انشغلت الساحة السياسية العربية في الأعوام القليلة الماضية بتقسيمات مبنية على شعارات فضفافة، أدّت إلى توترات إقليمية بين أطراف عربية، لم تكن الساحة العربية بحاجة لها لمزيد من الانقسام والتشتت والفرقة. وكانت أهم هذه التقسيمات ما شاع بعد حرب يوليو 2006 بين حزب الله اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي، ووزعت تلك التقسيمات الدول العربية بين فريقين: الأول: فريق دول الممانعة والمقاومة الذي تترأسه وتتزعمه وتقوده سوريا. الثاني: فريق دول الاعتدال، وغالبا كان يقصد به مصر والمملكة السعودية والأردن وغيرها من دول عربية. كان من المنطقي والموضوعي تصديق هذا التقسيم، لو أنّ هناك فوارق ميدانية عملية بين دول الفريقين، إلا أنّ الموضوعية تقتضي التأكيد أنّ الفريقين من هذه الدول العربية، لا تختلف مطلقا في تطبيقاتها الميدانية إزاء الاحتلال الإسرائيلي. فدول مثل مصر وقعت اتفاقية السلام والصلح مع إسرائيل في زمن الرئيس السادات في مارس 1979 التي عرفت بإسم “اتفاقية كامب ديفيد”، واستعادت مصر بناءا عليها كافة أراضيها المحتلة منذ عام 1967 ، التي لم يتم تحريرها بعد حرب أكتوبر عام 1973 . هذا بينما سوريا المحتلة أراضيها في هضبة الجولان منذ عام 1967 لم تطلق رصاصة واحدة، ولم تنظّم أية مقاومة مسلحة أو شعبية في داخل الجولان لتحريره، وكانت وما زالت تمنع أية عمليات مسلحة من حدودها ضد الدولة الإسرائيلية، وكانت توجه من يريد فعل هذه العمليات إلى جنوب لبنان، وتسهل وصوله إلى هناك، وكان هذا يمارس مع كل المنظمات الفلسطينية. وقد استمرت سوريا في مفاوضاتها السياسية السرّية والعلنية مع دولة إسرائيل منذ زمن الرئيس حافظ الأسد، واستمرارا في زمن نجله الرئيس بشار الأسد، عبر وساطات تركية وغيرها، من أجل الوصول إلى تسوية سلمية تضمن الانسحاب الإسرائيلي من جولانها المحتل، وهذا حق منطقي ودولي لها. وبالتالي لماذا مفاوضات السلام الساداتية كانت خيانة، بينما مفاوضات السلام الأسدية مقاومة وممانعة، مع أن مفاوضات السادات أعادت كامل الأراضي المصرية المحتلة، ومفاوضات الأسد ما زالت تسعى لذلك بالنسبة للجولان السوري. فتنة أشباه الرجال ازداد الوضع العربي تأزما وانقساما رغم عدم وجود فوارق بين أي معسكرين كما أوضحنا، بعد حرب حزب الله مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في يوليو 2006 ، وتداول إشاعات وأوهام حول تأييد بعض الدول العربية للعدوان الإسرائيلي، ومزايدة بعض الدول العربية الخطابية، واشتعل الموقف الانقسامي بعد خطاب الرئيس بشار الأسد في البرلمان السوري بعد تلك الحرب، حيث لمّح بشكل غير مباشر لبعض الدول العربية، مستعملا صفة (اشباه الرجال)، فإذا الحكام العرب حسب الرئيس الأسد فريقين (رجال) و ( اشباه رجال)، رغم أن الجميع في خانة واحدة لا يطلقون رصاصة على الاحتلال الإسرائيلي، بينما يزايد بعضهم بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية. وهذه المزايدة الكلامية كانت سبب الخلاف أو المشادة الكلامية بين الرئيسين الأسد ومحمود عباس في قمة سرت الأخيرة. إذ نقلت مصادر فلسطينية وعربية حضرت الجلسة المغلقة في القمة العربية المذكورة ، أنّ المشادة بدأت عندما تحدث الرئيس الأسد ( أنه ليس من صلاحيات لجنة المتابعة العربية اتخاذ قرارات بشأن المفاوضات، وانتقد موقف السلطة الفلسطينية إزاء المصالحة وتحدث عن خيار المقاومة). فردّ عليه الرئيس محمود عباس بحدة قائلا: ” نحن لا نطلب من أحد أن يغطّي خطواتنا. نحن نعرف مصالح شعبنا وأمناء عليها، ولا نريد تغطية من أحد. إذا كان هناك من يعتقد أنه يجب عدم مناقشة تطورات القضية الفلسطنية في الجامعة والقمة العربية، فهذا شيء آخر، وإذا أردتم ذلك فليكن. أما عن خيار المقاومة، فنحن من إخترع المقاومة، ومن درّب الآخرين، ومن قدّم قوافل الشهداء، وإذا كان القرار العربي هو خيار الحرب، فلتتخذوا القرار ونحن معكم. ولكم نرجوكم كفى..