طالت آثار ربيع الاحتجاجات، الذي شهده العالم العربي، كل الأنظمة السياسية الحاكمة في المنطقة العربية، بما فيها تلك التي لم تواجه باحتجاجات الشارع مادامت كل النخب الحاكمة بادرت إلى اتخاذ إجراءات وتدابير من شأنها الحيلولة دون اندلاعها. أكيد أن ربيع الاحتجاجات أفضى إلى تحولات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وبادرت أنظمة أخرى إلى اتخاذ إصلاحات ساهمت في تهدئة الأوضاع نسبيا كما جرى ذلك في كل من الأردن والمغرب والجزائر، غير أن كل ما جرى وبعد مرور أكثر من سنتين على هذا الربيع ترسخ لدى الكثيرين اقتناع بأن لا شيء تغير. أكيد أن هناك وجوها اختفت وظهرت وجوه جديدة، لكن فلسفة الحكم لم يطرأ عليها تغيير كثير مادامت المبررات، التي كانت تستند إليها الوجوه القديمة لدعم مشروعيتها في ممارسة السلطة، قد أعيد إنتاجها من قبل الوجوه الجديدة، ومادامت أساليب التعامل مع المعارضة لم تختلف عما كان معمولا به في السابق، ومادامت نفس الحجج يتم الدفع بها لتبرير الخروقات التي تطال ممارسة الحريات والحقوق. ولعل هذا الاقتناع بكون الأنظمة العربية لا تعمل، رغم ربيع الاحتجاجات، إلا على إعادة إنتاج نفسها، يدفع إلى الحديث عن الراهن السياسي العربي من خلال رصد وتحديد مداخله، حيث يمكن الإشارة إلى العديد من المداخل، وسنركز هنا على المدخل المؤسساتي الذي يتمثل في هيمنة ما يسمى بالدولة العميقة. في ظل الأنظمة العربية السابقة، التي حكمت تونس ومصر على الخصوص، قلما استحضرت القوى المتصارعة في نقاشها مفهوم الدولة العميقة، فهذه الأنظمة، التي خنقت أنفاس معارضيها وانتهكت حقوق مواطنيها، كانت تتماهى مع بنيات الدولة وأجهزتها، حيث كان هناك استتباع للمؤسسة العسكرية التي تحولت إلى فاعل سياسي، كما كان هناك استتباع للمؤسسة الأمنية وتحكم كامل في القطاعات الاقتصادية والمالية والإنتاجية، وهو وضع كان سائدا في العديد من الأنظمة العربية الأخرى كليبيا وسوريا واليمن. مع بداية ربيع الاحتجاجات وانهيار سلطة بعض العائلات الحاكمة، كان الاعتقاد السائد أن ما يجري في العالم العربي هو «ثورة» لن تكتفيَ بإسقاط أنظمة لتحل محلها أنظمة جديدة بل ستعمل على إحداث تغييرات جذرية على طبيعة الدولة القائمة، لكن سرعان ما تبين أن ربيع الاحتجاجات بعيد كل البعد عن منطق الثورة، وبالتالي لم يفض هذا الربيع إلى تغيير نموذج الدولة القائم، كما لم يؤد إلى تغيير طبيعة الأنظمة الحاكمة، بل ظلت القوى المتحكمة والنافذة هي التي تحمي عملية التغيير المتولدة عن ربيع الاحتجاجات. لقد كان لافتا للأنظار أن المحتجين في الشوارع العربية كانوا يخطبون ودّ الجيش ويطلبون حمايته، هذا ما جرى بالضبط في تونس ومصر واليمن، والكل يتذكر أن عملية التغيير اتخذت بعدا جديا عندما قررت المؤسسة العسكرية الانحياز إلى الشعب وعدم مواجهة المتظاهرين، بل هي التي أرغمت زين العابدين بن علي على مغادرة تونس؛ وقد تحدثت زوجة بن علي «ليلى الطرابلسي» في كتابها «حقيقتي» عن انقلاب عسكري أطاح بزوجها، وهي التي أرغمت حسني مبارك على التنازل ونقل السلطة إلى نائبه عمر سليمان؛ بل إن هذه المؤسسة قررت، في آخر المطاف، إدارة العملية الانتقالية بنفسها، عندما قررت في الحالة المصرية تشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي ترأسه المشير محمد طنطاوي وسامي عنان. لقد أفرزت الحالة المصرية مفردة جديدة