذورات والملح والكبريت والنفط والنمل والنحل والفئران والصّراصير والشَّعر وأعقاب السجائر.. في هذا البرميل يُغطس رأس الضحية وهو معلق بالحبل المتدلي من السقف.. كانت الرسائل التي أراد المركز أن يبلغها إلى «ريفيي الهامش» قوية في محتواها، وأرسِلت الطائرات والدبابات في مشهد يُذكّر بقوات الاستعمار لإبلاغها للسكان. يحكي محمد أمزيان عن والده قائلا: «سبق للوالد أن حدّثني عن التجاوزات التي حدثت، وخاصة أثناء دخول القوات النظامية للمداشر. فقد حدثت اغتصابات للنساء واختطاف بعضهنّ، إذ يذكر الناس حتى الوقت الراهن أسَرا بعينها اختُطِفت منها نساؤها ولم يظهر لهنّ أثر حتى الآن، وقيل إنّ بعضهنّ أصبحن زوجات لأفراد من قوات الجيش.. كما سيق الناس إلى المعتقلات، وتم تعذيب المئات من الناس أثناء عمليات الاستنطاق ومصادرة الممتلكات ونهبها أو تركها نهبا للآخرين، دون نسيان عمليات الانتقام التي ظهرت هنا وهناك بعد قمع الانتفاضة».. بعد الأحداث توالت الاختطافات والاعتقالات وزُجّ بمئات الريفيين في السجون، واختفلت طرائق التعذيب والتهمة دائما التآمر على العرش والانتماء إلى فكر عبد الكريم.. يعدد محمد سلام أمزيان طرق التعذيب ويقول: «تعليق من اللحية، من الأعضاء التناسلية أو من إحدى الرجلين لأيام وأسابيع.. ولا يُسمح إلا بخمس دقائق في اليوم لتناول وجبة مفضلة يختارونها له وإرغام الابن على فعل الفاحشة بوالده، والعكس.. وهذا ما حدث في مركز منزل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في أجدير، ولكن الضحيتين صمّما على رفض التنفيذ حتى الموت، وهما القائد علوش حمو الخطابي وابنه الأستاذ علي.. إرغام الضحية على الجلوس فوق زجاجة الويسكي، الذي يتناولونه أثناء التعذي، ولمدة أسابيغ وأيام، حسب مزاجهم الحزبي.. ربط المعذب بسلك في عنقه ويداه مغلولتان وتركه حتى الموت جوعاً، واستعمال الكهرباء في الأعضاء التناسلية أو قلع الأظافر أو حرق الجفون بالسجائر أو ضرب مسمار أو أكثر في اللسان.. وإرغام الضحية على فتح فمه»!.. التاريخ يعلمنا أننا لا نتعلم التاريخ.. قديما، قال الفيلسوف الألماني هيغل، في كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح»، إنّ التاريخ يعلمنا في بعض الأحيان أننا لا نتعلم التاريخ.. لقد كان الغرض من هذا الملفّ هو تقليب صفحات من المغرب الحديث وبعض «حوادث السير» المؤلمة في سبيل بناء دولة المؤسسات. إنّ أحداث الريف كانت بداية لصراع بين القرية والبادية «بين علال الفاسي وعبد الكريم الريفي»، على حدذ تعبير المؤرخ المغربي عبد الله العروي، وهو الصراع ذاته الذي سيتبلور في ما بعد ليتخذ صيغا جديدة «صراع المركز مع الهامش، والمغرب النافع ضد المغرب غير النافع»، وبالتالي فإنّ انتفاضة الريف كانت بمثابة جرس إنذار فحواه أنّ الانشغال بالصراع حول السلطة واقتسام الثروة بين فئات قليلة قد يؤدي إلى نهاية الوطن.. وكان ذلك هو «درس» ثورة 1958-1959.
