في 1998 عين المرحوم الحسن الثاني الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول مدشنا بذلك بداية عهد التناوب التوافقي، وممهدا الطريق لخلفه الملك محمد السادس لكي يبدأ مسلسل الإصلاحات الكبرى دون أن تقف الخصومات السياسية القديمة بين الملك والمعارضة في وجهه. بعد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، قاد التقنوقراطي إدريس جطو حكومة ائتلاف تبوأت فيها أحزاب الكتلة مركز الصدارة. الحكومة الحالية التي يقودها الأستاذ عباس الفاسي لم تخرج عن هذا التقليد، حيث تستمر المعارضة القديمة/الأغلبية الجديدة في قيادة الحكومة. كل هذا يعني أن عقدا اقترب من الانصرام كان التناوب هو المنهجية المعتمدة فيه لتشكيل الحكومات. مع اكتمال عشر سنوات من عمر التناوب يتساءل المرء عن الحصيلة والإنجازات، خصوصا وأن الانتظارات التي غذتها المعارضة القديمة كانت بحجم اللغة والخطاب المتداول على الصحف وتحت قبة البرلمان وفي التجمعات النقابية والسياسية والطلابية. هل حققت حكومات التناوب المتعاقبة منذ 1998 الوعود التي ما فتئت ترددها منذ السبعينات؟ وإن لم تفعل، ما هي الأسباب، هل هي موضوعية أم ذاتية؟ أي هل الأسباب تكمن في الواقع العنيد أم في كفاءة من تولوا أمور التسيير ومدى إلمامهم ودرايتهم بالواقع وكيفية تدبير الشأن العام؟ بصورة عامة، بعد عشر سنوات من التناوب، نجد مغربا واعيا بضرورة المضي قدما في التحديث والدمقرطة، يتمتع بهامش لابأس به من الحرية الفردية وحرية التجمع وحرية الصحافة وبمجتمع مدني فاعل رغم تدني قدراته التدبيرية، وبطبقة اقتصادية تجيد إلى حد ما فن التقاول، وبملك لديه رغبة قوية في التغيير والريادة في إنجاز الأوراش الكبرى، وبشعب تواق إلى غد أفضل، ولكن نفس المغرب تكبل انطلاقته عوائق كبرى مثل الأمية والرشوة وتدني الحكامة وبيروقراطية الإدارة وتبذير الموارد الطبيعية وتنامي البطالة والسكن غير اللائق والرغبة في الهجرة إلى غير ذلك. أي أن المغرب بعد عشر سنوات من التناوب هو مغرب يتوخى الانعتاق والإقلاع (ملكا وشعبا وصحافة ومجتمعا مدنيا) ولكن تبطئ مسيرته عوائق قطاعية مهمة لم تتمكن الحكومات المتعاقبة منذ بداية التناوب من التغلب عليها. نعم هناك تقدم في مجال البنيات التحتية (من طرق وكهربة وماء وتجهيزات اجتماعية) لكن قطاعات مثل التعليم والصحة تشكو تدنيا صارخا في التجهيز حيث حجرات بدون كراس أو سبورات أو نوافذ وإعداديات لا تحتوي إلا على حجرتين شبه خاليتين من أبسط المعدات الأساسية. هناك كذلك تقدم في مجال السياحة، حيث تم الاستثمار في الرفع من الطاقة الاستيعابية، وتم جلب عدد أكبر من السواح، مع وجود مشاكل حول التأثير على البيئة (خصوصا البيئة الساحلية بالنسبة إلى تجهيزات الخطة الزرقاء والفرشة المائية بالنسبة إلى مراكش) وتبخيس بعض الوجهات مثل مراكش وورزازات وغيرها، مما يعني أن الزيادة في السياح كانت على حساب الرفع من الموارد المالية بشكل دال. في مجال السكن، تم القيام بعدد من المجهودات من أجل محاربة مدن القصدير وتوفير السكن الاجتماعي وبناء مدن جديدة، لكن في نفس الوقت تم تشجيع اقتصاد