المرسوم الأول : الإعلان الأول عن إمكانية موت الزعيم في أحد المؤتمرات العربية الخطابية، المنعقدة بعد إعدام صدام حسين، يظهر معمر القذافي وهو يمتطي منصة البوح موجها كلامه للقاعدة العرب: ” قد يأتي دوركم أيضا “، مختبئا وراء ضحكة ساخرة، تقابلها ابتسامة خائفة من طرف القادة، هل هي فلتة لا شعورية لقول لا أريد أن يأتي دوري؟ ألم يستجيب مكر التاريخ لحدس موت معمر القذافي؟ أم أن القذافي دون قصد كان يعلن عن موت الزعامات وانتهاء زمن هذه الأنظمة؟ لقد كان قول القذافي بمثابة مرسوم أول للإعلان عن مقتل الزعيم القذافي، ذلك أنه لم يتحدث بضمير المتكلم، لم يقل: “سيأتي دورنا أيضا”، بل استعمل ضمير المخاطب، ” قد يأتي دوركم “، مستثنيا نفسه، إما لأنه يعتبر نفسه ميتا، ويوجه خطابا إسكاتولوجيا للقادة الأحياء، أو لأنه يعتبر نفسه زعيما صمدا، ” ملك الملوك ” أحدا. لقد توحدت الزعامة مع الألوهية، وبدا الزعيم الإله يخاطب العباد من الزعماء. لذا قال القذافي في أحد خطبه إبان اندلاع الثورة، أنا لست رئيسا، فالرئيس يفر ( بنعلي ) أو يعتقل ( مبارك )، أو يقتل ( ؟ )، بل أنا الزعيم الخالد، الذي لا يعرف معنى الموت، لأنه صانع الموت، يقتل الثوار ويحيي الأتباع والمرتزقة. المرسوم الثاني: الإعلان الثاني عن إمكانية موت الزعامة بعد اندلاع الثورة التونسية، وانتصارها في قهر شوكة الزعيم، يظهر الزعيم القذافي، في تصريح تلفازي، يتأسف فيه على انتهاء زمن زين العابدين بنعلي، وينتقد الشعب التونسي على نفاذ صبره، وعدم انتظار نهاية ولاية الحاكم التونسي. وكأنه لا شعوريا يطلب من شعبه أن يصبر، ويدخل في لعبة انتظار أسطورية، مادام الزعيم الليبي زعيم خالد. لقد بدا الزعيم هذه المرة يرزح تحت وطأة ارتجاج عرش الخلود، مفصحا عن رعب دفين، لم يكن ضاحكا، بل حزينا، خافض العينين، وكأنه ينعى موته الخاص...لقد أعلن الزعيم عن إمكانية موت الزعامة، نقرأ في عينيه حيرة تقض مضجعه، وهو يتفرس في هرب زين العابدين بنعلي: كيف يمكن أن تستمر الزعامة بعد زوال الزعيم؟ وهل يمكن أن يستمر الزعيم حيا بعد موت الزعامة؟ لا خيار إذن فالزعامة هي الوجه الآخر للزعيم، من هنا نفهم التشبث المرضي للعقيد بالسلطة، لقد أجاب العقيد عن السؤال وأغلق المرحلة، لا يمكن أن يستمر الزعيم حيا بدون زعامة، وحده الموت يفصل بين الزعيم والزعامة، لذا اختار العقيد الرهان المستحيل: سأستمر الزعيم حتى لو اضطررت لقتل لا فقط الثوار بل الشعب قاطبة، فلأكن زعيم الموتى، لكن الثورة كذبت أوهام الزعيم، حينما انتصرت لحياة الثوار فقتلت الزعيم، لكي تدخل في قلق المرحلة وسؤال ما بعد الثورة، هل نجحت الثورة في قتل الزعامة القاتلة؟ المرسوم الثالث: مشهد حضور الزعيم موت الزعامة لم يقتل الزعيم في المعركة، لم يغدر بالزعيم، بل أمسك به حيا، لكي يشهد موت زعامته. ولأنه كان مهووسا بمسرحة الزعيم الذي كانه، ومسرحة الزعامة التي كان مغتصبها، فقد حظي موت معمر القذافي بمسرحة، لن تعرف بدايتها ولا نهايتها. لقد بقي حيا، لكي يشهد على موت زعامته، قبل موته كزعيم. فأن يمسك معمر القذافي حيا، يعني أن ينتقل من وضعية الزعيم الآمر إلى وضعية العبد المأمور، وأن يقتاد حيا يعني أن ينتقل من وضعية الزعيم إلى وضعية الأسير ولو للحيظات معدودة. وأن يضرب بالأيادي ويلطم بالأرجل يعني أن يتحول من الزعيم المبجل المعزز، إلى فرد عزل مهان. ثمة تجليات أخرى لعملية مسرحة موت القذافي، الذي حضر جنازته قبل موته، لقد جرد من لباس الزعامة ( اللباس العسكري )، وترك عاريا، متخنا بالدماء، مشوه الجسد، ملقى به كشيء أو كلاشيء داخل عربة. وداعا لجسد الزعيم المدجج بالأوسمة، والممسرح بملابس خاصة بالزعامة، التي