سرد ل«المساء» كيف تدخل بمعية الخطيب وأحرضان لدى محمد الخامس وأوفقير للسماح بدفن أعضاء جيش التحرير في كزناية حدو أبرقاش: هكذا اندلعت انتفاضة 1958-1959 بالنسبة إلى ثورة سنتي 1958-1959 لم يكن لديها وقت مُحدَّد، وأسبابها الرئيسية هي نقل رفات المجاهدين إلى كزناية، في تلك المرحلة كانت أحزاب الحركة الوطنية تريد بسط سيطرتها على المشهد السياسي المغربي، فمن حهة هناك حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، التي أتت إلى الرّيف، وكان حزب الاستقلال يتوفر على القوة على اعتبار أنه كان يُدير وزارة الداخلية في حكومة عبد الله إبراهيم وكذا وزارات الدفاع والعدل والمالية.. بصفة عامة، كان يتحكم في القطاعات الحيوية، وربما كان يفكر في تغيير المغرب رأسا على عقب.. قبل هذه الانتفاضة، اغتال حزب الاستقلال كلا من عباس لمساعدي وحدو أقشيش.. «وتكرْفسو» على الأخير، وقادوه إلى معتقل «جنان بريشة»، ما خلق حالة من التذمّر لدى سكان المنطقة. ومن أجل نقل رفات الشهداء إلى كزناية، راسلنا وزارة الداخلية بغاية منح ترخيص بذلك، وكتبنا رسائل إلى عائلات شهداء جيش التحرير للاستعداد للامر، لكنّ وزارة الداخلية، مع الأسف، لم تُجب ووصل موعد نقل رفات الشهداء دون أن نتلقى أيَّ جواب.. وفي 2 أكتوبر سنة 1958، بالضبط، ذهبنا إلى فاس، وكان الملك محمد الخامس في قصر مولاي عبد الله.. حاولنا رؤية الملك، واتصلنا بأوفقير، الذي كان مرافقا له، وقال إنه سيتصل به، لكنه لم يفعل، لأنّ الملك كان مشغولا.. انتظرنا أن يتصل بنا أوفقير، سألني الخطيب ما إذا كان قد اتصل، وأجبتُه بالنفي. في تلك اللحظة وصلتنا أخبارٌ تفيد أنه قد تم نقل رفات عباس المساعدي إلى أجدير من دون الحصول على ترخيص.. إثر ذلك ذهبنا -أنا والخطيب وبن عبد الله وأحرضان- إلى قصر مولاي عبد الله في فاس والتقينا مسعود الشيكر، وزير الداخلية، الذي بدا غاضبا، وقال: «علاشْ خليتوهومْ يْنقلو الرّفاتْ بْلا تْرخيصْ؟ واشْ ما كايْنْ قانونْ فهادْ لْبلادْ»؟!.. قلنا له: «دابا، أشْ كاينْ؟».. قال: «تْكلّمُو لسِيدَنا!» دخل الخطيب وسأله محمد الخامس: «سّي الخطيبْ، أشْ درْتو؟».. قاليهْ: «ما دْرْنا والو، هَا رسالة صيفطناها وما جاوبناشْ.. وهذه رفات شهداء الوطن ويقتدون بالملك.. قال الملك: «أشْ هادشّي أسّي مسعودْ؟ (وهو وزير الداخلية حينذاك) فأجابه بأنه أحال الرسالة على عبد السلام السلاوي، المسؤول عن قسم الاستعلامات، فردّ عليه محمد الخامس: «هذا لعْبْ».. سأل الشيكر الملك ما إذا كان سيعتقلنا، فقال له: «دعهم يذهبون».. وحينما وصلنا إلى كزناية وجدنا السكان قد انتهوا من دفن الرّفات.. بعد حين جاء المهدي الصقلي، أول عامل ملحق بالداخلية، بعدما كان عاملا في في فاس، وأرغى وأزبد وصرخ: «تْفرّقو وخْلّيو هادْ ربعة نقيّينْ».. وجاء محمد علال، أحد أعضاء جيش التحرير، وردّ على العامل: «هادو كولشي اللّي هْنا نقيّين إلا هو!».. ولمّا سأل العامل عمن قال ذلك الكلام أجابه: «أنا، محمد علال».. وما إن مرّت دقائق حتى سمعنا أنه تم اعتقاله.. «وناضتْ القيامة: في رمشة عين لم تبق طوبة