الريع عن طريق تفويتات مشبوهة لأراضي الدولة لصالح شركات معينة، ولم يتم الضرب على يد من يسمح بانتشار البناء غير القانوني، وكل ذلك في ظل عدم إتمام الخطط الجهوية لإعداد التراب الوطني أو عدم الالتزام بها وفي ظل عدم احترام قدرة البيئة والمحيط على تحمل التنمية العقارية كما يحصل في الشمال ومراكش وأكادير. على مستوى الحقوق والحريات، تم إخراج مدونة الأسرة إلى الوجود رغم أن الحكومة آنذاك لم تتحمل مسؤولياتها كاملة بل رمت بالكرة في مرمى التحكيم الملكي، كما أن بعض الأحزاب الريادية في الحكومة آنذاك لعبت دور المتفرج أيام المسيرات المساندة والمعارضة لخطة إدماج المرأة. وتم إخراج قانون جديد للصحافة ولكن دون إلغاء العقوبات السالبة للحريات، وتمت محاكمة الصحافيين ومنعهم وسجنهم وتغريمهم غرامات تعجيزية ونعتهم بمحاولة التيئيس ومقاومة الإصلاح، مما جعل المغرب يصنف في عداد الدول التي لها سجل غير مشرف في مجال الحرية الصحافية. كما أن هيئة الإنصاف والمصالحة التي عينها جلالة الملك لم تجد تعاونا كبيرا من طرف أحزاب الكتلة حول الفترة ما بين 1956 و1959 والتي حصلت فيها تجاوزات في ميدان حقوق الإنسان، تم القيام بها من طرف أحزاب معينة ضد أحزاب أخرى. ورغم صدور تقرير الهيئة ومجموعة من التوصيات المهمة، فإنه لم يتم البدء في تفعيل الشق الملقى منها على عاتق الحكومة إلا مؤخرا وتحت ضغط جهات عليا والمجلس الاستشاري والرأي العام. غير أن الميادين التي فشلت فيها حكومات التناوب تحت قيادة أحزاب الكتلة فشلا مدويا هي التعليم والصحة والعدل والتنمية البشرية وتدبير الموارد الطبيعية وإصلاح الإدارة. هذه القطاعات لم تعرف أي تقدم خلال العشر سنوات الأخيرة، بل الأخطر في الأمور هو أن هذه القطاعات عرفت تدهورا، مما دفع بالمنظمات الدولية إلى دق ناقوس الخطر، ودفع بجلالة الملك إلى التدخل لوضع برامج بديلة عن برامج الحكومات المتعاقبة (المبادرة الوطنية، الخطة الاستعجالية للتعليم...). التعليم الذي يعد بامتياز قاطرة التنمية عرف نكسة كبيرة إبان تولي قياديين يساريين زمام أموره. منذ الأيام الأولى لتطبيق الميثاق بدا وكأن الوزارة في واد وواقع التعليم في واد آخر. وخلال الخمس سنوات الأخيرة نزل التعليم إلى أسفل السافلين: انقطاع مدرسي ناهز الأربعمائة ألف (7%) وهو رقم خطير بكل المقاييس، وصار تغيب المعلمين والأساتذة هو القاعدة لا الاستثناء، ونزل المغرب في ترتيب الرياضيات والعلوم إلى المؤخرة، وانتقل إلى قسم الشهادة الابتدائية أطفال لا يعرفون كتابة حتى أسمائهم، إلى غير ذلك من الأمور التي وقفت عندها التقارير الدولية والوطنية. فشل إصلاح التعليم مؤشر صارخ على تدني القدرات التدبيرية وغياب الرؤية وغياب القدرة على التغلب على المشاكل لدى الحكومات التي تعاقبت منذ التناوب على تسيير هذا القطاع. أما العدل فلم ينجح في الابتعاد عن الانفصام الموجود لدى النخبة التي تولت مقاليد التدبير بين الخطاب والفعل في الواقع. في سنة 1999 كان ترتيب المغرب 45 على سلم ترانسبارنسي؛ هذه السنة وصل ترتيب المغرب إلى 80. على مستوى محيط الأعمال يحتل المغرب رتبة