ما دام إعلام النظام السوري لا يكذب فقط، بصدد إغارة سلاح الطيران الإسرائيلي على مواقع عسكرية داخل سورية، بل يستغفل عقول البشر على النحو الأشدّ ابتذالا، فإن من الطبيعي لأي صاحب عقل، أو أي آدمي غير مغفل ببساطة، أن يلجأ إلى المنطق البسيط وبعض المعلومات الشحيحة ليقلّب الرأي في أمر هذه الغارة. المفارقة الدائمة، في ملابسات كهذه تحديدا، أن المرء -والمواطن السوري، بصفة خاصة- يجد نفسه مضطرا إلى استقبال سيل من التفاصيل الملموسة، تأتي من مصادر الإعلام الإسرائيلي، ثمّ العالمي؛ تنبع جاذبيتها الأولى من أنها تتسم بدرجات من الترجيح المنطقي غير ضئيلة، خاصة إذا ما وُضعت على محك المقارنة مع وقائع أخرى ذات سياقات مماثلة. وهكذا، نقلت وكالة أنباء النظام (سانا)، عن بيان لقيادة الجيش، التالي: «اخترقت طائرات حربية إسرائيلية مجالنا الجوي (...) وقصفت بشكل مباشر أحد مراكز البحث العلمي المسؤولة عن رفع مستوى المقاومة والدفاع عن النفس الواقع في منطقة جمرايا بريف دمشق، وذلك بعد أن قامت المجموعات الإرهابية بمحاولات عديدة فاشلة وعلى مدى أشهر للدخول والاستيلاء على الموقع المذكور». بعبارة أخرى، ما فشلت فيه «المجموعات الإرهابية»، وهي التسمية التي يطلقها النظام على كتائب «الجيش الحرّ»، نجح في تنفيذه سلاح الجو الإسرائيلي؛ الأمر الذي يعني أن التنسيق بين العدو الصهيوني والمعارضة السورية ليس على قدم وساق فحسب، بل هو يرقى إلى مصافّ تنفيذ المهام العسكرية المباشرة، وخاصة ضدّ المواقع التي ترفع «مستوى المقاومة» داخل صفّ النظام! فهل يُلام المرء إذا ضرب كفا بكفّ إزاء هذا الاستغفال الفاضح، بقدر ما هو مفضوح، ومضى يلتمس تأويلا أكثر عقلانية، في هذه الرواية الأخرى: أن الغارة استهدفت قافلة عسكرية كانت تنقل شحنات من صواريخ SA-17 روسية الصنع، في طريقها إلى مخازن «حزب الله»، في لبنان؟ ألا يجوز للمرء ذاته أن يتذكّر «المحرّمات» التي فرضتها إسرائيل على النظام، في الشطر التسليحي من علاقاته ب»حزب الله»، وعلى رأسها عدم السماح بمرور أسلحة صاروخية (مضادة للطائرات، مضادة للزوارق الحربية، أو أرض/أرض بعيدة المدى وعالية الدقة، إيرانية أو روسية الصنع)؛ يمكن أن تغيّر «قواعد اللعبة»، حسب تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت؟ وإذا جاز ذهاب المرء خطوة أخرى، كلاسيكية بقدر ما هي مأساوية، فإن السؤال التالي يصبح تحصيل حاصل، واجبا في الواقع: ما قول النظام «الممانع»، في طائراته الحربية التي تقصف السوريين في قرى وبلدات ريف دمشق، ثمّ تولّي الأدبار في وجه طيران العدو الإسرائيلي، الذي يعربد على مبعدة كيلومترات قليلة؟ وما قول قيادة «حزب الله» في هذا «الانتهاك»، لكي لا ترد إلى البال مفردة «عدوان» على «سورية حافظ وبشار الأسد»، حسب التوصيفات الأثيرة التي تجري على لسان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب؟ وأخيرا، ما قول علي أكبر ولايتي، «المساعد الرفيع للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية»، في أن «بشار الأسد خط أحمر»: هل يصبح الأحمر أي لون آخر، أخضر مثلا، إذا اختطته إسرائيل؟ والحال أن سوابق النظام في التشاطر، وكذلك سوابق حلفائه في انتهاج التواطؤ الصامت، ليست قليلة أو عابرة، في الكمّ كما في النوع، وخاصة خلال عامَيْ 2007 2008. وكيف لا تُستعاد تلك الغارة الصاعقة، خريف 2007، حين قامت قاذفات إسرائيلية باختراق حرمة الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد اختراق جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافا حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة في المنطقة الشرقية الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري العراقي التركي، مرورا بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وعادت أدراجها سالمة مطمئنة؟ وكيف لا يُستعاد، أيضا، اغتيال العميد محمد سليمان، والإنزال الأمريكي داخل العمق السوري في منطقة البوكمال، وتحليق القاذفات الإسرائيلية فوق الاستراحة الرئاسية في اللاذقية، وقصف معسكر «عين الصاحب» غرب دمشق، لكي لا نعود بالذاكرة إلى اجتياح بيروت سنة 1982؟ بيد أن الواقعة التي لا غنى عنها هنا، لأنها تشمل النظام و«حزب الله» وإيران وخرافة «الممانعة» في آن معا، هي اغتيال عماد مغنية، المقاوِم اللبناني الإسلامي الأشهر ربما، والقيادي العسكري الأبرز في «حزب الله»، والذي قد يكون احتلّ -قبيل أسابيع قليلة من اغتياله في دمشق بتاريخ 12 فبراير 2008- موقع الشخصية الثانية في الحزب بعد نصر الله. ولا غنى، بادئ ذي بدء، عن استذكار التصريح الشهير الذي أطلقه وليد المعلم، وزير خارجية النظام، بعد ساعات أعقبت اغتيال مغنية، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي: «سنثبت بالدليل القاطع الجهة التي تورطت في الجريمة، ومن يقف خلفها»! وللمرء أن يضرب صفحا عن التقارير المتضاربة التي تناولت واقعة الاغتيال، سواء تلك التي نُسبت إلى أرملة مغنية، من اتهام صريح لأجهزة الأمن السورية بالتورّط في العملية (قولها، إذا صحّ أنها القائلة: «لقد سهّل السوريون قتل زوجي»، و»رفض سورية مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ على تورط نظام دمشق في قتل عماد»، فضلا عن تلميحها إلى «الخيانة» و«الغدر»)، أو تلك التي صدرت عن وكالة أنباء «فارس» الإيرانية، ثمّ صحيفة «كيهان»، حول دور سعودي في تنفيذ عملية الاغتيال، بتورّط مباشر من رئيس مجلس الأمن القومي السعودي آنذاك، بندر بن سلطان، نفسه، أو، أخيرا، ما أشيع عن إرجاء السلطات السورية إعلان نتائج التحقيقات إلى ما بعد مؤتمر القمّة العربية، في إبريل تلك السنة، وما تلاه من نفي سوري رسمي لهذه التقارير... وأن يضرب المرء صفحا عن هذه المعطيات أمر لا يعني البتة تجريدها من كل صحة أو مصداقية أو قيمة، إنْ لم يكن بسبب معيار الاختبار القديم الذي يقول إن الدخان لا يتصاعد من غير نار؛ فعلى أقل تقدير لأن جهات ملموسة، رسمية أو شبه رسمية، ذات عناوين بيّنة وصلات وثيقة، كانت هي -وليس أيّ تكهن، أو تلفيق، أو ضرب بالرمل- مصادر تلك الأخبار. غير أن التشديد اليوم على صمت السلطات السورية إزاء جريمة الاغتيال، واستمرار السكوت طويلا حتى دون تبيان سيناريو العملية، ارتدى أهمية خاصة في اعتبارَين أساسيين، بين اعتبارات أخرى قد تكون أقل مغزى. الأول هو أن اقتفاء الخيط المفضي إلى جهة التنفيذ المرجحة أكثر من سواها (الاستخبارات الإسرائيلية) لم يكن يحتاج إلى عبقرية استثنائية من جانب سلطات تحقيق النظام السوري، خصوصا وأن الأمين العام ل«حزب الله»، لم يترك لبسا حول تلك الجهة، وسمّاها بالاسم الصريح. من جانبه، ورغم تفاديه الإشارة بوضوح إلى الخيط الإسرائيلي، قال وزير خارجية النظام السوري إن اغتيال مغنية هو «اغتيال أي جهد للسلام»، بما يوحي -وإنْ على نحو سوريالي، من طراز فريد!