في تلك الإدارة.. وكان هناك قائد أشهر مُسدَّسا قبل أن يُشبعوه عصا.. وقطع السكان الطريق بالحجارة.. إثر ذلك ركبنا -أنا وأحرضان والخطيب وبنعبد الله- السيارة، وأثناء مرورنا بتاونات شاهدنا شاحنات الجيش مُتّجهة صوب كزناية.. لكنّ آلاف المواطنين الذين كانوا مجتمعين في كزناية ذهبوا في اتجاه بني حذيفة، التابعة لإقليم الحسيمة، ودمّروا مقرّ حزب الاستقلال، قبل أن ينفذوا اعتصاما في جبل حمام بدون سلاح، باستثناء بندقية واحدة كانت لدى عمار نعلّوشْ، استقرت في ما بعدُ عند عبد الله التهامي وقتل بها الجنديين اللذين كانا، بدورهما، قد قَتَلا بها بعض المواطنين.. ثم اجتمعوا في تماسينت وآيتْ بوخلف.. يجب أن نعرف أنّ مسؤولي حزب الاستقلال محليا كانوا يستفزّون السكان ويبتزّونهم، ممّا خلّف حالة من التذمّر، وما غذى هذا التذمر هو اعتراضُ طريق السكان الذين جاؤوا إلى آيتْ ورياغل ونفذوا اعتصامات فيها... بيد أنّ جهات بعينها أبلغت نداء إلى السلطات المركزية أنّ الثوار سيتوصلون بالسلاح ولن يتوقفوا إلا عند باب القصر في الرباط.. تصورْ أنه في سوق بني حذيفة وحده سقط ثمانين مواطنا بسلاح الجيش، ولمّا نفَد سلاحُهم ذهبوا.. أول كاتب عام للحركة الشعبية
هي ثورة لا انتفاضة هي انتفاضة شعبية معادية للاحتلال الشعبي ولحلفائه الحزبيين. تحولت إلى ثورة شعبية ضد قوات الاحتلال والحزبية الحاكمة لصالح هذا الاحتلال الأجنبي. انتفاضة وثورة نظمها وقادها مؤمنون بالعمل الوطني الميداني، وليس الحزبي العائلي، وليس بالالتماسات والمنشورات، فتلك «عملة الأجنبي» تكرم بها الحزبية المغربية، ونحن نرفض التعامل بها لأنها زائفة.. أيها الحزبيون العلاليون نحن لم نحرّض الجماهير على الحكومة الوطنية، وإنما حذرنا الشعب من الحكومة الحزبية خادمة الوجود الأجنبي. فنحن ثوريون والثوار لا يكونون مُحرّضين وإنما مرشدون، وقياد ومقاتلين وفدائيين في ساحة الواجب الوطني، وإذ اتهمتمونا بالعمل للقاهرة، فهذه القاهرة هي التي فرضتكم علينا، بعد أن خالفتكم باريس، ولا علاقة لنا بالقاهرة ولا باريس، ولو أننا كنا نريد أن تكون القاهرة مع الحقّ الوطني ضد الباطل الحزبي الاستعماري الأجنبي، لأنّ المغرب قطرٌ عربي لم يُسئ إلى القاهرة، التي ترفع اليوم شعارات يبدو أنها سراب يحبّه الظمآن حتى إذا جاءه لم يجد شيئا. وقد يجد علال الفاسي في شكل آخر من أشكال الأحزاب المُتراكضة في منطقتنا العربية، المصابة بوباء الخيانة وطاعون الغدر وسوق النفاق الرّائج تماما.. وكان على كل مواطن أن يعمل شيئا لتحرير نفسه ووطنه ولكنهم استسلموا للنظام المتسلط بحِراب القوات الأجنبية وسلاح الأعداء وتخطيط الحاقدين، استسلموا للذين أرادوا أن يفرضوا أنفسَهم على أنهم المُحرّرون الاستقلاليون وأنهم الوطنيون وأنهم كل شيء، وما سواهم رعايا وقطيع.. وهذا ما رفضناه وقاومنا من أجل الاستقلال الحقيقيّ، وما كنا نَخدع ولا نُخادع، لأننا لسنا من فصيلة المُخادعين ولا من عشيرة المُفسدين ولا من حزبية البائسين خدّام القوى المعادية.. هي حركة ثورية هادفة بغاية العمل لطرد المُستعمِر وتطهير الوطن من الخوَنَة والعملاء، قامت يوم الثلاثاء 23 ربيع الأول عام 1378، موافق 07-10-1958 في منطقة بني ورياغل، ثم انضمّت إليها مناطق أخرى في المغرب الشمال، ثم أحرار المغرب لا عميد الحزبية. وانتهت يوم الجمعة، 3 رمضان 1378، موافق 13-03-1959، فمن قام بها؟ قام بها رجال وزملاء وإخوان وأحفاد وتلامذة الأمير عبد الكريم الخطابي في بني ورياغل، مسقط رأسه ومقرّ قيادة عملية حربه التحريرية التي قادها في العشرينيات، هؤلاء هم مسؤولو هذه الحركة الثورية، وكان لي شرف رياستها برغبة المُجاهدين رغم الاعتراض والإصرار على أنْ أكون جنديا في الميدان، وكأنّهم صمّموا على تكليفي بتنظيمها وأنا لا أزال أعاني الظلام في المعتقل الحزبيّ الذي قضيت فيه سنتين، وما مضى على عودتي إلا أسبوع فتحمّلتها مسؤولية، فيها كثيرا من نكران الذات والكثير والتضحيات بالمال والنفس والأهل.. وقد تحملت ذلك وأنا مسرور لأنه الواجب المُقدَّس، وكان من بين أهمّ المطالب التي طالبنا بها في البداية هي: -جلاء القوات الأجنبية عن الوطن دون قيد ولا شرط، لأنّ وجودها مُنافٍ للاستقلال والحرية المنشودان؛ -عودة الأمير الخطابي وأسرته إلى وطنه الذي ضحّى بسبيله؛ -حلّ الأحزاب السياسية والعمل على إنشاء اتحاد وطني؛ -وجوب إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمختطفين؛ -إسقاط الحكومة الحالية واستبدالها بحكومة شعبية يتوفر فيها التمثيل الصحيح (...) لقد قال السلطان عن زعماء هذه الحركة إنهم مُتمرّدون عصاة خارجون على الطاعة، ومن هنا فدماؤهم هدرٌ بفتوى العلماء والشيوخ الدينيين، وعلال الفاسي قال عنهم إنهم خونة وعملاء استعمار وضد الاستقلال والحرية..
الخطابي: الثورة تريد القضاء على النظام المُتعفّن الذي مسخ التاريخ والوجود.. «أمّا في المغرب فقد اندلعت الآن، مرة أخرى، ثورة شعبية بزعامة القائد محمد أمزيان، ليست ضدّ الاستعمار فحسب، بل ضدّ عملائه أيضا في الدرجة الأولى، وأهداف الثورة الحاضرة التي ستؤدي أغراضها، بإذن الله، أن نالت التأييد من قادة الحرية والقومية العربية هي: في الميدان الخارجي 1 - جلاء القوات الأجنبية عن القطر المغربي جلاء تاما وناجزا؛ 2 - إعادة تطبيق الإستراتيجية التحريرية بفتح جبهة القتال ضد قوات الاحتلال في المغرب، إلى جوار الجزائر في سبيل تحرير تونسوالجزائر؛ 3 - إعادة القطر المغربيّ إلى دائرة قوميته العربية الحُرّة بأسرع ما يمكن وبكل الوسائل الصّريحة المباشرة. في الميدان الداخلي: 1 - القضاء على النظام المُتعفّن الذي مسخ التاريخ والوجود؛ 2 - القضاء على الاستبداد الداخلي والعملاء الاستعماريين؛ 3 - التخلص من كل الآثار العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية، التي مكّنَ لها الاستعمار الفرنسي -الإسباني، والتي لا تزال حكومة المغرب -الملكية الحزبية- تحافظ عليها وترعاها وتؤكد وجودها وتدعمه؛ 4 - تحقيق إرادة المواطنين ورغباتهم في تسييد العدل والأمن والمساواة والتعاون وتكافؤ الفرص بالقضاء على التّفرقة الحزبية والسياسية الإقليمية والعنصرية بينهم. رسالة من الخطابي للرئيس المصري جمال عبد الناصر