قبل شهرين، تعرض منزل عمر في مدينة حمص للقصف، وفارق الحياة على إثره والداه، بينما نجا هو بأعجوبة. لكن جميع الأعراض في جسم عمر تؤكد أنه تعرض لهجوم بالأسلحة الكيماوية رغم أن النظام السوري كان قد وعد بعدم استعمال مخزونه من الغاز الخردلي والغازات الأخرى الفتاكة كالغاز المهيج للأعصاب. لقد هدد الأمريكان بالتدخل في حالة ما إذا تخطى بشار الخطوط الحمراء، «وهاهو ذا قد تخطاها» يقول بعض الأطباء الذين أطلقوا صرخات النجدة إلى العالم، وحاولوا عبثا جعل أخصائيي الغرب يقومون ببعض الخبرات الميدانية. قبل شهرين من هذا الأوان، سقطت في مدينة حمص السورية قنبلة فتاكة عصفت بطفولة عمر البريئة وبحياته برمتها.» قنبلة ليست ككل القنابل»، يهمس الطفل المكلوم في وهن، «لقد رأيت دخانا أصفر يتصاعد، وبعدها فقدت وعيي، غاب عني والداي، لقد اختفيا منذ تلك اللحظة إلى اليوم، بالله عليكم، هل تعرفون أين يوجدان؟» بين الحاضرين يسود صمت ثقيل كالرصاص، ويبقى عمر سابحا في ظلمات كابوسه الرهيب، لأنه لا يمكن إخباره بالحقيقة المفجعة خوفا عليه من آثار صدمة قاتلة، فقد قتل والداه وهما محبوسان في أحد منازل المدينة العتيقة، ماتا اختناقا دون أن يصابا مباشرة، يقول الأطباء. كان عمر قابعا في إحدى حجرات ذلك المنزل لكنه لم يصب بدوره، لكن بعد مرور يومين، ظهرت على جلده حروق وجراح وأورام، ثم تبعتها بعد ذلك اضطرابات في التوازن وفقدان للذاكرة مع آلام مبرحة في العضلات، ويوما بعد يوم أخذ المرض الخبيث في الاستفحال داخل جسده. ضحية الأسلحة الكيماوية في حمص، يؤكد الأطباء أن الأمر يتعلق بهجوم بالأسلحة الكيماوية، لذلك ارتأوا أن يرحلوا الطفل سريعا إلى لبنان لعله يخضع هناك لفحوصات وعلاج مناسبين. لكن سرعان ما خاب أمل الجميع بعدما أعلن من وفروا له المأوى عجزهم الشديد عن استضافته. «مرحبا بكم في بلد الآلام الخفية» يقول الدكتور غازي أسود بنبرة حادة من السخرية، وهو جراح فرنسي من أصول سورية في عقده الخامس. يعالج هذا الطبيب مرضاه في ظروف موغلة في القسوة والخصاص، ما بين أربعين وستين جريحا يوميا من بين أولئك الهاربين من جحيم الحرب التي فرضها بشار على شعبه... عشرة أمتار مربعة خصصت له في أحد الطابقين لبناية اشتريت بواسطة تبرعات المحسنين، كل ما فيها شحيح وبسيط : أدوات طبية قليلة غير معقمة، معدات بدائية أخرى صنع بعضها باليد، مختبر بسيط، انعدام المصعد، وقاعة الجراحة، وغياب شبه كلي للأدوية...لذلك يسميها الجرحى «قاعة المعجزات»، لأن الطبيب يداوي فيها بلا شيء أو بالقليل النادر في أحسن الأحوال، إذ يستخرج الرصاص وشظايا الصواريخ، ويلئم الجراح، ويضمد الحروق، ويقوم بعملية تطعيم الجلد، وكل ذلك بدون أي تخدير. هذا الجراح الطيب أصبح بطلا في مجال الجراحة العسكرية، إذ منذ اندلاع الحرب، ترك أسرته بعد أن أمن لها قوتها والتحق فورا بسوريا ليكون ثائرا على طريقته الخاصة، ثائرا بوزرة بيضاء. لقد تعلم عمليا من الظروف الاستعجالية كل شيء، وانطلقت البداية من مستشفى حمص الذي تعرض، وهو بداخله لوابل عنيف من القنابل الفتاكة: «لقد صمدت إلى أن رأيت ذات يوم جنود بشار الأسد يداهمون المكان وينتزعون أنابيب السيروم والأكسجين من أفواه المرضى ليجهزوا عليهم بموت فوري فظيع، ثم يعمدون بعد ذلك إلى رمي جثثهم أرضا كما ترمى القمامة، كنت ساعتها منكمشا على نفسي، أراقب البشاعة وأنا لا أجد سوى دموعي المنهمرة عزاء وسلوانا، فاضطررت بعد هذه النازلة أن أرحل إلى لبنان حيث كان ينتظرني عمل شاق آخر، أو قل إن شئت، انتقلت من جحيم إلى سعير، إذ كيف يمكن للمرء أن يتصور فقرا مدقعا على الصعيد الطبي في وطن تعج أرضه بالخيرات كبلد الأرز؟.. لو كان هذا الطفل الشهيد في فرنسا، لأدخل فورا إلى مستشفى الحروق الكبرى كالذي يوجد في بيرسي، أما هنا، فلا يوجد شيء يذكر، نحن نتدبر أمرنا بالموجود، والموجود هنا في حد ذاته هباء في هباء..