- إلى وجود جهة أخرى تسعى إلى نسف السلام بين إسرائيل والنظام السوري، وأن هذه ليست سوى... إسرائيل ذاتها، التي اغتالت مغنية! الاعتبار الثاني هو أن استمرار صمت السلطات السورية كان يشير، ضمن المنطق الاستقرائي البسيط، إلى حرج كبير حتى في اتهام أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، لأسباب لا تخصّ الحياء من دولة إسرائيل بالطبع، بل تتفادى تبيان هوية كبش الفداء المحلي الذي لا مناص من تقديمه إلى الرأي العام، السوري والعربي والعالمي، إذا شاء نظام الأسد أن يزعم أي حدّ أدنى من السيطرة الأمنية على مقدرات البلاد (إذ لم يكن يكفي، بالطبع، أن تكون الأجهزة شاطرة تماما في اعتقال نشطاء المعارضة السورية!). والحال أن المعضلة لم تنحصر في تدبّر كبش فداء كيفما اتفق، إذْ كان هذا الخيار مقدورا عليه، وليست مَسْرَحته بالإجراء الصعب أو غير المسبوق؛ بل المعضلة أن أي كبش فداء لا يمكنه إلا أن يدلّ على اختراق (إسرائيلي، بالضرورة) بالغ الخطورة، من جهة؛ وأن أيّ كبش من هذا الطراز لا بدّ أن ينضوي مسبقا في قطيع أعرض، يقوده واحد من الرؤوس الكبيرة، وهنا الطامة: ليس الإجهاز على أحد أكباش ذلك الرأس إلا إطاحة بالرأس نفسه في نهاية المطاف! هنا، كذلك، ينقلب «الخطّ الأحمر» إلى ما يشبه الضوء الأخضر؛ في أن توجيه إصبع الاتهام إلى الاستخبارات الإسرائيلية، مدعومة ربما بعون لوجستي من أجهزة أخرى أمريكية أو غربية صديقة للدولة العبرية، أو حتى عربية يبهجها اغتيال مغنية؛ لا يلغي نهائيا احتمال تورّط جهة، أو جيب أمني خفيّ بارع التمويه، داخل الأجهزة السورية ذاتها. وقبيل اغتياله بأسابيع معدودة، تردّد أن مغنية ذهب بعيدا في ممارسة مهامّه الجديدة بصدد التنسيق بين «الحرس الثوري» الإيراني وكل من «حزب الله» والحركات الجهادية الفلسطينية. ولعله ذهب أبعد ممّا هو مسموح به، وتحديدا في خرق «اتفاق الشرف» المبرم مع السلطات السورية، والذي تضمّن إطلاع جهاز الاستخبارات العسكرية السورية، ورئيسه آنذاك اللواء آصف شوكت شخصيا، على كلّ صغيرة وكبيرة في ذلك التنسيق. وإذا صحّت التقديرات التي أشارت إلى أن أمن مغنية الشخصي كان ثلاثي الحلقات، تشرف عليه حمايات تابعة لإيران مباشرة، ثمّ «حزب الله»، والجهاز السوري أخيرا، فإن احتمال تصفيته على يد جهاز إيراني أفلح في اختراق الأجهزة السورية، أمر غير مستبعد، حتى إذا بدا ضئيلا. إن انحياز «الحرس الثوري» إلى صف الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وهو تطوّر تجلى حينذاك على نحو دراماتيكي غير مألوف في تراث الثورة الإسلامية الإيرانية، أسفر موضوعيا عن خلط جذري للأوراق وموازين القوى في الهرم الأعلى من السلطة الإيرانية. وغنيّ عن القول أنه أفضى إلى إعادة ترتيب البيت الأمني أوّلا، وإلى إدخال تبديلات هنا وتعديلات هناك، بوسائل متعددة ليست كلّها سلمية، لا يمكن أن يغيب عن بعضها خيار التصفية الجسدية. وفي العودة إلى الغارة الأخيرة، يقرّ الخبراء العسكريون بأن التخطيط لقصف قافلة تحمل أسلحة صاروخية حساسة، ليس البتة بالأمر الذي تكفيه مهارات طياري القاذفات، ولا مناص من الحصول على، وحسن توظيف، معلومات استخباراتية دقيقة للغاية، الأمر الذي يلوح أن إسرائيل نجحت في تأمينه، وعلى نحو بالغ السهولة أيضا! تماما على غرار السهولة التي اكتنفت سوابق كثيرة، غامت فيها غالبية الألوان، ما خلا... اللون الأخضر!