يبدو أن الحكومة استسلمت لتداعيات الأزمة الصعبة التي تجتازها بلادنا، ودخل الوضع الاقتصادي والاجتماعي في انتظارية بدون أجل محدد ولا آفاق واضحة؛ فقد توارى حتى ذلك الضجيج الذي كانت تثيره، من وقت إلى آخر، تصريحات عدد من الوزراء، ودخلت الحكومة في مرحلة ما يشبه استراحة المحارب بفعل ختم دورة البرلمان والارتياح من مساءلة الحكومة وما يترتب عنها من حضور مستمر للوزراء. وأمام غياب مبادرات حكومية ملموسة لتقديم أجوبة عن انتظارات المواطنين في مختلف المجالات، انشغل الرأي العام طوال الخمسة عشر يوما السابقة بتتبع تحركات عدد من الوزراء في بعض الأقاليم من أجل تنظيم حملات انتخابية لدعم المرشحين في الانتخابات الجزئية التي تم إجراؤها يوم 28 فبراير الماضي، هذه الحملات التي استأثرت كذلك باهتمام السيد رئيس الحكومة فأبى إلا أن يشارك فيها، خاصة لدعم مرشحيه في مولاي يعقوب وسطات. والواقع أن هذه التحركات الحكومية دفعت عددا من المتتبعين إلى التساؤل عن جدواها مادامت نتائج هذه الانتخابات ليس لها أي تأثير على الخريطة السياسية، باستثناء ما كان يترقبه حزب التقدم والاشتراكية لإتمام النصاب الواجب لاستمرار توفره على فريق نيابي، وهو ما تحقق بالفعل بعد حصوله على مقعد بدائرة اليوسفية. ومن ثم يبقى التساؤل مشروعا حول إصرار الوزراء على تعبئة جهودهم للقيام بالحملات الانتخابية في وقت كان من المفيد فيه استغلال تلك الجهود وذلك الوقت في معالجة الملفات والقضايا المتراكمة، سواء في مكاتب الوزراء المعنيين أو في مكتب رئيس الحكومة، وهو ما يعود بالنفع على الجميع. كما لا يفهم كيف يكون للوزير الوقت الكافي لتأطير حملات انتخابية في حين أن وزارته تعج بالمشاكل؟ وما هي مصداقية الوعود التي قدمها هؤلاء الوزراء إلى الناخبين وهم في مواقع السلطة والقرار؟ ولماذا بقي خطاب الوزراء في تلك الحملات الانتخابية محدودا ولم يرق إلى جلب ثقة المواطنين؟ ما يعزز هذا الطرح أن ردود فعل المواطنين لم تكن دائما إيجابية وفق ما كان ينتظره السادة الوزراء وهم يقومون بالحملات الانتخابية؛ ففي عدد من الحالات وجد هؤلاء أنفسهم أمام مواقف حرجة ينعدم فيها الاحترام واللياقة؛ ففي منطقة الشماعية، تمت إهانة وزيرين أثناء قيادتهما لحملة انتخابية لفائدة مرشح حزبهما على إثر محاصرتهما من طرف مجموعة من المواطنين، ورفض آخرون السلام عليهما وتسلم أوراق الدعاية الانتخابية منهما، مما أرغمهما على مغادرة المنطقة دون التمكن من القيام بمهمتهما؛ وفي سيدي قاسم، حاصر المواطنون وزيرا كان يستعمل سيارة الدولة أثناء دعم مرشح حزبه في حملة انتخابية، مما سبب له حرجا كبيرا؛ وفي دائرة سطات، واجه رئيس الحكومة صعوبات كبرى في مخاطبة أنصار حزبه بسبب الشعارات المرفوعة من طرف الشباب العاطل والمواطنين الغاضبين من سياسة الحكومة. إنها، فعلا، صور سيئة قدمها أعضاء الحكومة؛ وهي تبرز، من جهة، استمرار عقلية السلطة واستغلال النفوذ والاعتقاد بأن ذلك كفيل باستمالة الناخبين والتأثير على إرادتهم؛ ومن جهة ثانية، الاستخفاف بالمسؤولية وترجيح المصلحة الحزبية الضيقة على المصلحة العامة. قد يكون مبرر ذلك كله الحصول على مقعد من شأنه أن يثبت استمرار ثقة الناخبين في الحكومة على اعتبار أن هذه الثقة تعزز استمرار الدعم الشعبي لها. لكن هذا المبرر كان بالإمكان أن يكون مقنعا لو تعلق الأمر بترشيحات موحدة بين الأحزاب المكونة للأغلبية الحكومية، وبالمقابل تنظيم حملات انتخابية مشتركة لدعم مرشح هذه الأغلبية في كل دائرة من الدوائر الخمس المعنية بالانتخابات الجزئية. وفي غياب ذلك، يبقى هذا المبرر غير دقيق ولا يمكن قبوله؛ فأحزاب الائتلاف الحكومي خاضت هذه الانتخابات بصفوف متفرقة بكيفية تهيمن عليها مصالح كل حزب في استبعاد تام لأي اتفاق أو تضامن، باستثناء دعم العدالة والتنمية لمرشحي التقدم والاشتراكية في كل من اليوسفيةوسيدي قاسم، وهو استثناء أملته اعتبارات سياسية محدودة. وقد أدى ذلك كله إلى احتدام التنافس والصراع وأحيانا تبادل التهم والانتقادات بين قيادات أحزاب الأغلبية. الأمر الذي أكد، مرة أخرى، تفكك الأغلبية الحكومية وتشرذمها. وأمام