إني أتوجه إلى العالم الساهي والغارق في اللامبالاة لأقول: العار كل العار على كل من باستطاعته فعل شيء لأجله ثم لا يفعل شيئا». سوريا تجاوزت الخطوط الحمراء حروق تحت الجلد، وأخرى تلتهم اللحم، انتفاخ، تورمات، تشوهات جسدية، تساقط الشعر، فقدان الذاكرة، خلل في الجهاز العصبي، آلام على مستوى العضلات، هشاشة العظام، انزعاج ، وهن، غثيان، حمى شديدة، شلل، تدهور تدريجي في جميع أعضاء الجسم. قائمة الأعراض المرضية طويلة يفضي ما بداخلها جميعه إلى الموت المحقق، ويسبب شعورا بغيضا بالعجز والانسحاق، مثلما يؤكد الطبيب السوري. وبسبب ذلك، لم يتوقف المجتمع الدولي من مضاعفة التحذيرات، حيث صرح الرئيس أباما في الثالث من دجنبر سنة 2012 قائلا: «إن استعمال الأسلحة الكيماوية أمر غير مقبول إطلاقا، وإذا ما بدأ الأسد في استعمالها، فسوف تترتب عن ذلك عواقب وخيمة» هكذا إذن حُددت الخطوط الحمراء، وانبرت القنصليات الغربية، والحلف الأطلسي، وفرنسا ليضغطوا جميعا على النظام السوري، حيث قال لوران فابيس، وزير الخارجية الفرنسي، في الصيف المنفرط: «سيكون رد فعلنا قويا وصاعقا». لكن الرد تأخر. في نهاية هذا الصيف بالذات، التقيت في شمال لبنان مع عدد من اللاجئين من بينهم أفراد من محاربي جيش سوريا الحر، كانوا يشتكون جميعهم من أوجاع في الدماغ ومن نوبات السهو والقيء والتهاب الجلد، وقد حكوا عن قنابل بمفعول تدميري ضعيف، إلا أنها تصدر غازا كريه الرائحة لا طاقة لأحد به. لما ذهبنا إلى القرية المجاورة، أخبرتنا الصيدلانية بأن السكان يتهافتون بشكل كبير على المراهم ومستحضرات ترميم الجلد والأدوية المضادة للأوجاع، وبعض الأنواع الخاصة للصابون. أما الطبيب فقد أكد لنا بأنه لم يواجه في حياته مثل هذه الظاهرة من قبل أبدا، وعجز أن يعطي لها أي تفسير معقول. أما في مكاتب المجلس الوطني للاجئين السوريين، فقد وجدنا مفاجأة تنتظرنا لما علمنا أن لا أحد هناك يستغرب لهذا الأمر، ذلك أن نداء حرر من طرف اللجنة الطبية بتاريخ 3 مارس 2012 ووجه إلى جميع السلطات الحكومية وغير الحكومية، وكذا إلى الأوساط الصحية، يناشدها فيه أن ترفع الغموض إما بتكذيب صريح أو بتأكيد قاطع حول الشكوك الكبيرة والملحة باستعمال الأسلحة الكيماوية من طرف الحكومة السورية. أما الأطباء، فيتمسكون بنوع من الاعتدال وهم يصرحون: « التحريات التي أجريناها تسمح للجنة الطبية لتنسيقية اللاجئين السوريين أن تشك في وجود حالات عديدة مرتبطة بالاستعمال المحظور للأسلحة الكيماوية والبكترلوجية. نحن نطالب بمساعدة دولية، كما نرجو أن تقوم المنظمات الحقوقية بتحريات في هذا المجال حتى لا يبقى هذا الملف معلقا.» في هذه الفتنة التي تضرب أطنابها، يظل الأطباء بإمكانياتهم المتواضعة يرسمون صورا في منتهى البشاعة لهذه الحرب التي تجل فظاعتها عن الوصف، ويبعثون برسائل إلكترونية في كل الاتجاهات. وقد ضرب أحد الرجال المكلفين بهذه الحملة الإعلامية موعدا لموافاتي بوثائق مفحمة، لكن عندما التقيت به في بيروت، وجدت أمامي حطام إنسان بدون وثائق، تدور عيناه بذعر في كل الاتجاهات خوفا من