لئن كنا نشعر بالدونية وعقدة النقص حيال الغرب وأمريكا، فلمَ لا نتعلم ونستفيد منهما؟ بحيث ندرس ونتدارس علومهم ومعارفهم، وننهض بالبحث العلمي في ديارنا، وبالترجمة التي هي سبيلنا -كما كانت سبيل أسلافنا المستنيرين- إلى التشبع بمبادئ وأسس القوانين الوضعية والفلسفات والفكر والرياضيات والفيزياء والطب والصيدلة، وإلى التشبع بالفتوحات الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية والإقبال على العمل والكد والتحصيل لنكون في الموعد، ومن ثم نستحق -عن جدارة- انتماءنا إلى الكوكب الأرضي الأزرق وانتسابنا إلى الحضارة الإنسانية ومجتمع المعرفة، مما يعني إسهامنا -من جهتنا- كمسلمين في رفد نهر الحضارة العظيم، بنواتج ما تحصلناه، وخصوصية ما هضمناه واستوعبناه وأخرجناه؟ لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقارع ويصارع الحضارة إلا الحضارة. أما ما يأتيه «الجهاديون الموتورون -الذين فارقوا الآدمية والمحبة الإنسانية والرقة والحنان، لَمَّا فارقوا ديارهم وأهاليهم وذويهم وأولادهم وزوجاتهم، فخرجوا، كأنهم مسرنمون ذاهلون، إلى الفيافي والجبال والمغارات هنا وهناك وهنالك، ظنا منهم بأنهم يهاجرون إلى الله وأن عناية الخالق الباري معهم تكلؤهم وترعاهم- (ما يأتونه) مخجل ومثير للشفقة والحنق، ومهشم لوجهنا الحضاري والإنساني وكبريائنا وهويتنا الإسلامية. فكيف يرعى الحَقُّ الظُّلمَ، وكيف تكلأ العناية الربانية من يزهق أرواح الأبرياء ويمزق أجسادا تسرح وتمرح في الساحات وتتبضع في الأسواق، وترتاح -سويعات- في المقاهي؟ وماذا نسمي من يهدم الأضرحة ومقامات الأولياء في «مالي»، كما في تونس وأفغانستان وباكستان والصومال والسودان؟ فمقامات وأضرحة الأولياء -كما لا يخفى- هي فضاءات «مؤسساتية» شعبية، تمارس فيها طقوس وجذبات، وتتلى فيها أذكار، وأشعار دينية وأوراد. وبهذا المعنى، فهي تجليات مادية للثقافة الإسلامية الشعبية بمفهومها العميق والتاريخي والأنثربولوجي. كيف يفسر السلفيون الأصوليون في بلدنا، مثلا، عمليات الحرق المتوالية للأضرحة والمزارات الدينية والمكتبات الشعبية؟ (يشار إلى أن مكتبة تومبوكتو دمرها التتر الجدد، وحولوا إلى رماد أكثر من ستين ألف مخطوطة نفيسة في علوم الدين والحديث والفلك والطب واللغة والنحو والأدب..). إنه التطرف الديني والتشدد الوهابي والعمى الإيديولوجي وغباء الإدراك لمخلفات الإنسان المبدع الباني. إنها واحدية منغلقة للفهم والرؤية، وكل واحدية إقصاء وإبعاد ونفي وسحق ومحو. وهو ما يحصل الآن، ويجري في غير بقعة من البلاد الإفريقية والبلاد الآسيوية والعربية. عمل أخرق وأرعن وبدائي، يضع الإسلام في مواجهة مع الغرب وأمريكا، بفعلة عميان بُكمان وطرشان قلبا وبصيرة وعقلا ونُهى، مواجهة خاطئة وخاسرة ومأزقية بحسبان براءة الإسلام، النقي المشرق المنفتح، من هذا الصنيع ومما يرمى به -بسبب هؤلاء الجهلة- من تهم مجانية وأراجيف حاقدة وأهواء ومواقف وقراءة مغرضة لمتنه ومساره وتاريخه ورجالاته من طرف مراكز استشراقية وصهيونية، منحتها الفعلة الرعناء والأفعال الشنعاء ل«القاعدة» -قبل اليوم- «مشروعية» النيل من الدين والتراث الإسلامي، بل ومن رسوله العظيم. وبناء عليه، وعود على بدء، فالترحيب، وفي الأقل قبول الزحف أو «الغزو» الفرنسي لتحصينات الجهاديين المتطرفين في مالي يجد تفسيره في ما اقتُرِفَ ويُقتَرَفُ من شناعات، إذ بهذا