مع صور محرقة غزة، وما رافقها من تراشق إعلامي بين أكثر من طرف عربي، من المؤكد أنه لن تسعف لا الكأس ولا العبارة، لتلخيص مشاعر الغضب والحزن التي انتابت الجميع، ممن يتابعون الأخبار، من دون أن يجدوا إلا أن يناضلوا فضائياً. هذا المساء، وبعد أن وصل عدد ضحايا القصف الإسرائيلي إلى أكثر من ألفين، بينهم أكثر من 360 قتيلا، لم أجد إلا أن أتذكر حمّاد، الشاب الفلسطيني، الذي التقيته، قبل أشهر، في استكهولم. يومها، تحدث حمّاد عن أخبار غزة بحرقة كبيرة. كان جسدُه، في السويد، وقلبه، هناك، في القطاع المحاصر، تتقاذفه صواريخ الإسرائيليين وتناحر فتح وحماس. مع أمثال حمّاد، يصير الحصار أكبر من خريطته. حتى ابتسامته كان فيها لون الحصار وشعورٌ متعاظم بحزن منْ تُرك وحيداً يُصارع الضياع والأشقاء، بعد أن كان يصارع المحتل، مؤازراً بالعرب ومعظم شعوب العالم. وهكذا، وبعد أن كان الفلسطينيون يشعرون كما لو أنهم يملكون العالم، صار هذا العالم ضيقاً عليهم، سواءٌ وهم في الداخل، أو في غيرها من بلدان وقارات الشتات. سأجدُ نفْسي متورطاً في الهم الفلسطيني، من جديد. تهجُم عليّ أغاني محمد قعبور ومارسيل خليفة وجوليا بطرس، وقصائد توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم. وسيوافقني حمّاد على مضمون الجُمَل التي لخص بها الشاعر الراحل محمود درويش لتجربة الفلسطينيين المشتتين عبر العالم، راسماً، «في حضرة الغياب»، طريقاً تعلو وتهبط، تتموج وتتعرج وتطول، وتتفرع إلى طرق لا حصر لها ولا نهاية، تجتمع بالبداية، حيث لا غد يبقى على حاله، لتبقى القصيدة ناقصة، ويصبح الحنين ندبة في القلب وبصمة بلد على جسد الذاهبين إلى ساحة البلاد الخلفية، الخارجين من فضاء الأسطورة إلى وعاء الواقع الضيق، العائدين بلا نشيد عالٍ وبلا راية جسور، كمتسللين من ثقب جدار تارة، وتارة كمحتفلين بدخول بوابة واسعة لسجن حَسَن التسمية، وطنيِّ الفوضى. هذا المساء، عدتُ من جديد إلى شعر محمود درويش، لأقرأ في ديوان «لا تعتذر عما فعلت»: «لبلادنا، وهي السَّبيّة/حرية الموت اشتياقاً واحتراقاً/وبلادنا، في ليلها الدموي/جوهرة تشع على البعيد على البعيد/تضيء خارجها .../وأما نحن، داخلها،/فنزداد اختناقاً !». في كتابه «في حضرة الغياب»، يلخّص شاعر «مديح الظل العالي» لحكاية كل الفلسطينيين، منخرطاً في عرض سيرة فاتنة بلغتها، موجعة بأحداثها وحنينها، تمتد من طفولة لاجئة إلى عودة تائهة: «يوقظونك من زمنك الخاص، ويقولون لك: اكْبر الآن معنا في زمن القافلة، واركض معنا لئلا يفترسك الذئب... فاترك بقية منامك نائماً على نافذة مفتوحة، ليلحق بك حين يصحو عند الفجر الأزرق»، و«اخرج معنا في هذا الليل الخالي من الرحمة». بسرعة، سيكبر شاعرنا على وقع الكلمات الكبيرة، وسيرى إلى نفسه في مطار أول وثان وثالث ورابع وعاشر شارحاً لموظفين لا مبالين درساً في التاريخ المعاصر عن شعب النكبة الموزع بين المنافي والاحتلال منذ أن هبطت عليهم جرافة التاريخ العملاقة وجرفتهم من مكانهم وسَوّتْ المكان على مقاس أسطورة مدججة بالسلاح وبالمقدس. بعد ذلك، سيسير شاعرنا في أزقة غزة خجِلاً من كل شيء، قبل أن يتساءل: «أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع صوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير ؟»، ليكتب، في «حيرة العائد»: «لا نُريد أن نكون أبطالاً أكثر، ولا نُريد أن نكون ضحايا أكثر، لا نُريد أكثر من أن نكون بشراً عاديين». أعيد كتب درويش إلى مكانها، وأترك لآلة التحكم عن بعد أن تقودني بين الفضائيات العربية، التي كان أكثرها غارقاً في الرقص والرياضة والأفلام. ومن بين كل الفقرات «الضاحكة»، كان هناك فيلم مصري، بالأبيض والأسود، تعرضه «ميلودي أفلام»، يحمل عنوان «المجانين في نعيم».