متدنية بكثير حتى بالنسبة إلى دول إفريقية مثل تونس وبوتسوانا وأنغولا وجنوب إفريقيا وغيرها. على مستوى حوادث السير والتي تلعب الرشوة عاملا أساسيا في تفاقمها، يعتبر المغرب من الدول التي يقترب عدد ضحايا الحوادث فيها إلى 4000 قتيل سنويا. كما صار تمرير الصفقات على المستوى الجماعي يحترم معايير الزبونية والحزبية بدل التنافسية أمام مرأى ومسمع من الكل. أخيرا يرتب المغرب من ضمن الدول التي لا تتمتع بحرية اقتصادية حقيقية وليس له محيط لائق للاستثمار يحمي حقوق المستثمرين. هذا الفشل الذريع في تدبير قطاع العدل هو ما دفع بجلالة الملك إلى تكرار النداء من أجل تحقيق إصلاح فعلي وجاد وجريء للقطاع. قطاع الصحة لم يسلم كذلك من تدني القدرات التدبيرية لدى أحزاب التناوب، حيث إن نسبة وفيات الأمهات بقيت في نسب قريبة من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وارتفعت نسبة وفيات الأطفال من 39 في الألف إلى 45 في الألف، وصارت الرشوة تنخر القطاع عرضه وطوله، وارتفعت وتيرة الإضرابات إلى درجة غير مشهودة من قبل، وطغت قصص الإهمال والتسيب والفوضى على الأخبار الواردة من القطاع. إن التعليم والصحة وعدم قدرة حكومات التناوب على خلق تقدم كبير في ميدان محو الأمية وميدان محاربة الفقر هو ما جعل تصنيف المغرب على مستوى مؤشر التنمية مافتئ ينزل رغم المجهودات المالية الكبيرة التي يتم وضعها رهن إشارة القطاعات الاجتماعية. أما البيئة فمازالت في حالة تدهور مستمر. 30 ألف هكتار من الغابة مازالت تضيع سنويا، الفرشة المائية في الجنوب مهددة بالانقراض في العشر السنوات القادمة. ثلثا المياه المعبأة يتم هدره لأن البنيات غير صالحة، وتلوث الهواء والماء وفضاء المدن والقرى في تصاعد مستمر. هذه فقط بعض الأمثلة عن الفشل الذي لاقته السياسات في مجال البيئة منذ بداية التناوب. على ماذا يحيلنا هذا الفشل؟ أولا، على انفصام كبير بين اليسار والواقع؛ ثانيا على تدني القدرات التدبيرية لمن تناوبوا على قطاعات استراتيجية مثل التعليم والصحة والبيئة والعدل. ثالثا، على وجود قناعة ساذجة بأن وجود المعارضة القديمة على مقعد التدبير هو لوحده كاف لتعبئة الناس والشعب وراءها لإحداث التغيير، وهو ما لم يحصل بالفعل. رابعا، لم تعط هذه الأحزاب الفرصة لنفسها لتطبيق برامجها بل انخرطت عن طواعية في برامج ليبرالية صادرة من فاعلين خارجين عن الحقل السياسي (وهو ما جعل محمد الساسي ينعتها بالأحزاب الإدارية). خامسا، إن هذا الفشل هو ما يفسر رفض الأغلبية الساحقة من المغاربة الانخراط في العملية الانتخابية (والتي ما فتئت تتراجع منذ 1997). سادسا، هذا الأمر هو ما جعل عدة جهات تفكر في إنشاء أحزاب جديدة قادرة على التعبئة مادامت الأحزاب التي عبأت الشارع في السابق خيبت آمال فئات عريضة، وهذا هو الذي جعل الملك يأخذ عدة ملفات على عاتقه. من سخرية الأقدار أم من فشلوا في تدبير الشأن العمومي هم من يشتكون الحكومة في الحكومة أو حكومة الظل. ما وجب عليهم أن يفعلوه هو القيام بنقد ذاتي وإعلان مسؤوليتهم في تقوية عود حكومة الظل بفشلهم في تحقيق آمال شرائح عريضة من المغاربة.