افترض أنني أكتب قصة، أو أنني فقط أحكيها، فماذا يمكنني أن أقول أمام هذا الكم الهائل الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وعلا فيه السافل على العالي، ماذا يمكنني أن أقول في وقت علا فيه الضجيج حتى لم نعد نستطيع أن نميز فيه بين صوت الحرفي من صوت "الحلايقي"، صوت الفنان من صوت بائع "دوا البرغوت" في سوق من أسواق المملكة السعيدة. في أرض الله الواسعة هاته "كلا ويلغي بلغاه"، كل واحد يشعر أنه هو قلب الأشياء ولبها، فيتحدث في كل شيء ويكتب عن أي شيئ، نافخا ريشه كأي طاووس، بل أكثر من ذلك يدعي أنه قادر على تغيير العالم وجعل الناس يتحركون كلما قرؤوا ما يكتب أو سمعوا ما يقول . لكنها طبعا تبقى مجرد كلمة في مهب الريح تطير كما تطير أي ريشة مع أي هبة منها. للناس مذاهب وملل ونحل، ولكل ملته و"حيله"، في تجميل سلعته وبيعها، لدرجة أن البعض يلغي كل من يمارس إلى جانبه نفس الحرفة. ومن هناك يكون للمثل الشائع :" شكون عدوك، خوك في الحرفة" معنى. فحينما تسأله عن فلان الفلاني، يقول لك: "هو مجرد ظاهرة صوتية يبيع نفسه في سوق النخاسة على بصلة". وتتعجب طبعا، لأنه ما هكذا تؤكل الكتف. وفي الأخير تتساءل: ماذا سيجني هو نفسه؟ "زردة" هنا أوهناك وربما أشياء تافهة لا تساوي أي شيىء. الله يلعن من لا يحشم. كثيرا ولا شك ما سمعتم البطل الفلاني يتشدق بكلماته التي يرسلها ذات اليمين وذات الشمال على أنه صاحب مبادئ وأنه على استعداد دائم للدفاع عنها حتى وإن اقتضى الأمر تقديم نفسه في سبيلها. ولكن ما أن تهب ريح فيها رائحة الشواء، وفيها ما فيها حتى تجده يدور مائة وتسعين درجة "في البلاصة" ويغير ليس فقط سراويله ومبادئه، بل روحه ويقول لمُطعمه : "تفضل هذا ظهري اركبه"، ثم يأسف على ما ألف من كتب وما قال من أفكار كانت في رأيه متسرعة ولم تضع في الاعتبار تغير المناخ المحلي والدولي. لا تصدقوا هؤلاء الكتبة الذين غطوا صفحات كثيرة، ونهضوا بين عشية وضحاها وصاروا يرفعون الشعار تلو الشعار، ويتحدثون في الصغيرة والكبيرة، حتى أن الشرفاء باتوا غرباء في عصرهم أمام اكتساح الجراد. هم لا غاية لهم سوى شيء ما في نفس يعقوب، "إنهم كلاب الڭورنا"، فالله يلعنها حرفة. لو يكون لابن آدم، ولو مرة واحدة، موقف في هذا الواقع. فما هناك وضع دائم، فالراكب ولاشك سينزل يوما ما، والنازل ليس من الضروري أن يبقى سابحا في وضعه.. فلا شيء ثابت. هذه مجرد شبه لقصة ذات نفس واحد. أما القصة الحقيقية فهي الموجودة في الواقع. والناس هم نفوس، ومن لا رأي له لا وجود له، وعلى وقع طبولها تنام الكلمات.