هل يتفوق الهوس بما هو متخيل على الواقعي، ولمَِ نتأثر بالشخصيات الروائية "المتخيلة" أكثر من تأثرنا برؤية المدنيين يتساقطون بالأعيرة النارية؟ وهل ستنقرض الكتب جراء التكنولوجيا الرقمية وظهور الحواسيب اللوحية التي تتيح إمكانيات وآفاقا جد واسعة؟ وما الذي يفقده الأشخاص عندما يعتزلون القراءة؟...أسئلة ضمن أخرى يرد عليها أمبرتو إيكو، الأديب والمفكر الإيطالي، في حوار خص به مجلة "لوبوان" الفرنسية بمناسبة نشر كتابه الجديد "اعترافات روائي شاب".
- كتابك الجديد يحمل عنوان «اعترافات روائي شاب». هل يُفهم من ذلك بأنك تحس، وأنت في ال81 عاما، بأنك مازلت في بدايات مشوارك؟ بالنسبة لكتاب «اعترافات روائي شاب»، يتعلق الأمر بجمع المحاضرات التي ألقيتها بجامعة إيموري بأتلانتا سنة 2008. كنت أبلغ من العمر حينها 76 سنة. لكن أول رواية كتبتها صدرت مع قرب نهاية 1980، واعتبرت نفسي روائيا شابا يبلغ من العمر 28 سنة. تلك هي الدعابة. الأمر شبيه ب «صورة الفنان بصفته شابا»، كما قال جيمس جويس. - يمنح الكتاب رؤية جديدة عن الأدب، ونجد بين طيات صفحاته السؤال التالي: لماذا يؤثر فينا، على نحو حميمي، موت شخصية متخيلة كآنا كارنينا، أكثر من رؤيتنا للمدنيين يتعرضون للقصف من خلال البرامج الإخبارية التلفزيونية؟ لأن المعلومات تأتي وتمضي في بضع ثوان، ونميل في الغالب إلى صدها، في حين تتطلب عملية قراءة رواية سيرورة متأنية من «الاستعراف»، الأمر الذي يجعلنا نحيى نفس الأحاسيس التي يمر منها البطل أو البطلة. ولدى رؤيتنا، أو بالأحرى تخيلنا، قيامهم بإنجاز هذا الفعل أو ذاك، ننشط ما يطلق عليه علماء الدماغ «الخلايا العصبية العاكسة». - لكن هل مازال هذا الأمر صحيحا حتى اليوم؟ فشخصية آنا كارنينا لا تظهر أكثر إثارة للاهتمام من أخلاق دومينيك سترواس-كان أو براعة اللاعب زلاتان إبراهيموفيتش. ألا يمكن القول إن الهوس بما هو واقعي تفوق على ما هو متخيل؟ لا أبدا. من الممكن إبداء شيء من التعاطف تجاه التقلبات التي يواجهها السيد ستراوس-كان، لكن ذلك لا يعني بأننا سنصبح مهووسين به، في حين نحن مهووسون بآنا كارنينا. ويمكننا القول: «يا له من مسكين، بسبب لحظة ضعف واحدة لن يكون بوسعه أبدا أن يصبح رئيسا للجمهورية (الفرنسية)»، لكن ذلك لا يعني بتاتا بأننا نوافق على دوافعه العاطفية، ورغباته، وآلامه، في حين إذا قرأنا «آنا كارنينا» نصبح آنا كارنينا. من المجدي نفعا تذكر الفتيات الألمانيات اللواتي أقدمن على الانتحار بعد قراءة «آلام الشاب فيرتر» لغوتة... لكن في المؤلف الذي أصدرته شكل السؤال المطروح حول «الدوافع التي تجعلنا نذرف الدموع على الشخصيات الروائية رغم إدراكنا بأنها متخيلة؟» الفرصة المواتية لطرح تساؤل داخلي حول الوضعية الوجودية للشخصيات الروائية، وحول «حقيقتها». وقد وصلت إلى خلاصة بأننا، في عالم الخيال، نمتلك الحقائق (إنه لأمر حقيقي إقدام آنا كارنينا على الانتحار) التي نفتقدها في الحياة الحقيقية (يظل من الوارد ببساطة موت نابليون بونابرت يوم 5 ماي 1821، في حين قد تظهر بعض الوثائق تستطيع أن تثبت لنا بعد كل شيء بأنه لم يفارق الحياة في ذلك اليوم). إن الحقيقة المطلقة هي الحقيقة الروائية: قد يدخل البابا والدلاي-لاما في نقاش جد طويل لمعرفة إن كان المسيح في الحقيقة ابن الله، لكن كلا الرجلين ينبغي عليهما الاتفاق على أن شخصية «سوبرمان» هو كلارك كينت، وسيظل الأمر كذلك إلى الأبد. - «الكتاب شيء مثالي» ولن يختفي وسط العالم الرقمي، هذا ما أكدته في حوار مع مجلة «لوبوان» سنة 2009. بعد مرور أربع سنوات، وفي ظل كفاح عدة مكتبات من أجل عدم إغلاق أبوابها، هل مازال لديك نفس التفاؤل القوي؟ مع مرور الوقت، قلما نجد السمك الطري، ونضطر إلى اقتناء السمك المعلب من الأسواق التجارية. هل يعني ذلك بأننا أضحينا نفضل السمك المعلب على السمك الطري؟ لا نستطيع أبدا الإنكار بأن العديد من المكتبات تغلق أبوابها (لكن بسبب نفس الأزمة أغلقت عدد من محلات الجزارة أبوابها كذلك)، ومع ذلك تباع كتب كثيرة على الإنترنت. وعندما كتبت رفقة جون كلود كاريير «لا تحلموا أبدا بالتخلص من الكتب»، كنت أدرك بأنه يسهل كثيرا نقل معجم من الحجم الكبير على كمبيوتر لوحي بدل تحمل عناء حمل شيء ثقيل جدا. لكن ذلك لا يرتبط في شيء بالشغف الذي يحققه كتاب مطبوع على الورق. هل عثرت يوما على بعض الكتب داخل مكان ما في بيتك تعود إلى زمن طفولتك، ووجدت على صفحاتها بقع المربى التي تركتها عليها أو الخطوط التي سطرتها؟. هل تحس بنفس الشغف ونفس المشاعر عندما تعثر على قرص مرن أو جهاز لتخزين المعلومات الالكترونية ينتمي إلى زمن ماضي؟ فضلا عن ذلك، ما الذي سيضمن عدم تعرض ذلك الحامل الرقمي للتلف مع مرور السنوات؟ لقد سمعت مؤخرا عن «هاكر» أمريكي لم يقرأ في حياته أي كتاب، لكن مع وصول الكمبيوتر اللوحي، قام في نهاية المطاف بقراءة سيرفانتيس. هذا الأمر جيد بالنسبة له، لكنني مؤخرا أديت مبلغا ماليا ضخما مقابل الحصول على نسخة تعود إلى القرن ال19 لرواية «الفرسان الثلاثة» لألكسندر دوما، تحمل رسومات لولوار، وكم كان ممتعا تصفح الرواية. أتعلم، هناك كذلك أشخاص لا يحبون الكافيار بعد كل شيء... - قال الفيلسوف ميشيل سيريس، مفسرا وجهة نظره، إن إنشاء المكتبة الوطنية لفرنسا في اللحظة التي تم فيها اختراع الإنترنت كان أمرا غير ذي مغزى لأن كل شخص بيننا، بفضل الحاسوب اللوحي، يحمل الآن معه مكتبته. «وقريبا، لن تبقى هناك سوى القردة داخل المكتبة الكبرى». كما توقع الفيلسوف مآل هذا الخراب الخالي من الناس. أنت الذي جعلتنا نحلم بالمكتبة المتاهة في رواية «اسم الوردة»، ماذا تقول عن هذا الكلام؟ أقول إني أعتبر سيريس أحد أكثر الأشخاص الذين أعرفهم ذكاء، لكن كما يقال «أحيانا حتى هومر يغفو». هل قال صديقي ميشيل فعلا هذا الأمر؟ أنا جد متأكد أنه يحب التجول بين رفوف مكتبة عتيقة. وأنا كذلك بالمثل، لكن ذلك لا يمنعني من تحميل الكتب على الحاسوب اللوحي إذا كنت سأسافر أسبوعين أو ثلاثة، بدل وضع نفس الكتب في حقيبتي. - توضح الدراسات العلمية بأننا نقرأ اليوم بوتيرة أكبر بفضل شاشات الحواسيب، لكن نفس الدراسات تتفق على أن أعراض إيجاد الأشخاص صعوبة في التركيز أصبحت في تزايد... خلال السبعينيات، ألفت منهجا لمساعدة الطلبة على إنجاز أطروحاتهم، وقد تمت ترجمة ذاك المنهج إلى عدة لغات. وخلال تلك الفترة، لم تكن هناك أي حواسيب، وكان يتعين تدوين كل شيء وإمضاء الكثير من الوقت داخل المكتبات بدل الضغط على زر وإيجاد كل شيء (نعم كل شيء) على الشبكة العنكبوتية. ومؤخرا طلب مني معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الإذن بنشر كتابي باللغة الإنجليزية. وعندما تساءلت عن الحالة العقلية لهؤلاء الأشخاص (ما الداعي لبيع منهج مضى عليه الكثير من الوقت؟) ردوا علي بالقول بأنه في ظل وجود الشبكة العنكبوتية أصبح الطلبة يستخرجون المعلومات، ويعمدون إلى نسخها، وهو ما جعلهم غير قادرين على إنجاز بحث حقيقي. إنهم يسعون إلى اقتراح هذا الكتاب كترياق... هل تتذكر حكاية «فايدرا» لأفلاطون (وقعت في حب ابن زوجها)؟ يحكي خلالها أفلاطون كيف تم اختراع الكتابة بمصر من قبل الإله «تحوت»، وبأن الفرعون ألقى اللوم عليه بسبب قيامه باختراع أداة ستشجع الرجال على فقدان ذاكرتهم... لكن، بفضل الكتابة، حصلنا على «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، الكتاب-الذاكرة بامتياز... حسب اعتقادي، لن تكف الأجيال القادمة عن استخدام وسائل الاتصال الحديثة، لكنها لن تتخلى مهما كان عن الوسائل العتيقة. - أنت تشكل التجسيد عينه للرجل الصادق المنتمي إلى فترة النهضة، ولك معرفة واسعة، سواء تعلق الأمر بتوماس داكين أو سنوبي، وتستطيع الحديث بطلاقة سواء عن هومير أو سيسيولينا (ممثلة إباحية إيطالية أصبحت نائبة برلمانية)... ألا يمكن القول بأن الأشخاص من مثل هذه العينة أصبحوا يختفون؟ أنا لست رجلا صادقا إذا كانت سيسيولينا ستحرك مشاعري. أما عن اختفاء الأشخاص من نفس عينتي، فالجواب هو بالنفي. لدي الكثير من الأصدقاء مثلي، وكثير من الطلبة الذين أدرسهم لهم هذه الملامح. يتعلق الأمر ببساطة باختيار الأشخاص الذين نتحاور معهم. - ما الذي جلبته لك، على نحو شخصي وحميمي، الثقافة التي كونتها طيلة حياتك؟ أكرر دائما القول بأن الشخص الذي عاش دون قراءة كتاب واحد سيموت مستحضرا القليل من الأحداث ذات الأهمية الحقيقية، كما لو أنه عاش حياة ملؤها الكآبة، وقصيرة للغاية. في حين سأتخلى عن حياتي من أجل عيش واقعة اغتيال يوليوس قيصر، أو معركة واترلو، أو زيارة دانتي للجحيم، أو حرب الثلاثين سنة، وكذلك مغامرات بيساسين. وسأحظى جراء ذلك بحياة جد طويلة وجد غنية... - لا أدري إن كان جحيم دانتي أو بيساسين هو ما يدفعني إلى التفكير في الأمر، لكن ما الذي تستلهمه من الانتخابات التشريعية بإيطاليا، التي طبعها نجاح بيبي غريلو، الفكاهي السابق، وسيلفيو برلسكوني، العائد الدائم من الموت؟ يتعلق الأمر بظاهرتين مختلفتين، فبرلسكوني هو «ليلة الأحياء-الموتى»، الكابوس الذي يعود من الموت، والذي أذنب في الحصول على أصوات الأشخاص المتقدمين في السن الذين لا يقرؤون الصحف، ويكتفون فقط بمشاهدة قنواته التلفزيونية. أما غريلو، فقد نجح، بطريقة مسرحية بكل تأكيد، في دفع فئة الشباب إلى الثورة على طبقة سياسية كان مصيرها الإفلاس. لا نعلم بعدُ ما الذي سينتج عن هذه الطبقة السياسية الجديدة، وأنا لست نوستراداموس (مُنجم)، لكن في كل الأحوال يتعلق الأمر بظاهرة ينبغي التعاطي معها على محمل الجد. - «من الذي يستطيع إنقاذ إيطاليا؟»، كما جاء في عنوان نشرته مؤخرا مجلة «ذي إيكونوميست». هل لديك أية مقترحات؟ مازال هناك 50 في المائة من الإيطاليين العقلانيين. كما أنكم أنفسكم، بفرنسا، كنتم على وشك رؤية تحقيق لوبن للانتصار، لكنكم كنتم قادرين على أخذ رد الفعل. سنرى. هل لديك أية نصيحة تسديها لنا لمواجهة هذه الحقبة؟ حسب اعتقادي، ينبغي إعمال مقولة غرامشي، التي تقول: «تشاؤم العقل.. تفاؤل الإرادة». * عن مجلة «لوبوان» الفرنسية.
