«الممانع المعاصر» هو، في تعريف مبسّط، ذاك الذي يساند النظام السوري لأنّ الأخير «ممانع» بدوره، حتى إذا كان أودى بحياة أكثر من 70 ألف مواطن سوري، بين طفل وشيخ وامرأة ورجل؛ وحتى إذا استخدم كلّ صنوف أسلحة «الجيش الممانع»، ليس ضدّ العدو الإسرائيلي، بل ضدّ الشعب السوري، وحده وحصريا؛ وحتى إذا ألحق الخراب باقتصاد سورية وزراعتها وصناعتها وتجارتها، ودمّر معمار البلد، وبنيته التحتية، والكثير من معالمه التاريخية. ورغم كل ما تكشّف، ويتكشف، عن حقائق الموقف الأمريكي، الذي يسكت عن خيارات الأسد العنفية الوحشية، وينتهي عمليا إلى تشجيعه في المضيّ إلى خيارات أشدّ إيغالا في العنف، فإن إيمان «الممانع المعاصر» بأن ما يتعرض له النظام السوري هو مؤامرة أمريكية صهيونية وهابية قطرية... راسخ لا يتزحزح! ولأنه عربي غالبا، وأكثر حضورا على الساحة من نظرائه السوريين أتباع النظام ومواليه، فإن هذا «الممانع المعاصر» يساند أيضا انخراط «حزب الله» اللبناني في القتال مع النظام السوري، ليس «دفاعا عن المواطنين اللبنانيين داخل القرى الحدودية المحاذية»، وهو التعبير الملطّف الذي ينوب عن المسمّى الفعلي: كوادر الحزب في هذه القرى، فحسب؛ بل في العمق السوري الذي يتجاوز مناطق القصير وتخوم حمص المحاذية لقرى طرطوس، ليبلغ ريف دمشق، وقلب العاصمة السورية ذاتها. وإذ يجد بعض الحرج في الموافقة على «لمّ شمل ممانع» يمكن أن يضمّ نوري المالكي، صنيعة الاحتلال الأمريكي، والوجه الطائفي البغيض لولادات ومآلات ذلك الاحتلال، فإن صاحبنا، «الممانع المعاصر» نفسه، يلهج بالدعاء لما يُسمّى «محور الممانعة» الممتد من طهران الوالي الفقيه، إلى بغداد النوري، ودمشق الأسد، وصولا إلى ضاحية حسن نصر الله، ليس دون إلقاء التحية على أحمد جبريل! ثمة، إلى هذا، تطورات دراماتيكية شهدتها مؤخرا هضبة الجولان السورية المحتلة، لا ينفع معها سكوت صاحبنا إلا بمعنى تسليمه الصامت بأن «الممانعة» يمكن أن تكتسب صفة الخيانة الوطنية، وتبقى مع ذلك ممانِعة مقاوِمة مناهضة للإمبريالية والصهيونية والرجعية... على سبيل المثال، يقول تطور أوّل إن الأسد سحب معظم وحدات الفرقة الخامسة المدرعة، وخاصة سرايا المدفعية الثقيلة، من مناطق انتشارها في الجولان، ليُعاد نشرها على خطوط المواجهة مع كتائب «الجيش السوري الحرّ» في ريف دمشق، وفي حمص، وطرطوس. تطوّر آخر يقول إن سبعة جنود سوريين جُرحوا في الجولان، وانسحبت وحداتهم من أرض المعركة مع مقاتلي الجيش الحرّ، دون أن توفر لهم الإسعاف الطبي، فتدخلت قوات الاحتلال الإسرائيلية ونقلتهم إلى مشفى في صفد. صحيح أن مثل هذه التطورات فاضحة، وفاقعة، ويتوجب أن تفقأ الأعين قبل أن تلجم الألسنة، إلا أن لصاحبنا «الممانع المعاصر» سوابق كثيرة في تمرير الفاقع والفاضح، هذا عدا عن التغني بكلّ ما هو غوغائي ديماغوجي، صدر ويصدر عن الأسد نفسه، رأس هذا النظام «الممانِع»، وعلى مراحل متتالية متعاقبة، لعلها بدأت منذ الأشهر الأولى لتوريثه، بعد وفاة أبيه، في يونيو سنة 2000. وهكذا، تعيدنا سابقة أولى إلى قمّة عمّان، ربيع 2001، ولم يكن آنذاك قد أكمل سنته الأولى في وراثة السلطة، حين استفاض الأسد في تقريع أخوته أصحاب السيادة والجلالة والسموّ، لأنهم يسيرون بالأمّة العربية من ضعف إلى ضعف. ولقد حثهم، وكان أصغرهم سنّا وأحدثهم عهدا بالحكم، على «زيادة الإيجابيات على حساب السلبيات، وتعزيز نقاط القوّة مقابل تقليص نقاط الضعف التي ما تزال كثيرة، وعلى رأسها سوء التقدير وعدم قراءة الأحداث بشكلها الصحيح». ما الذي كان بديل الأسد؟ هذا الاقتراح، بالحرف: «نحن ثلاثمائة مليون عربي، وعندما نتخذ القرار الجريء والواضح فالثلاثمائة مليون سيدعموننا ماديا ومعنويا، وعدا ذلك لن يقف معنا لا عربي ولا غير عربي، وسننتقل من ضعف إلى ضعف. فإذن، يجب أن نكون واعين لعدم الوقوع في فخّ ربط مواقفنا وسياساتنا تجاه قضايانا بالأشخاص في إسرائيل، بل يجب ربط هذه المواقف والسياسات بالشارع الإسرائيلي الذي يظهر يوما بعد يوم أنه ضدّ السلام. نربط هذه المواقف بالشارع الإسرائيلي، وهذا يعنى أن كل إسرائيلي مسؤول عن كل شبر من الأرض العربية. كل إسرائيلي مسؤول عن روح كل مواطن عربي أو عن روح كل مواطن عربي يمكن أن تزهق أو تزهق الآن؛ بالتالي، فإن الربط، ربط هذه المواقف بالأشخاص، هو ربط مؤقت، وهذا يعنى أنه كلما أتى شخص نختلف على تقييمه، وبالتالي علينا أن نلتقي أو نفترق حسب تبدل الحكومات والأشخاص، وهذا لا يجوز». لم يكن يجوز، بالفعل، مع فارق أنه كان ينطبق على القائل قبل السامعين، ولاسيما أن أشهر معدودات كانت قد سبقت رهان النظام السوري على حكومة إيهود باراك، في البيت الأبيض كما في جنيف، قبل أن ينزل بالأخير عقاب الشارع الإسرائيلي، فيأتي بجنرال مجزرة صبرا وشاتيلا، بيروت 1982، على حساب جنرال مجزرة فردان، بيروت 1973. ولم تكن الملايين العربية الثلاثمائة، وهي الآن تقارب نصف المليار بحمد الله، تنتظر أمرا قدر انتظارها ذلك «القرار الجريء» من نظام أحل السلام في بطاح الجولان المحتلّ وهضابه، حتى قبل، ودون، توقيع اتفاقية سلام نهائية! بيد أن خطبة الأسد كانت أقرب إلى كلمة حقّ يُراد منها ذرّ الرماد في العيون، كما برهنت الأشهر القليلة اللاحقة، حين ذهبت المفردات أدراج الرياح، أسرع ممّا انتظر أصحاب السيادة والجلالة والسموّ، الذين أنصتوا للوريث الشابّ يتلو عليهم مزامير سمعوها من قبل، وملّوا من اختراع أمثالها أو اجترارها. لقد بدأ بمزيد من إضعاف الداخل السوري، أو ما تسمّيه عقيدة حزب البعث «الجبهة الداخلية»، فبطش ب»ربيع دمشق» وزجّ العشرات في المعتقلات، قبل إحالتهم إلى محاكم/مهازل قضائية؛ وأعاد طرائق القمع إلى أطوار بلغ بعضها في السوء درجات أشدّ مما كانت عليه أثناء حكم أبيه، وأطلق الذئاب الكاسرة، وليس القطط السمان وحدها، كي تعيث في البلد فسادا ونهبا. أمّا على صعيد «الجبهة الخارجية»، إذا جاز الاشتقاق من المصطلح البعثي، فإن مسلسل المفاوضات السرّية والعلنية، المباشرة أو غير المباشرة أو عن طريق الوسطاء، كان أكثر وضوحا من أن يحتجب أو يُحجب. بعد ثماني سنوات، وفي قمّة الدوحة التي خُصّصت للعدوان الإسرائيلي على غزّة، ورغم عشرات «الأقوال المأثورة» التي ابتدعها والده حافظ الأسد حول الصراع العربي الإسرائيلي ومسائل الحرب والسلام، شاء الأسد الابن الذهاب إلى ميراث الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، واختار العبارة الأشهر والأكثر جريا على الألسن: «ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد بغير القوّة»! وقبل عبد الناصر، كان قد لجأ إلى الحديث النبوي («المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»)، ثمّ إلى سفر «الخروج» في العهد القديم («العين بالعين والسنّ بالسنّ»)، مشدّدا على أن البادئ أظلم... فبأيّ قوة، يسأل المرء أوّلا، كان يمكن للنظام السوري أن يستردّ الجولان المحتل، ويتخذ صفة «المؤمن القوي»، ويقتلع من العدوّ سنّا بعد عين؟ لم تكن القوّة العسكرية، بالتأكيد، إلا إذا كان الأسد يستغفل ملايين السوريين بادئ ذي بدء، ثمّ مئات ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، وهذه تعرف البئر وغطاءه حول ما حلّ بالجيوش العربية عموما، والجيش السوري خاصة، على أيدي أنظمة الاستبداد والوراثة والفساد. وفي كلّ حال، لقد خضعت «قوّة» النظام العسكرية إلى امتحانات عديدة بعدئذ: قصف القافلة العسكرية المتوجهة إلى ترسانة «حزب الله» مؤخرا، وقبلها الإنزال الأمريكي داخل العمق السوري في منطقة البوكمال، وقصف موقع «الكبر» العسكري، تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الاستراحة الرئاسية في اللاذقية، قصف معسكر «عين الصاحب» غرب دمشق، لكي لا يعود المرء بالذاكرة أبعد... أم كانت «قوّة» سياسية، عمادها أوراق النظام «الممانِعة» تحديدا، خاصة العلاقة مع إيران و«حزب الله»، فضلا عن الورقة الأهمّ المتمثلة في حرص إسرائيل، والولاياتالمتحدة أساسا، على عدم المساس بما كانوا يسمّونه «الاستقرار المجتمعي» في سورية، تفاديا لفتح ساحة صراع جديدة؟ ثمّ أليست هذه الأوراق، جميعها، للنظام مرّة، مثلما هي عليه مرّة أخرى، طبقا لما يستجدّ أو يتبدّل من موازين قوى ومعادلات جيو-سياسية؛ خاصة وأن السياسة في الشرق الأوسط، وفي إطارات إقليمية أوسع نطاقا، لم تعد تقبل الكثير من الاصطفافات القصوى، البيضاء أو السوداء فقط؟ كذلك بدا ثابتا، في المنطق الحسابي البسيط قبل ذاك السياسي الذرائعي، أن ما تجنيه إيران أو «حزب الله» من مغانم تكتيكية أو ستراتيجية جراء هذه أو تلك من آثار الاحتقان أو المقاومة أو الوفاق في المنطقة، لن يصبّ إلا جزئيا في رصيد النظام السوري؛ أو، بالأحرى، لن تكون حصّة النظام منه إلا ثانوية، لاحقة وجانبية بالقياس إلى الحصص الأصلية التي تصنعها الأطراف بنفسها، لنفسها. وتلك حصة لا تقيم أود النظام إلا مؤقتا، واقعة بواقعة، واصطفافا باصطفاف، وما هو مطلوب لم يكن يقلّ البتة عن ضمان أمن النظام في المدى البعيد، وعلى نحو راسخ لا توفره جهة إقليمية أفضل من إسرائيل، ولا قوّة كونية سوى الولاياتالمتحدة (ومن هنا إصرار الأسدَين، الأب والابن، على أن تكون أمريكا هي راعية المفاوضات السورية-الإسرائيلية). ولا بد أن يكون المرء على درجة استثنائية في السذاجة لكي يصدق أن الأسد، المؤمن بمبدأ «ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة» في قمة الدوحة تلك، هو نفسه الأسد، الذي سوف يقول، بعد أيام قليلة فقط، إنه يبني مع الإسرائيليين «عمارة سلام»؛ ففي مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الكرواتي، قال الأسد بالحرف: «من الطبيعي أن ننتقل، في مرحلة لاحقة، إلى المفاوضات المباشرة. فنحن ليس بوسعنا تحقيق السلام عبر المفاوضات غير المباشرة فقط»، وشبّه عملية السلام بمشروع تشييد مبنى، قائلا إن إسرائيل وسورية «تضعان الآن الأساس للسلام من خلال المحادثات غير المباشرة عبر الوسيط التركي»! أو هو الأسد نفسه، الذي يدكّ، اليوم، قرى وبلدات ومدن ومخابز ومساجد وكنائس السوريين؛ ويسحب جيشه الموالي من الجولان المحتل، تاركا إسرائيل تعربد هناك، معربدا من جانبه في دمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور. فإذا لم يكن المرء ساذجا هكذا، فإنه أغلب الظن من فئة صاحبنا «الممانع المعاصر»: أصمّ وأبكم وأعمى، لا سبيل في ضميره لافتضاح المفتضَح!