«بْطاطا، خيزو، ماطيشة.. أورو واحد للكيلو».. «القزبورْ، المْعدنوس، الكرافسْ، الشّيبا.. أورو للقبطة..فوطات، سليبّات، سُوتياناتْ.. فينكم ألعيالاتْ؟».. أصوات متداخلة تتعالى من داخل الأسواق المغربية المنتشرة في الضواحي الباريسية لدعوة الزبناء من المهاجرين إلى اقتناء السلع المعروضة بشكل متناثر على رفوف العربات الراجلة وعلى الرصيف، أو داخل المتاجر البلاستيكية التي صُمّمت عشوائيا لاستيعاب كل المواد، من خضر وأغذية وملابس وعطور ومستلزمات منزلية تفوح جميعها برائحة الغشّ والفساد، كما هو حال معظم أسواقنا المغربية.. وأنت تتجول داخل هذه الأسواق، التي تعجّ بمكبرات الصوت، لا تشعر أنك في رحاب دولة أوروبية اسمها فرنسا.. علامات كثيرة تشير إلى أنّ المغاربة أقاموا «أوطانا» صغيرة لهم في عقر الوطن الفرنسي، حيث لا شيء يوحي بأنّ أبناء الجيلين الأول والثاني قد تلقوا الصدمة الحضارية الغربية وتعاملوا معها بما يلزم من مرونة اندماجية.. إصرار كبير على التأصل ورفض للاندماج في أنماط العيش الفرنسية.. هل الأمر مجرد حالة حصار يفرضونها على أنفسهم، فيميلون إلى التقوقع والانغلاق؟ أم إنّ اختلاف الثقافات وتباعد أنماط الحياة تفرز حالات من التعقد والغموض يتحول معها الإحساس بالاغتراب من حدث انفعاليّ فردي إلى حدث جماعيّ يلخص الهوة الكبيرة بين النشأة الاجتماعية المغربية وأنماط العيش الفرنسية؟.. ولا تختلف الأسواق المغربية بالضواحي الباريسية عن أسواقنا في شيء، فهي من حيث الشكل تلتقي في تصاميمها العشوائية الصارخة، وأيضا في استقاء أسمائها من أيام الأسبوع، حيث يرمز «الاثنين» في ضواحي باريس إلى سوق بوبينيي، والأربعاء إلى سوق جوفيزي، والخميس إلى سوق أورلي.. أما من حيث المحتوى فتلتقي في كونها فضاءات للغشّ والاحتيال، تنتعش فيها تجارة الأنفاق، بعد أن يغرقها النصّابون بسلع مغشوشة وبضائع فاسدة، في غياب أي تفتيش أو مراقبة من مصالح زجر الغشّ الفرنسية، التي لا تريد الاقتراب من «مافيا» الأسواق العشوائية، معتبرة إياها أسواقا أجنبية لا تضرّ المستهلك الفرنسي في شيء.. وأنت داخل سوق بوبينيي ينتابك الإحساس بأن الفضاء يفوح برائحة التهريب والفساد.. فمعظم البضائع مغشوشة ولا يملك المستهلك المغترب من خيار سوى اقتنائها حتى وإنْ كان يدرك جيدا أنها رديئة الجودة، عديمة السّلامة الصحية. وفي الجهة الخلفية للسوق، يلفت انتباهَك هذا الكم الهائل من الشرائط والأسطوانات المدمجة التي تتوعد بالعقاب وبنار جهنم على لسان فقهاء دجّالين يُحرّمون الثلاجة لأنها «تفسد ماء الله» ويحرمون التداوي عند الطبيب الفرنسي لأنه «كافر»، وينبذون التلفزيون لأنه «فُجور وضَلال»، ويروجون لخطاب دينيّ متزمّت يفتقر إلى أدنى شروط المعرفة الدينية، وفارغ من كل سماحة الدين الإسلامي ويُسره. ويصعب عليك، في مدخل السوق، تجنُّب المتسولين المحتالين الذين يعترضون سبيلك، بجلاليبهم القروية البالية، لطلب مساعدة من أجل دفن ميّت أو بناء مسجد أو إنقاذ مريض.. فيما يطوف بصرك على كتب من غير دور نشر مفروشة على الرّصيف، تخوض في شروحات ظلامية لرسالة الإسلام وتنشر «ثقافة» مبتورة المصادر والمراجع!.. ولأنّ ثقافة المغترب الدينية تنطلق من الصفر ووعيه كثير الثغرات، فإن هناك من أبناء الجيل الثالث من يقبلون على «سلعة» معرفية لا تزيد إلا في تكريس غربتهم وتأصيلها. ولفرط الشحنة الدينية المغلوطة، يتزايد انسحاب هؤلاء صوب مجتمعاتهم المنغلقة، ويرون في كل انتقاد هجوما عليهم. ويعتقد العديد منهم أنّ المجتمعات الأوربية ترغب في ابتلاعهم وتقويض عقيدتهم وتحويلهم إلى مسلمين علمانيين.. بل إنّ البعض يرون أن هناك «حربا» غيرَ معلنة بين الحضارة الغربية والإسلامية، هدفها الحقيقيّ تدمير الإسلام. وإلى جانب مروجي الخطابات المتوعدة بالنار والجحيم، يلفت انتباهَك فريقُ الدّجالين والسّحَرة والعرّافين الذين لا يتركون سوقا إلا واكتسحوها لتقديم خدماتهم لبعض الشرائح المغلوبة وممارسة طقوسهم الروحانية عليها. ويجد النصابون في فئات الأمّيين ومحدودي الثقافة مجالا خصبا لإنعاش تجارتهم السحرية، فتراهم مفترشين السجادات، يمسكون بعظام وجماجم يلقون بها في الرّماد لإبطال السحر و»التوكالْ» و»التابعة» والحظ المتعثر، وغير ذلك من الترّهات المرتبطة، على حد زعمهم، بالسحر والجن والأرواح الشيطانية. وقرب هؤلاء تعجّ السوق بصنف آخر من «الأطباء» المُختصّين في مداواة الأمراض الروحانية المستعصية وبأثمان بخسة للغاية. فيكفي صديقنا الطبيب «نفخة» في أذن المصاب لكي يخرج الجن راضيا مبايعا «شبيكْ لبّيكْ يا مولايْ». تلك هي، باختصار شديد، بعض ملامح الأسواق المغربية في باريس، التي تعتبر وكرا للنصب ومنفذا رئيسيا للسلع المغشوشة، وهي في المنظور الفرنسي أسواق أجنبية، وإن كانت محلية.. أجنبية عن أنماط الاستهلاك الفرنسي وأجنبية، على الخصوص، عن معايير الجودة والسلامة الصحية..