كان القذافي يستمرء وضعها، لأنها تضفي هالة القداسة على حضوره، ها هو الآن جسد مدنس. لعل آخر مشهد في مسرحة موت الزعيم القذافي، هو غموض مقتله. فبعد أن شهد العالم بأسره موت الزعامة قبل موت الزعيم، ها هي الطلقة الرصاصة القاتلة تخترق الرأس والبطن، لا نعرف من وكيف ومتى ولما، ولكن نعلم أنها رصاصة الكل، الرصاصة التي كانت من الممكن أن تصدر عن كل محارب وثائر. إذا كان الزعيم القتيل معمر القذافي معلوم، والقاتل المتعدد مجهول، فإن الزعامة القتيلة معلومة، والقاتل الواحد معلوم: الشعب، الثورة. المرسوم الأخير: مات الزعيم، ماتت الزعامة! لقد كانت الأنظمة العربية سابقا، ترفع شعار: ” مات الزعيم، عاش الزعيم “. فرغم الثورات أو الانقلابات التي عرفتها هذه الأنظمة في الستينيات من القرن العشرين، فإنها لم تعمل سوى على تكريس هذا الشعار أكثر. لقد أصبح الزعيم الثائر أكثر قداسة وتأليها، وأكثر تشبثا بالزعامة، لم يعد الهدف هو تغيير النظام، بل تغيير الزعيم فقط، وتحويل منحى وتطلعات الشعب. لم يعد الغرض تداول السلطة، بل توارثها. هكذا أصبح الزعيم الثائر هو قاتل الثوار، وأصبح الضابط الحر هو قامع وعدو الأحرار. أحرق الزعيم خطاب الثورة، وعبد الطريق نحو نظم خطاب الزعامة. في خضم نظام عالمي يعلن عن نهاية التاريخ، نهاية الثورات، وخلود الأنظمة القائمة، ومباركة الزعامات مادامت وفية لأسياد العالم. لكن الربيع العربي أعلن منذ البداية أنه يريد ثورة وتغييرا لا يصنعه حزب أو فئة أو نخبة، أو زعيم، بل يمكن أن يصنعه فرد مغمور ( البوعزيزي )، بل كل فرد، مادام الأمر يتعلق بصوت شعب بكامله: ” الشعب يريد إسقاط النظام “، حيث كان هذا النظام قد أسقط إرادة الشعب لسنوات. لم يكن الشعب يريد الإطاحة فقط بالحاكم وتغيير الزعيم، بل كان يريد الإطاحة بالزعامة، وبالأنظمة المهووسة بالزعامة، كان شعار الربيع العربي الخفي: ” مات الزعيم، ماتت الزعامة “. إنها ثورة ضد قداسة الشخص، وقداسة الحكم، ضد رفض فكرة النهاية، والتي تتقنع بالإعلان عن نهاية النهاية. ترى هل ستنجح الثورات في الحفاظ على شعار موت الزعامة؟ أم أنها ستسقط في عودة الزعيم وإعادة إنتاج الزعامة؟ ليس المطلوب قتل الزعيم والزعامة، ولا إحياء الزعامة بدون زعيم، فبقدر ما يعشق الزعيم الزعامة، بقدر ما تقتل الزعامة الزعيم، وبقدر ما يكبر الطموح السياسي والأمل في قتل الزعامة. لقد غدا من اللازم الآن الدفاع عن الحق في اختيار الزعيم، والقضاء كليا على ادعاء الزعامة... ماوراء مراسيم موت الزعيم: ..... لا يتعلق الأمر هنا بحدث معزول: ” مقتل رئيس دولة “، بل المشكل أعمق من ذلك، فالحاجة ملحة لقتل رمزيا الأب السياسي، وإنهاء زمن الحجر والوصاية، والقطع مع عقلية القطيع، عقلية الزعامة. فهل نأمل في أن يفتح النقاش العمومي على تفكيك تجليات عقلية الزعامة وتداعياتها في تدبير الشأن العام، وانتظار أن يحدث الزعيم التغيير والإصلاح الأسطوري، هكذا يتم تقديس الأشخاص، والتوتن للأسماء وللزعامة، والتطلع نحو المهدي المنتظر، والتمسح بإشراقاته. تخترق عقلية الزعامة الأفراد والجماعات، تخترق الحاكم والمحكومين، تتغلغل داخل التيارات الفكرية والثقافية، وداخل الأحزاب الساسية، وداخل الجماعات الدينية. ترى هل يمكن أن يتحول مقتل القذافي، إلى وجه آخر لإعلان موت الزعامة، إلى مؤشر دال على التحرر من الزعامة المتمركزة حول تقديس الماضي: الزعامة التاريخية ( أفضل الزعماء كانوا في الماضي )، ومن الزعامة المتمركزة حول أسطرة المستقبل: الزعامة المهدوية ( الزعيم الأفضل هو المخلص المنتظر )، ومن الزعامة المتمركزة حول تخليد الحاضر: زعامة الأمر الواقع (ليس في الكون أفضل من الزعامة الكائنة)؟