«اعترافات روائي شاب» أو مقومات العمل الأدبي
كتب أمبرتو إيكو روايته الأولى «اسم الوردة» سنة 1980. كانت تلك هي أول رواية بين رواياته الخمس، وقد حققت نجاحا منقطع النظير. وقد أصبحت «اسم الوردة» جد شعبية إلى درجة أن بعض النقاد اتهموا إيكو، بصفته أستاذا للسيميائيات، بالقيام ببرمجة حاسوب بتوليفة سرية لتأليف رواية ناجحة. وبطبيعة الحال، أثارت تلك الانتقادات حفيظة إيكو، الذي قام بالرد من خلال مجموعة من المقترحات السطحية المتهكمة التي سحقت بشكل كبير منتقديه. قد لا تكون هناك أي توليفة أو وصفة سحرية، لكن هناك مجموعة من المكونات الكامنة وراء الرواية الناجحة، والآن، بعد مرور عدة عقود، قرر إيكو أن يكشف لنا عن تلك المكونات. رواية «اسم الوردة» تبدأ بذكر لائحة بأسماء الراهبين. والمعروف عن إيكو أنه يولي اهتماما كبيرا باللوائح والابتهالات، وبأنه شخص عملي ومحب للجمال في الآن ذاته. تلك هي مكونات «البيغ بونغ»، الحساء الكوني الذي ينبثق منه عالم رواياته وخرائطه العملية. «تاريخ الأدب مليء بالمراكمة المفرطة للأشياء» يكتب إيكو. وبناء على فيض فرنسوا رابليه يوزع إيكو المشاهد والمدن، والخرائط والطرق، ويضع الشخصيات بداخل تلك الفضاءات. الشخوص تقوم برسم الحبكة الروائية، وقيادة دفة مسار حيواتها والأخذ والرد ضمن تلك المسارات. أما بخصوص الشخصيات؛ فإيكو جد متأثر بالدرجة التي تتمكن من خلالها الشخصيات المتخيلة من أن تتحول إلى واقعية، وقدرتها على أن تحيى خارج النطاق الذي توضع ضمنه وخارج أغلفة كتبه. لماذا تؤثر فينا، كقراء، الشخصيات الروائية؟ وكيف يتم ذلك؟ جواب إيكو كالتالي: لا يتعين على القراء فحسب التعرف إلى الشخصيات، بل كذلك إلى العالم الذي تحيى وسطه، وامتداد ذلك العالم، وفضائها الكوني. وإذا لم يقم المؤلف بخلق فضاء جدير بالثقة، فالقارئ لن يقوم أبدا بإبطال شكوكه. المكون الثالث هو «الصورة المخصبة» المكتنفة بالأسرار التي تحرك كل غزوات إيكو على الخيال. تتكشف «الصورة المخصبة» للكاتب خلال فترة «الحمل الأدبي». وفي حالة «اسم الوردة»، يتعلق الأمر بذاكرة من زمن الطفولة عندما زار إيكو ديرا للرهبان. وجد إيكو نفسه آنذاك داخل مكتبة أمام الموسوعة الدينية التي تؤرخ لحياة المسيح. «متصفحا ذاك المجلد الضخم في صمت عميق، بينما كانت تخترق بضعة أشعة من الضوء النافذة من الزجاج الملون، لا بد من أني أحسست بشيء شبيه بالارتعاش. وبعد مرور أكثر من أربعين سنة، انبثقت تلك الرعشة من اللاشعور»، يكتب إيكو. كما يحدد زخما مماثلا قي قلب كل واحدة من رواياته. المكون الرابع؛ بعد الخريطة واللائحة والصورة البذرة الأصلية، لا بد من وجود القيود، كاختيار مرحلة تاريخية معينة على سبيل المثال. ويقر إيكو بأنه، بما أنه كتب أطروحته حول استيطيقا العصور الوسطى، فلم يكن في حاجة إلى إجراء بحث معمق لكتابة «اسم الوردة». وفي المقام الأخير هناك مشكلة القارئ. يصف إيكو القارئ النموذجي (مقارنة بالقارئ التجريبي) في صفحات الكتاب الجديد. وفي الواقع، نرغب جميعا في أن نكون قراء نموذجيين، وبهذه الطريقة نمنح المؤلف، عن طيب خاطر، إمكانية التحكم بنا. وكلما زادت درجة ذكاء التحكم، تحسنت العلاقة وتجربة قراءة الكتاب. يترجم هذا الأمر، بشكل فوري، في مبيعات أكبر للنسخ. و»سكرة الخلود» الحقيقية، وامتلاء الأسماء والأشياء والدراهم والصفحات التي تبهرنا، وتأسرنا وتدمر قيود الرواية القديمة الضعيفة.