الأجهزة السرية السورية التي يدرك أنها باتت تترصده في كل مكان. سكوت المنظمات الحقوقية نحن في شهر أكتوبر، وباب أحد مسؤولي مجلس اللاجئين يفتح، يخرج رجل تتطاير نظراته شررا وهو يقول بصوت حاد: « لم نر أحدا حتى الآن، المنظمات الحقوقية المشهورة يا حسرة، لم تتحرك إلى اليوم قيد أنملة» هذا الرجل المدعو أحمد، هو أحد المقاومين الأوائل، استقبلنا في مكان سري بطرابلس حيث المعارك الطاحنة بين المقاومة والقوات النظامية تدور يوميا وبشراسة. يقوم أحمد بربط الاتصال كل يوم بفصائل المقاومة. في الأوقات العادية، يلتقط جميع المعلومات والأخبار الصادرة عن الجميع ويقول بصوت يشي بمرارة عميقة: «قبل أسبوع، تعرضت مدينة حمص لهجوم بالأسلحة الكيماوية..والخطوط الحمراء المرسومة من طرف أوباما وفرانسوا هولاند تجاوزها النظام السوري مئات المرات، ونحن لم نرد أن نقوم بحملة دعائية، سيما وأن استراتيجية بشار الأسد تتمثل في عدم السقوط في شرك استعمالها بكثافة. لقد أطلقنا هذا النداء لكي يقوم الخبراء المختصون في هذا المجال بتحقيقات محايدة، وفي انتظار ذلك نجلس على أحر من الجمر، بيد أن الغرب يبدو لنا كالأعمى والأصم، فأين هو إذن هذا الرد الفوري والساحق الذي وعد به فابوس؟ في زاوية مقهى مليء بالدخان وسط بيروت، قدم عندي ضابط لبناني سام مستخف في ثياب مدنية ليؤكد لي ذلك بداية سنة 2013: «الخطوط الحمراء المعلومة حول استعمال المواد الكيماوية هي مجرد خدعة لتبرير عدم التحرك. إذ لا يعقل بتاتا أن تخفى الحقيقة على مخابراتكم العسكرية. السياسة هي من تفرض لغة الصمت. لم يُنادى إلى اليوم على أي مختبر عسكري، وليس في الأفق ما يدل على أن أحدا سيتحرك.» أدلة الإدانة ورغم بشاعة الحرب، ورغم التيه والفوضى، هنالك وثائق حاسمة يحتفظ بها بعضهم، وقد اكتشفتها في مستشفى دار الشفاء بطرابلس، وهو مستشفى متطور جدا. لكنه يتواجد في مدينة يحاصرها الفقر من كل مكان. كانت تسود هنالك نفس الأجواء التي وجدناها في مستوصف 24\ 24 ، استقبلنا مدير المؤسسة، الدكتور محمد السيد في مكتبه الوثير المتواجد بالطابق الثاني لعمارة فاخرة حديثة، وهو يشرف بالمناسبة على جمعية خيرية إسلامية لجمع التبرعات الطبية لضحايا الحرب في سوريا، فتطرق الرجل إلى صلب الموضوع مباشرة، وهو يعرض علينا عشرات من الصفحات المتكلمة عن ضحايا الأسلحة الكيماوية: «انظروا إلى كل هذه الشهادات وجميع هذه الملفات الجاهزة، كل أصحابها هم ضحايا الغازات الكيماوية السامة». في أحد الملفات يسجل الطبيب المداوي ما يلي: «احتمال شديد لتسمم الجهاز التنفسي» وبدون أدنى تردد، شرع الطبيب يحكي لنا تفاصيل عمليات إجلاء الجرحى التي جرت بشجاعة نادرة تحت أمطار طوفانية من القصف المكثف: «تجشمت الأسر والأقارب كل المشاق وغامروا بحياتهم وهم يجلون ذويهم على الناقلات أو بمساعدتهم على المشي قبل الوصول إلى لبنان، محاولين بحذر شديد تفادي الطرق الملغومة ونقط التفتيش العسكرية. ولن أنسى أبدا أولئك البؤساء الذين بقوا هنالك بعدما غابت المساعدة، فقضوا نحبهم في ظروف مأساوية وهم لا يعرفون ماذا حصل لهم على وجه التحديد.» يتوقف الطبيب عن الكلام ويشغل منذر الطوارئ في هاتفه الأحمر: « لقد ناديت على الجميع، وأخطرت الصليب الأحمر الدولي في بيروت، وكذلك الصليب اّلأحمر اللبناني، وعاودت الاتصال بهما ثلاث مرات ولكني اصطدمت بسور من الأسمنت المسلح. كما اتصلت بالمستشفى الأمريكي المشهور، ولكن بدون نتيجة، فقد طلبوا مني أن أمدهم بعينات من التراب الذي نزلت عليه الصواريخ في سوريا كي يقوموا بتحليلها، وأرسلت إليهم عينات من دم المرضى وأنا لا زلت أنتظر النتائج... « أنا أتحدى اليوم جميع هذه المؤسسات العجيبة التي تخل بأبسط واجباتها المتمثلة في تكذيب كل هذه العقود غير المجدية. وأنا لم أر من حولي سوى الصمت والجمود. لا أحد حاول مدنا بخبراء لتأكيد التشخيص الذي لو حصل، فإنه سيضع الغرب برمته أمام مسؤولياته....