وهي مفردة الدولة العميقة، ليؤثث بها الباحثون والإعلاميون معجمهم، وليتوسع بعد ذلك استعمال هذه المفردة من أجل قراءة الراهن السياسي العربي، حيث أصبحت عبارة «الدولة العميقة» مساعدة على فهم الصعوبات التي يواجهها الوافدون الجدد إلى السلطة في مجال تدبيرهم للشأن العام. لقد لاحظ الجميع أن الرئيس محمد مرسي، الذي يعتبر أول رئيس مدني منتخب في مصر من خلال صناديق الاقتراع، لا يمارس أية سلطة على المؤسسة العسكرية، كما أن الأجهزة الأمنية توجد خارج رقابته. وقد كان ملفتا للأنظار إصدار الجيش، بين الفينة والأخرى، بياناتٍ يعبر فيها عن مواقف سياسية، بل يوجه من خلالها تحذيرات إلى القوى السياسية المتصارعة، بما في ذلك حزب الحرية والعدالة الذي ترشح باسمه محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية. إن مفهوم الدولة العميقة لا ينشئ واقعا جديدا وإنما يكشف عن واقع قائم، كما يكشف عن طبيعة ربيع الاحتجاجات الذي أدى إلى إحداث تغييرات مست السطح ولم تلمس في شيء عمق الفلسفة التي تحكم قواعد اللعبة السياسية في العالم العربي. يستوجب الحديث عن هيمنة الدولة العميقة الإحالة على مفهوم القوى المضادة للثورة أو القوى المناهضة للتغيير، فبعد إدراك عمق الصعوبات التي تواجهها القوى الجديدة في تدبير الشأن العام، خاصة القوى المرتبطة بتيار الإسلام السياسي، أصبح هذا التيار يعتبر كل من يخالفه الرأي جزءا من القوى المناهضة للتغيير. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مستعملي مفهوم «الدولة العميقة» ومفهوم «القوى المناهضة للتغيير» لا يمنحونهما دلالة متطابقة، فهناك اختلاف واضح في الاستعمال، فمفهوم «الدولة العميقة» يفيد كل الهياكل والقطاعات ذات البعد الاستراتيجي التي تؤمن استمرار النظام من خلال امتلاكها أو مراقبتها لوسائل العنف والثروة، في حين يفيد مفهوم «القوى المناهضة للتغيير» تلك التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تسعى إلى مواجهة الخيارات الجديدة للقوى التي أوصلتها صناديق الاقتراع إلى مواقع السلطة التدبيرية. أفرز ربيع الاحتجاجات خريطة جديدة للصراع السياسي، فلم يعد الأمر عبارة عن مواجهة مفتوحة بين مساندي الأنظمة المطاح بها ومعارضيها بمختلف أطيافهم السياسية، بل أصبح عبارة عن مواجهة بين «شركاء» ربيع الاحتجاجات، فالقوى الليبرالية والعلمانية الحداثية التي حركت هذا الربيع تتهم بشكل واضح القوى الإسلامية والمحافظة بسرقة نضالاتها وتحريف ربيع الديمقراطية عن مساره بإفراغه من محتواه الديمقراطي الحقيقي والاختباء وراء مشروعية مبتورة تختزل الديمقراطية في مجرد آلية إجرائية لن يكون لها أي معنى بمعزل عن منظومتها القيمية التي تتأسس على تكريس التعددية السياسية وترسيخ ثقافة الاختلاف. وهنا تظهر المفارقة الأولى، ففي اللحظة التي يتهم فيها الإسلاميون المستفيدون من صناديق الاقتراع شركاءهم بكونهم تحولوا إلى قوى مناهضة للتغيير، شعرت القوى الليبرالية والعلمانية الحداثية المتضررة من صناديق الاقتراع بضرورة طلب «الحماية» من هياكل الدولة العميقة بعدما خرجت هذه القوى إلى الشارع للاحتجاج أساسا ضد هيمنة هذه الهياكل التي ظلت جزءا من سلطة فاسدة ومستبدة؛ أما المفارقة الثانية فتتجلى في كون شركاء ربيع الاحتجاجات كرسوا، بعد اختلافهم، مشروعية هيمنة الدولة العميقة باعتبارها الضامنة لحقوق المعارضة الجديدة.