لا تقاتلوا بنا”. مقاومة بدماء آخرين ومزايدات كلامية وتطورت المشادة خارج القاعة، عندما وقف مسؤول فلسطيني مشارك في القمة، متحدثا بصوت عال وانفعال شديد مع مشاركين عرب عن مسيرة الخلاف الفلسطيني السوري طوال نصف القرن الماضي، صارخا ” إنها خلافات سببها المقاومة التي يزايدون باسمها منذ سنوات. هل تتذكرون اعتقال نظام حافظ الأسد للمرحوم المناضل الدكتور جورج حبش عام 1968 ، وقيام رفيقه المرحوم الدكتور وديع حداد مع مجموعة من الجبهة الشعبية باقتحام السجن وتحريره وتهريبه إلى لبنان؟. هل تنسون مجزرة وحصار مخيم تل الزعتر عام 1976 التي ارتكبتها ميليشيات كميل شمعون بعد أيام قليلة من دخول الجيش السوري إلى لبنان، وعدم تحرك هذا الجيش لنجدة المحاصرين ووقف جرائم الميليشيات الشمعونية التي أودت بحياة مئات من سكان المخيم طوال الحصار الذي استمر أكثر من خمسة شهور، على مرأى ومسمع وسكوت كامل من القوات السورية؟. هل نسيتم قيام نظام حافظ الأسد بطرد القائدين الشهيدين ياسر عرفات وخليل الوزير من دمشق عام 1983 ؟ هل نسيتم اعتقال عشرات المناضلين الفلسطينيين من كافة الجبهات والتنظيمات، ومنهم صلاح صلاح عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية، وتوفيق الطيراوي مدير المخابرات الفلسطينية. هل نسيتم حصار النظام السوري والمنشقين الفلسطينيين لياسر عرفات ومقالتليه في مخيم طرابلس شمال لبنان عام 1983 لمدة زادت عن ثلاثة شهور، سقط فيها أكثر من ألف قتيل فلسطيني، ولم ينج عرفات وخليل الوزير وحوالي خمسة ألاف من مقاتليهم إلا بعد التدخل اليوناني الفرنسي، حيث خرجوا على متن خمسة سفن يونانية بحراسة وحماية البحرية الفرنسية”. هذا بينما انتقد مصدر دبلوماسي عربي، شارك في القمة العربية في سرت ، الموقف السوري من موضوع المقاومة قائلا: ( استغربنا تشديد الرئيس السوري على المقاومة، في حين أنّ منسوب المقاومة الرسمية والتنظيمية في هضبة الجولان تساوي صفرا، فهل يقصد الرئيس السوري أن نقاوم على طريقته في الجولان، وأن ندفع الجنود الإسرائيليين للتثاؤب من قلة المقاومة). وفي الصحافة السورية أيضا، نفس التنظير لهذا النوع من المقاومة وانتقاد أشباه الرجال، فالصحفي السوري خلف علي المفتاح، كتب تعليقا على خطاب الرئيس السوري المذكور، في موقع الفرات الصادر عن دار الوحدة السورية، بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر 2006 قائلا: ( ولعل حكمة تقول كلما كثر أعداؤك فاعلن أنك القوي، والعداوة هنا من اشباه الحكام واشباه الرجال أو أنصافهم، فالمسيرة المظفرة التي بدأتها المقاومة قتاليا في لبنان وسياسيا في سورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، مفتوحة لمن يريد الانضمام إليها لأن مسيرة واثقة من النصر،لا تنظر إلى الواقع باستاتيكيته وجموده، بل ديناميته وفعله التاريخي المنتصر دائما). تخيلوا هذا التحليل والتفريق بين (مقاومة قتالية لبنانية) و (مقاومة سياسية سورية)؟. حسب هذا المنطق الفارغ من أي محتوى فكل العرب مقاومين سياسيا كونهم لا يعترفون بدولة إسرائيل، ولا يتفاوضون معها ، بينما المقاومة السياسية السورية تتفاوض سرا وعلنا، لإرجاع جولانها المحتل، ونقول هذا حق لها يجب دعمه وتأييده، فقط بعيدا عن هذه المزايدات التي لا تنطلي على عاقل أو وطني. الرئيس بشاريضع حدا لهذه المزايدات وأخيرا يضع الرئيس بشار الأسد حدا لهذه المزايدات، وتصنيفات الرجال وأشباه الرجال، وذلك في تصريحه للصحافة القبرصية والعالمية يوم الخميس الرابع من نوفمبر الحالي، وهو تصريح مهم نقلته كافة وكالات الأنباء العالمية والسورية والمجموعة اللبنانية للإعلام (قناة المنار) التابعة لحزب الله، حيث قال الرئيس بشار حرفيا: ( إن الطريق الوحيد للسلام في المنطقة هو بالمفاوضات بهدف توقيع اتفاقية سلام تعيد الأمور إلى طبيعتها). مؤكدا على عودة الجولان المحتل والالتزام بالشرعية الدولية. أعتقد أنّ هذا التصريح الجريء من الرئيس بشار الأسد، يضع حدا لكل مزايدات التقسيم بين ممانعة واعتدال، وبالتالي يلغي خيار المقاومة من خلال قوله (الطريق الوحيد )، أي لا خيار سوى المفاوضات ، ومن شأنه أن يفتح الطريق لمصالحات عربية، خاصة بين الدول العربية المهمة المؤثرة، فبعد هذا التصريح لم يعد هناك رجال أو اشباه رجال، بل الكل رجال من نفس النوع والمواصفات، همهم السلام الحقيقي العادل الذي يعيد كل أرض محتلة لأهلها من خلال المفاوضات حسب تشديد الرئيس بشار، بغض النظر عن نوع الاحتلال وجنسيته، وبالتالي يتطلب هذا الدعم العربي الكامل للنظام والشعب السوري لإعادة جولانه المحتل منذ عام 1967 ....فهل تبدأ مصالحات عربية صريحة وصادقة رغم تعقد بعض ملفاتها المحتوية على موضوعات أخرى سنتطرق لها لاحقا؟. [email protected] www.dr-abumatar.net