زيارة المحامية بسمة الخلفاوي، أرملة المعارض التونسي شكري بلعيد، الذي اغتيل بالرصاص في تونس في 6 فبراير، لباريس كانت من أجل إطلاق حملة دولية لمساندة «وثيقة تونس للحقوق والحريات»، التي أعدها المعهد العربي لحقوق الإنسان، بتنسيق مع الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، من أجل تكريس نصوصها في الدستور التونسي المقبل. شعار الوثيقة التي وقعها نحو 100 ألف مواطن تونسي، بينهم العديد من الأحزاب والمنظمات النقابية، هو الحفاظ على مكتسبات الثورة، وضمان عدم رجوع الديكتاتورية تحت أي مسمى، دينيا كان أم مدنيا. بقلب دار هيئة المحاماة بباريس حيث دُعيت لشرح الأوضاع السياسية والاجتماعية بتونس، أجرت معها «المساء» حوارا مقتضبا ضمنته إصرارها على معرفة كل الحقيقة عن عملية الاغتيال وهوية مخططي ومنفذي الجريمة والمشاركين فيها، ويقينها بتورط حزب النهضة الإسلامي في العملية، ضمن سعيه لإعادة إنتاج دكتاتورية الحزب الحاكم. كما أكدت تصميمها على حمل مشعل الكفاح الذي خاضه زوجها لتحقيق الشغل والحرية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. - أود أن أسألك في البداية هل تخافين على حياتك في تونس؟ (مترددة) أخاف؟ لا..بصراحة لست خائفة. فأنا أحس بشيء من الاطمئنان بين عائلتي، ويمكنني القول إن العناية التي يحيطني بها معظم التونسيين من تضامن ودعم تجعلني أشعر بطمأنينة إضافية. غير أن هذا لا يمنعني من الجزم بأن الأوضاع الأمنية تدهورت بشكل كارثي في تونس بسبب إصرار حزب النهضة المهيمن على الحكم على التسامح مع الجريمة السياسية ومنفذيها. ومن هنا فإن شبح الموت يخيم على كل الوطنيين المتشبعين بقيم العدالة والحرية والديمقراطية. ودعني أؤكد في هذا السياق أن المجرمين ربما اغتالوا جسد زوجي، لكنهم لن يغتالوا كفاحه. أما حزني فقد انتهى عندما توصلت بآلاف الرسائل التضامنية من التونسيين والمغاربة والجزائريين والمصريين، الذين طافوا بروح الفقيد بميدان التحرير، ومن كل ربوع العالم.آنذاك أدركت أن الوطن العربي الذي أنتمي إليه بخير، وأن الديمقراطية والحرية والحياة لها معان سامية في نفوسنا جميعا. - ما من شك أنك تحظين بنوع من الحماية الأمنية بعد اغتيال زوجك? سمعت عن دورية أمنية لتأمين منزل الفقيد ومحيطه، لكنني لا أعير أدنى اهتمام لمثل هذه التطمينات، لاسيما أن الحزب الإسلامي الحاكم يضع المشكلة الأمنية التي تتدهور يوما بعد يوم ضمن اهتماماته الثانوية، بل ذهب إلى حد التسامح مع الإجرام السياسي إذا كان ذلك يخدم مصالحه. - كيف ذلك؟ ما حدث لزوجي خير دليل على ما أقول. فقد توصل بعدد كبير من الرسائل التهديدية، وكان لديه ما يشبه اليقين بأن أشخاصا مشبوهين يلاحقونه أينما ارتحل. وقد طلب من نقيب المحامين بتونس التدخل بعجالة لدى السلطات، فبعث النقيب على التو رسالة مكتوبة إلى وزير الداخلية يثير انتباهه فيها إلى التهديدات بالقتل التي كان يتوصل بها على مدار الأسابيع الأخيرة، وأيضا الملاحقات العديدة من أشخاص مجهولين كانوا يتتبعون خطواته وتنقلاته. لم يتأخر رد وزير الداخلية، الذي أبلغ النقيب في رسالة مكتوبة، بأن التحريات التي قام بها فريق متخصص من أجهزة الأمن لم تتوصل إلى ما يدعو إلى القلق على حياة شكري بلعيد أو ما يثبت بأن خطرا ما يهدده..وبه وجب السلام. لكن لم تمض سوى أيام قليلة على رسالة وزير الداخلية حتى استفاق الشعب التونسي على اغتيال زوجي بصورة دنيئة وجبانة. وأظن أن مثل هذا الاستخفاف بحياة رجل ذنبه أن ثار في وجه خنق الأصوليين للحريات التي اكتُسبت في أولى انتفاضات الربيع العربي، يدعوني ليس إلى الاعتقاد، بل إلى التأكيد على تورط حزب النهضة الإسلامي بشكل أو بآخر في خيوط الجريمة. - وما تعقيبك على تصريحات وزير الداخلية بالقبض على المشتبه في اغتيال زوجك؟ ليس المهم معرفة من قتل زوجي حتى إن كانت عملية الاعتقال جديرة بالاهتمام، بل المهم هو الوصول إلى خيوط الجريمة ومعرفة كل الحقيقة عن عملية الاغتيال وهوية مخططي ومنفذي الجريمة والمشاركين فيها. التونسيون جميعهم يريدون معرفة الحقيقة. ومن هنا، فإن تصريحات وزير الداخلية ليس فيها ما يطمئن على ظروف وملابسات الجريمة. ودعني أجزم في هذا السياق بأن مسؤولية حزب النهضة ثابتة، فهو المسؤول الوحيد عن تدهور الأوضاع الأمنية. ولا أخفيك أنني سأرفع القضية إلى محكمة العدل الدولية إذا ما ثبت لي وجود عراقيل تعيق عملية التحقيق..فأنا إلى اليوم أتهم مباشرة حزب النهضة الحاكم الذي اغتال من خلال شكري بلعيد الحرية والعدالة بتونس. ثم إنني أتساءل كيف أن الحكومة لا تحرك ساكنا حينما يتم إبلاغها بعشرات الرسائل التهديدية، التي تستهدف الوطنيين التونسيين. وأريد أن أؤكد لك أيضا أنني سألتقي مباشرة بعد عودتي إلى تونس بقاضي التحقيق للاطلاع على التقرير الذي أعده بهذا الشأن والقيام، بناء على ذلك، بالإجراءات التي تقتضيها الوضعية، فالقبض على المشتبه فيه لا يعني طي الملف، وربما قاضي التحقيق هو الآخر لن يقبل بطي الملف. ولا أخفيك أن لدي إحساسا بأن هناك من يريد إخفاء الحقيقة والتستر على الجناة الحقيقيين الذين أمروا بقتل شكري. لماذا تم استهداف شكري بلعيد بالضبط؟ وما الذي يميزه عن المعارضين الآخرين؟ تحضرني مقولة للكاتب الجزائري الطاهر داجوت الذي اغتيل برصاصتين في الرأس عام 1993 :«الصمت هو الموت. وأنت إذا لم تتكلم، فأنت ميّت، وإذا تكلمت، فأنت ميّت. إذن تكلم ومُت». تلك بالضبط هي حالة شكري الذي كرس حياته للنضال من أجل الحرية والتسامح واحترام حقوق الإنسان انطلاقا من قناعته الراسخة بأن العدالة والديمقراطية يجب أن تكونا في قلب تونسالجديدة. استهداف بلعيد مرده أنه ثار بقوة ضد سياسة الرعب والدفع بتونس نحو العنف وإلى كونه أيضا صاحب امتداد شعبي واسع في تونس. - ألا ترين أن موجة العنف السائدة في العديد من الأقطار العربية سببها الخلط المؤسف بين الإسلام والسياسة؟ لقد أثبتت كل التجارب الإنسانية أن إقحام الدين في السياسة ينطوي على مخاطر وأضرار قد تكون لها تداعيات كارثية على المجتمع برمته. وتونس تعيش اليوم تجربة أناس يتسترون، بل يختفون وراء الدين لتحقيق مكاسب سياسية والاستفراد بالحكم. ومثل هذا المسعى لن يكتب له النجاح لأن المجتمع التونسي هو مجتمع مسلم بالولادة والقناعة والقيم، فالخطر إذن ليس من الإسلام الذي هو دين خير ومحبة لكل البشرية، بل الخطر يأتي من هؤلاء الذين يقومون بانتزاع بعض الأفكار الإسلامية من سياقاتها، ثم يلبِسونها ثوب النظرية العامة ليسهلوا الترويج لها، ومن ثم ممارسة الحكم على أساسها. ثم إنني لا أفهم كيف أن بعض المتطرفين يقتلون باسم الدين، فيما الإسلام يقدس النفس البشرية. ولذلك أنا مقتنعة بأن الدين للشخص والسياسة للجميع. - هل تعتزمين اليوم الانخراط في العمل السياسي لاستكمال مشوار زوجك؟ دعني أؤكد لك أنه يحذوني، اليوم، إصرار وعزم قويان لحمل مشعل الكفاح الذي خاضه صديقي ورفيقي وزوجي الغالي لتحقيق الشغل والحرية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية لكل التونسيين، فالثورة التونسية لها الكثير من الأعداء، وهؤلاء مصرون على إفشالها. ومن هنا يجب ألا يعيق اغتيال شكري مسار هذه الثورة العظيمة.