ينبغي على العالم أن يعرف». ضحايا بالجملة المعارك لا زالت على أشدها في الطرق المؤدية إلى الهجرة، وضحايا هذه الهجمات لم يعودوا قادرين على المخاطرة بحياتهم للالتحاق بلبنان، سيما وأنهم باتوا يدركون أن لا أحد تقريبا سينفعهم بشيء هناك. قفلنا راجعين إلى المستوصف 24 \ 24 بسوريا فقادنا طبيب إلى فراش مهلهل لطفل في الشهر الثامن عشر من عمره كُسي جسده كله بقشرة سميكة من الضمادات. كانت الجروح تكتسح 40 في المائة من جسده الصغير، وهو يشكو فوق ذلك من صعوبة في التنفس رغم إخضاعه لحقن مستمر. يقول الدكتور أحمد عبيد وهو يشير إلى الطفل الذي لا يحتمل عمره كل ذلك الألم المبرح: «نحن نقوم بتبديل ضماداته مرة في الأسبوع». هذا الطبيب ذو الثانية والأربعين من العمر مجاز في علوم الغازات السامة، وواحد من الذين عُينوا قبل الثورة في وحدة متطورة في أحد المستشفيات السورية، ومن أجل «خبراته» في مجال الغازات السامة، كان مستهدفا من طرف دمشق لما كان يزاول عمله في أحد المستشفيات الهامشية بحمص. ونحن في المستوصف، نودي بكيفية مستعجلة على جميع الأطباء فهرعوا إلى البهو، حيث انتصبت امرأة بائسة تتوسل وهي تحمل بين يديها طفلا فقد كل شعره وانتشر على قفاه جرح كبير يَظهر الجلد فيه وكأن اللحم تحته قد انتزع من العمق. لم يكن ذاك الجرح في البداية سوى ندبة صغيرة لكنها سرعان ما انفتحت وتعفنت بكيفية تثير التقزز. في الطابق الفوقي، وقفت ممرضة تكشف لنا بعض الصور الشمسية الصادمة..واحدة منها لطفل اسمه سليم، في الحادية عشر من عمره، جاء إلى المركز، تُظهر الصورة يديه وقد تشوهتا وانتفختا بشكل مهول بينما تكسوهما أورام ضخمة خبيثة، أما الوجه فقد أصيب بدوره وبدا كأنه أحرق بالحامض. ويعلق الطبيب على ذلك قائلا: «هو في حالة ماسة إلى جراحة ترميمية. ونحن نريد إرساله إلى الخارج، ولكن أنى لنا ذلك وهو بدون والدين ولا وثائق إدارية ولا جواز سفر، الكل ينظر إلى المأساة ويهز كتفيه في لامبالاة. أما عمر، الطفل المومياء، فقد ظل ينتظر هادئا في فراشه الذي ينتمي لزمن آخر. الانتظار هو كل جوهر حياته الضائعة «أشعر بآلام حادة تمزق كل ذرة في جسدي...» يهمس الطفل بأنفاس متهدجة وهو ينزع بكيفية آلية قطعة من لحمه، تتشنج يده وهو يضغط بها بكل ما بقي له من قوة في محاولة يائسة لتخفيف العذاب، يهرب بصره كعادته إلى الأرض لأن الخوف من الآخر أصبح عالمه المظلم المسكون بالأشباح والكوابيس، يفتح أعلى قميصه فتصفع البصر لوحة مروعة. يقول الدكتور الفرنسي غازي أسود بلهجة تقطر بالمرارة: نحن كأطباء، نطالب المجتمع الدولي أن يفكر مليا في الأمر وأن يعيد النظر في موقفه من النظام السوري الذي لا يتردد في استعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. لدينا المرضى، لدينا الحالات الكلينيكية، لدينا الحجج الدامغة، ولدينا الوثائق المفحمة، ونحن مستعدون كل الاستعداد لنشر كل ذلك أمامكم وشرح كل هذه الفظاعات المخجلة للعالم بأسره، نحن نرجوكم ونتوسل إليكم أن تبادروا بفعل أي شيء قبل أن يفوت الأوان..» * عن «باري ماتش»