إن صدور دستور جديد، ارتقى بالقضاء إلى مستوى سلطة قضائية مستقلة وعمل على تعزيز مكانة المجلس الأعلى للسلطة القضائية من خلال توسيع تشكيلته وانفتاحه على فعاليات حقوقية من خارج الجسم القضائي، يفرض على المجلس الأعلى للقضاء، بالرغم من خضوعه لنصوص قديمة في طور التغيير وعمله بتشكيلته الحالية مغلقة الارتقاء بطريقة عمله من خلال المزيد من الحرص على ضمان الموضوعية والشفافية والتجرد، من جهة، كما أنه يحتم على كل الفاعلين والمهتمين بسبل إصلاح منظومة العدالة، من جهة أخرى، إعادة فتح النقاش الجاد والمسؤول حول تقنين المعايير التي سيعمل بها المجلس الأعلى للسلطة القضائية بعد تشكيله عند البت في التعيينات أو الانتقالات أو حتى إسناد مناصب المسؤولية، من خلال الانفتاح على التجارب الدولية الرائدة في هذا المجال واستلهام روح التغيير التي كرسها التعديل الدستوري الجديد من خلال إدخال معايير جديدة في مجال التعيينات، أهمها مراعاة البعد الجهوي لأن القاضي يبقى ابن بيئته، وهو ما يفرض مراعاة مدى تمثيلية الجهات ومدى حضور كل جهة في خريطة كل فوج مع إيلاء أهمية قصوى للغة الأمازيغية، التي أضحت لغة رسمية، ومراجعة النصوص التي لا تراعي هذا البعد الجديد كمدخل رئيسي وأساسي لإصلاح منظومة العدالة في بعدها الجهوي وتحقيق مزيد من القرب؛ دون أن نغفل ضرورة مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي في التعيينات الجديدة، ليس فقط من خلال إعطاء الأولوية للمرأة القاضية في اختيار محاكم التعيين وإنما أيضا من خلال محاولة جندرة الخريطة القضائية، إذ إن إلقاء نظرة بسيطة عليها يكشف وجود محاكم ذكورية بامتياز، من بينها بعض المحاكم في الأطلس أو في الريف وحتى في الأقاليم الجنوبية، وهو معطى يمكن قراءته من زاويتين، الأولى إيجابية تكشف عن كون المجلس الأعلى للقضاء يراعي مقاربة النوع الاجتماعي في التعيينات ويعفي المرأة القاضية من العمل في بعض المحاكم المصنفة ضمن المناطق «جيم» أو المناطق النائية؛ أما الزاوية الثانية فهي سلبية لأنها تكشف عن كون نفس المجلس يغفل مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي كحق للمتقاضين أو لنساء بعض المناطق، إذ إن وجود محاكم «ذكورية» قد يؤثر، بشكل أو بآخر، على المرأة كمتقاضية ولو من الناحية النفسية عند ولوج مرفق القضاء، ولاسيما في بعض المواد كقضايا الأسرة أو العنف القائم على النوع الاجتماعي. وفي الأخير، لا بد من الاعتراف بأن موضوع البت في تعيينات القضاة المتخرجين حديثا يبقى على درجة كبيرة من الحساسية التي مردها بالأساس كونه يشكل بداية الانخراط الحقيقي والفعلي للقضاة في مسارهم المهني، إذ إن عدم التحلي بالموضوعية والشفافية والتجرد بهذا الصدد يشكل أول مدخل للمس باستقلال القضاة، وهو ما يفرض إيلاءه أهمية قصوى من طرف المجلس الأعلى للقضاء من خلال الإعلان الدقيق عن المعايير التي يعتمد عليها ومحاولة مد جسور التواصل مع القضاة بعد سنوات من القطيعة التي فرضتها طريقة تعامل المجلس الأعلى للقضاء في إهدار كامل لمبدأ حق القضاة في الوصول إلى المعلومة وتمييز واضح بين القضاة على مستوى معايير التعيين. ولا شك أن إعادة الثقة إلى القضاة في طريقة عمل المجلس تستوجب، أيضا، خلق موقع إلكتروني للمجلس حتى يسهل تواصل القضاة، عموما، مع هذه المؤسسة لوضع حد للمعاناة التي كان يتكبدها القضاة من أجل معرفة نتائج المجلس. كما أن نشر هذه النتائج مع نشر المعايير المعتمد عليها كفيل بتحقيق نوع من الاطمئنان لدى القضاة وشعورهم بالمساواة أمام القانون وأمام المجلس الأعلى للقضاء الذي من المفترض أن يشكل إحدى أهم ضمانات استقلال السلطة القضائية، لا أن يسهم في المس بالاستقلالية المنشودة أو تهديدها، وهو ما أشار إليه، وبكل وضوح وحزم، الخطابُ الملكي السامي للملك محمد السادس بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ فاتح مارس 2002 والذي جاء فيه: «ينبغي للمجلس أن يعمل بنفس الحزم والعزم على النهوض بدوره الأساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة معتمدا المساواة والتجرد في تدبير وضعيتهم المهنية»، ويتعين على المجلس أيضا أن «ينأى بنفسه وبصفة نهائية عن كل النزعات الفئوية المهنية والانتخابوية الضيقة والممارسات المنحازة حتى يحقق لذاته الاستقلال اللازم ويدرك بنفسه ويرسخ الوعي لدى الغير بأن الاستقلال هو الشرط الملازم للمسؤولية، جاعلا مصلحة الأمة فوق كل اعتبار».