ذلك، لا تعكس النتائج، مهما كانت لفائدة الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، مدى ثقة المواطنين في الحكومة بقدر ما تعكس القدرات الذاتية لكل حزب على تعبئة الناخبين للتصويت على مرشحيه. ومن المؤكد أن تداعيات هذا الصراع الانتخابي ستكون لها تأثيرات مباشرة على مستوى الأغلبية الحكومية، الأمر الذي يحتاج إلى مزيد من الجهود والمبادرات لإصلاح ذات البين وتوفير الأجواء المناسبة للانسجام الحكومي باعتباره ضمانة أساسية لفعالية العمل الحكومي. قد يبدو ذلك رهانا يصعب كسبه، على الأقل على المدى القريب، بفعل حجم الاتهامات المتبادلة بين الأطراف الرئيسية في الائتلاف الحكومي، خاصة بين العدالة والتنمية والاستقلال والحركة الشعبية. كما سوف لن تمر اتهامات الأمين العام لحزب الاستقلال لعامل سيدي قاسم بعدم الحياد ودعم مرشح الحركة الشعبية دون أن يكون لها ما بعدها، فضلا عن اتهامات أخرى للحركة الشعبية باستغلال السلطة للتأثير على النتائج، مما جعلها تفوز بمقعدين في كل من سيدي قاسموسطات. إلى ذلك يضاف البلاغ المشترك الصادر في غمار الحملة الانتخابية بين الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي والأمين العام لحزب الاستقلال حول «مواصلة التشاور والتنسيق عبر لقاءات مفتوحة على مختلف المستويات التنظيمية، بهدف بلورة أجوبة مشتركة عن المشاكل الاجتماعية والقضايا الاقتصادية، وخوض النضالات النقابية للدفاع عن مطالب المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته...». ومن المؤكد أن هذا البلاغ لم يرق لباقي مكونات الأغلبية باعتباره يترجم بالملموس أن حزب الاستقلال قد وضع رجلا في المعارضة ويحافظ على رجله الأخرى في الأغلبية. فكل هذه المظاهر تبرز ليس فقط درجة الخلط والالتباس لدى الرأي العام بسبب اختلاط الأوراق وتضارب المواقف، ولكن كذلك تصدع الائتلاف الحكومي وضبابية آفاق التدبير الحكومي للشأن العام، فضلا عن الصعوبات التي تواجهها أحزاب الأغلبية في الالتزام بالانضباط والانسجام، مما يعقد مسؤولية رئيس الأغلبية في مواجهة إكراهات الحفاظ على التجانس والتضامن الحكومي. وإذا كانت هذه الانتخابات الجزئية قد أدت إلى منح المقاعد الخمسة المتبارى عليها لأحزاب الأغلبية، فإنها شكلت خيبة أمل بالنسبة إلى أحزاب المعارضة؛ وهي، بدون شك، مؤشر على ضعف حضور أحزاب المعارضة في هذا النزال الانتخابي، مما يفرض على هذه الأحزاب مراجعة منهجية اشتغالها وتطوير آليات التنسيق في ما بينها. وبالفعل، فإنه في الوقت الذي لا يمكن فيه انتظار فعالية العمل الحكومي بدون انسجام بين مكونات الأغلبية وتضامنها، فإنه لا يمكن لعمل المعارضة أن يكون ناجعا وقويا بدون تنسيق وتعاون بين أحزاب المعارضة؛ فبدون ذلك تبقى الجهود محدودة، فضلا عما يؤدي إليه ذلك من تناقض وتضارب في المواقف والاقتراحات. لذلك، فالقراءة المتأنية للفصل العاشر من الدستور تبرز أن حقوق المعارضة تحدد دستوريا للمعارضة كمؤسسة، أي كمعارضة واحدة وليس كمعارضات في مواجهة الحكومة ككتلة واحدة. صحيح أن الوضعية الحالية للأحزاب المكونة للمعارضة البرلمانية لا تسمح كثيرا بالانتقال إلى المعارضة كمؤسسة، لكون الأمر يتعلق بأربعة أحزاب، لكل واحد منها خصوصيته ومرجعياته الخاصة، لكن الضرورة تفرض التوافق من أجل التكتل الجماعي لممارسة المعارضة وفق ما يسطره الدستور من مبادئ وما يضمنه من حقوق. ومن شأن هذا التكتل أن يساهم في معالجة النقائص التي تعتري أداء المعارضة، وهي نقائص أدت إلى حد الآن إلى اتساع دائرة الانتقادات الموجهة إلى المعارضة. وهكذا، فإذا كان نجاح التجربة الحالية يتوقف على حكومة منسجمة في مكوناتها وفعالة في أدائها فإن دعامة هذا النجاح تتطلب معارضة قوية وبناءة باقتراحاتها البديلة وتصديها للمشاكل المطروحة بجرأة وحضورها الدائم والمستمر لمتابعة الملفات والقضايا ومراقبة العمل الحكومي بكل يقظة ونجاعة. تلك هي مواصفات المعارضة المؤسساتية وفق منظور الدستور الجديد؛ وهي تطرح، بدون شك، تحديات معقدة أمام أحزاب المعارضة لما تتطلبه مواجهتها من تنظيم محكم وحضور قوي وأداء فعال ومسؤولية جسيمة.