الصنيع، الذي يأباه الدين والخلق الكريم، يقيمون الحجة على أنفسهم وعلى ما اقترفته أياديهم السوداء من شرور وآثام ومَخَازٍ تبدأ ولا تنتهي، من تطبيق الحدود الجائرة على النساء والرجال والشباب إلى الحرق والهدم والتهجير والتشهير. ينبغي أن نعلم بأن الإسلام الشعبي، إسلام العامة، الذي يتمثل ويتشخصن رمزيا في الأولياء والزوايا والتكايا والمقامات والأضرحة، هو عنصر من عناصر المكونات السوسيولوجية لمجتمع مالي الذي أدخل إليه الصحابة الإسلام أيام الفتوحات الأولى في الشمال الإفريقي والصحراء الإفريقية. كما هو عنصر مكون مندغم «الهوية الثقافية للمغاربة والجزائريين والتونسيين والليبيين والمصريين والسوريين والعراقيين واليمنيين.. إلخ. فهذه الفضاءات الدينية، التي ترفرف عليها أرواح ملائكية ندية وأنفاس زكية قدسية، لعبت دورا رياديا -إيجابا و«سلبا» عند بعض المنعطفات التاريخية- عبر التاريخ والأحقاب المتعاقبة، وبخاصة إبان الحقبة الكولونيالية، في هاته البلدان والأمصار. كما اضطلعت -تاريخيا- بمجموعة من الوظائف والمهمات، لعل في مقدمتها: تعليم القرآن وإيواء السابلة والمشردين وإطعام اليتامى وإخفاء المقاومين والمناضلين والمجاهدين الفعليين. ورغم أن التحديث والعصرنة والأَوْرَبَةَ التي جاء بها العلمانيون، بُعَيْدَ الاستقلالات الوطنية في البلاد العربية والإسلامية، على صهوة أو فوهة «البعثية الناصرية» و«القوميات المختلفة» و«البورقيبية» التونسية والحركة الوطنية المغربية، لم يكن يسمح -إلى حد ما- للحركات الإسلامية بتركيز لوائها وترجمة مشروعها في إنبات «الخليفية»، فإنها -أي الحداثة العلمانية والليبرالية واليسارية لم تهدم صومعة ولا مسجدا، ولا خربت زاوية، ولا أحرقت مخطوطا إسلاميا، ولم تستهدف الزوايا والتكايا والمزارات والرباطات الصوفية، بل حافظت عليها -لغرض في نفس يعقوب، نعم-، ولكن لم تصل بها الحماقة والاختلاف المبدئي إلى تدميرها وحرقها، وقتل أصحابها كما يفعل هؤلاء اليوم باسم الإسلام والشريعة الإسلامية، والإسلام منهم براء. فالعلمانية -في تصور ويقين هؤلاء- مروق وإلحاد وَتَبَدُّعٌ وهرطقة وزندقة، وَهَلُّمَ نعوتا واتهامات. والصوفية -من زاوية نظرهم، بل عَمَاهُمْ- بِدَعٌ وانحراف، وخروج عن جادة الإسلام الأقوم والمحجة البيضاء، وممارسات أعلق ما تكون بالشرك والبهتان وعبادة الأشخاص من دون رب العالمين، فإذا الكل باطل وكافر في عرف المتطرفين الإسلاميين، باستثناء أفكارها هي، أفكارهم هم، وهي الأفكار التي تستدعي سياقات تاريخية إسلامية مضت ومنجزات مبهرة مرت، فتقيم فيها لا تحيد. وتحاول، بكل تعسف واعتساف ونزوع مرضي إلى نقل تلك السياقات وتلك «الشرعيات» وذلك المنجز المتحقق في زمكان متعدد ومختلف، بفعل عوامل سوسيوثقافية، وسياسة حضارية، صارفة النظر، وهل لها نظر وبصر وبصيرة؟ عن منسوب الخرافة في ذلك المنجز، وفذلكة المرويات، وَتَزَيُّد المؤرخين، والفقهاء المأجورين، نازعة من التشريع صفته الأرضية، واجتهاده البشري الذي يصيب ويخطئ، خالعة عليه -ظلما وعدوانا- قدسية السماء، ومطلق الربوبية، وإمكان التحقق في كل وقت وحين. وفي ذلك هم كاذبون، ومفترون، وعاملون -عن وعي أو من دونه- على تشويه صورة الإسلام، وعلو نصه، ورائع قيمه وفضائله، ودعوته -بإجمال- إلى الرحمة والمغفرة والألفة والتآلف والمحبة والتعارف والتصاهر والتخالط مع الأجناس والديانات والشعوب والقبائل.