مع انطلاق ثورات الربيع العربي، اتخذت النخب العربية بكل ألوانها مواقع دفاعية ضد هذه الثورات ناعتة إياها بثورات الجياع أو بثورات شباب غير ناضجين فكريا وسياسيا، ورافضة نعتها باسم الثورة في إصرار على أنها مجرد حراك اجتماعي حماسي غير مؤسس وليست له رؤية ولا برنامج ولا زعامة. والحقيقة أن الطابوهات الفكرية التي تؤمن بها قد عششت في عقولها حتى أصبحت لا ترى العالم سويا إلا بتطبيقها والسير في طريقها. فرق بين الثورة عندما تقوم بها النخبة، سواء كانت فكرية أو سياسية أو عسكرية أو دينية، وبين الثورة عندما تنبثق من الشعب. الأولى تتحول إلى سلطة استبدادية تحكمها عوامل تأطير التنظيمات القطرية. مثلت هذه الحالة ثوراتُ الجيوش العربية والضباط الأحرار ضد الأنظمة الملكية العربية الموالية للمستعمر وحركات الإسلام السياسي التي سفكت الدماء وجعلته مباحا ضد جميع المعارضين، بمن فيهم الشعب نفسه؛ أما الثانية فغالبا ما تكون تحررية من الظلم والاستبداد والطغيان. العنصر البارز فيها هو العصيان المدني، وهو أبرز تجلٍّ لقوة إرادة الشعوب، ولكن إذا مورست بشكل سلمي لا عنفي. خطيرة هي النخب على المجتمعات الهشة، إنها تقولب الحقائق وتفسرها بخلفيات مؤدلجة وتعطي الانطباع بخلوها من المغالطات والنقائص الذاتية. والمجتمعات تكون هشة عندما تنهكها الأنظمة الاستبدادية بسياساتها الشمولية ونهبها للثروات المالية والاقتصادية والطبيعية عن طريق أنظمة السلطة المركزية التي توزع المناصب على أصحاب النفوذ من الأسر والأعيان والعسكر ضمانا لاستمرار آليات النهب المؤسساتية. حصة الشعوب من هذه التوزيعة هي الفقر المستمر وتدني مستويات التعليم والصحة والسلم الاجتماعي. لقد أضعفت الأنظمة العربية السابقة على ثورات الربيع العربي جل النخب السياسية والثقافية والدينية المعارضة، بل أبادت الكثير منها عن طريق التصفيات الجسدية أو المؤسساتية، فقط التنظيمات السرية هي التي استطاعت البقاء عن طريق ممارسة التقية السياسية داخل الوطن أو عن طريق اللجوء السياسي خارج الوطن. وهنا فقط حركات الإسلام السياسي هي التي استطاعت الصمود والبقاء لطبيعة الترسانة المعرفية التي تؤطرها ولطبيعة الخطاب الديني الذي تؤمن به. كيف تريد، إذن، من تنظيمات سرية مغلقة وتؤمن بالعنف أن تؤطر مجتمعا يعيش فورانا تحرريا معاصرا أفرزته ثورة المعلومات والاتصال الحديث ويحمل قيما جديدة ترتكز على الانفتاح على الآخر والتحرر من القيود والأقفال، خصوصا الدينية. لقد استولت النخب الدينية العربية ممثلة في حركات الإسلام السياسية على ثورات الربيع الديمقراطي التي عرفتها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن طريق التحالف مع المؤسسة العسكرية وبإيعاز منها في حالة مصر وتونس أو مع النظام في حالة اليمن أو مع الميليشيات العسكرية في حالة سوريا وليبيا. ولكن الشعوب العربية واعية تمام الوعي بجميع الخطط والمؤامرات التي تطبخ هنا وهناك من أجل تمرير خطاب نخبوي غير خال من التضليل، كخرافة الانتقال الديمقراطي أو حماية الوطن أو الزعامة الحداثية أو تجنيب البلاد الانجراف نحو الحرب الأهلية أو استقرار السلطة. ما زالت أمام ثورات الربيع الديمقراطي أصنام عتيدة وجب تدميرها. لقد ثبت أن ما يسمى بالعالم الإسلامي غير مستعد لدخول عالم التحديث. بكل بساطة، بسبب ذلك الفكر الأسطوري الذي يمجد الماضي ويقف عنده بكل صلابة. إنه يجد استعدادا روحيا فظا للقتال وضرب الأعناق. هذا ما أنتجته المؤسسة الدينية في هذه البلدان التي بدأ شبابها يعشق الحرية ويناضل من أجلها لإيمانه بأنها العقد الاجتماعي الأساسي لبناء دولة الحق والقانون التي تحقق الازدهار والرقي الاجتماعيين. أيها الثوار الأحرار، المعركة ما زالت طويلة، فالعرب أنتجوا أصناما كثيرة وثقيلة للغاية وجب تحريرها. الحل هو التحرر.