سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
سيناصر: عمر بنجلون تخلى عن سريره من أجلي في دار المغاربة بفرنسا قال إن والده باع أحد أملاكه وبعث مالا إلى «بلافريج» بعدما علم بمرضه ومتابعته العلاج في سويسرا
في هذه الحلقات، يسرد محمد علال سيناصر، المثقف والمفكر، محطات من حياته انطلاقا من طفولته التي عاشها بمدينة وجدة في كنف أسرة تنتمي إلى الحركة الوطنية، كانت وراء تعرفه على كبار الشخصيات المغربية كعلال الفاسي والمهدي بنبركة ومحمد بلحسن الوزاني وغيرهم. وقد استهوت الفلسفة سيناصر، الذي تابع دراسته في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وواصلها بباريس وألمانيا، مما أهله لتدريس المنطق في جامعة السوربون والعمل في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، كما ترأس قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية في منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو). ويقدم سيناصر، فوق «كرسي الاعتراف»، شهادته على مواقف وأحداث عايشها خلال حياته، سواء عندما تقلد منصب وزير الثقافة سنة 1992 وهو يقول «اللهم لا تجعلني وزرا على وزارة الثقافة» أو عندما عين مستشارا للملك الراحل الحسن الثاني وبعدها مستشارا للملك محمد السادس قبل أن يتم إعفاؤه سنة 2003 رفقة المستشارين أحمد بن سودة ومحمد عواد، وتوشيحه بوسام العرش من درجة ضابط كبير. «صبر واجتهاد»، هكذا يلخص سيناصر رحلة حياته التي جمع فيها بين الإنتاج العلمي والمعرفي المتنوع وبين التدبير اليومي لعدد من الملفات، سواء في «اليونسكو» أو في الديوان الملكي. - لجأت إلى العمل خلال العطلة الصيفية بالإذاعة الوطنية من أجل توفير مصاريف السفر إلى فرنسا، ومعروف أن جدك كان قاضيا شرعيا، ألم يكن لدى والدك مال وممتلكات؟ لقد كان لجدي المرحوم سيدي الحاج العربي بن الحبيب سيناصر دور في إصلاح القضاء وعلاقة بالعدول الذين حاول أن يستقطب منهم عدولا ممتازين إلى مدينة وجدة، أمثال العدل «بلعالم». وجوابا عن سؤالك، فإنه خلال مرحلة الاستعمار كان والدي متفرغا لشؤون الحزب ولم يكن يعمل حينها، فكان يلجأ إلى بيع أملاكه التي ورثها من أجل تأمين مصروفنا اليومي، علاوة على صرف بعض من ماله، رحمه الله، في كثير من شؤون الحزب. ومرت علينا نتيجة ذلك فترات حرجة وصعبة جدا، خصوصا خلال الاعتقالات المتكررة التي كان يتعرض لها أبي من لدن الاستعمار الفرنسي، وقد بلغت بنا الحاجة أن المساعد الأول لجدي، وكان اسمه «فرجي» وكان لديه دكان صغير قريب من الجامع الأعظم، كان يعيننا على اقتناء قوت اليوم؛ كما أن والدتي زليخة بوشنتوف، رحمها الله، عانت الكثير من المشاكل من أجل رعايتنا على حساب أغلى ما كانت تملكه، ولم تنته صعوباتنا المادية إلا بعد حصول المغرب على الاستقلال. ونحن من الذين عانوا مما آلت إليه أحوال المغاربة في عهد الاستعمار، وكنا ولا نزال من الذين يقدرون أهمية ما بذله المغرب من عمل من أجل التحرر من نير الاستعمار، ويدركون فضائل الاستقلال إدراكا ملموسا لا يرقى إليه الشك أبدا. - ذكرت أن والدك محمد ناصر كان يصرف بعض المال على الحزب، هل يمكن أن تقدموا إلينا مثالا على ذلك؟ مما يمكن أن يذكر في هذا الباب، تضامنُ الوالد، رحمه الله، مع المرحوم الحاج أحمد بلافريج، حينما علم بأنه أصيب بمرض عضال وكان يتابع العلاج في سويسرا، حيث بعث إليه بما تيسر من المال مما توفر له عقب بيع بعض أملاكه. - ذكرت أن مشاكل أسرتك المادية عرفت طريقها إلى الحل بعد حصول المغرب على استقلاله؛ كيف تم ذلك؟ بعد حصول المغرب على الاستقلال، عمل والدي في سلك القضاء بمدينة بركان بتدخل من بعض الوطنيين، وباقتراح من المهدي بنبركة والفقيه محمد غازي، خصوصا وأنه كان ذا تكوين دراسي شرعي يؤهله لشغل هذا المنصب، علاوة على تمكنه من اللغة الفرنسية. - بعد توجهك إلى فرنسا لمتابعة تعليمك العالي هناك؛ أين كانت محطتك الأولى، وهل كانت ظروف الإقامة سهلة في البداية؟ قبل أن أسافر إلى فرنسا التقيت بعمر بنجلون في الرباط، وكان قد قدم من باريس للمشاركة في مهرجان للطلبة المغاربة في أكادير، وأخبرته بأنني أعتزم متابعة دراستي العليا في باريس، فطلب مني أن أتصل به فور وصولي إلى هناك، وكذلك فعلت، فكان أن أخذني للإقامة عنده في دار المغرب إلى يوم فتحت المدارس أبوابها، وعندئذ التحقت بمدرسة «هنري الرابع». وأحرص هنا على أن أذكر أن بنجلون، رحمه الله، تخلى، خلال إقامتي عنده، عن سريره لفائدتي واتخذ من سرير آخر أصغر منه حجما مضجعا له، ملحا علي في ضرورة قبول طلبه. - كيف تعرفت على عمر بنجلون؟ رأيت عمر منذ كنا صغيرين، حيث كنت وقتئذ في الابتدائي في وقت لم تكن فيه دور حضانة ولا غيرها من مؤسسات التعليم الأولي، وكان عمر، الذي كانت تبدو عليه الحيوية والانشراح، يأتي من المؤسسة (الخيرية) التي كان يسكنها وأترابه والواقعة على طريق سيدي يحيى في ضواحي وجدة، إلى مدرسة سيدي زيان التي كنت أنا في قسمها الأول، وهي من المدارس التي تابعت فيها دراستي إلى جانب المدارس التي ذكرتها سابقا. ورغم التفاوت في السن بيني وبينه، رسخت في ذهني صورة عمر بنجلون إلى اليوم الذي تعرفت فيه عليه وهو في الجامعة، أثناء زيارته للمغرب وهو يدرس في باريس، وقد كان لقاؤنا الأول كأي لقاء بين اثنين ينحدران من نفس الجهة، لا أقل ولا أكثر. المهم أن صورته كان لها معنى لأنني رأيته من قبل في جهتنا وفي المدرسة التي مرّ منها رجال كثيرون منهم، من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. - هل توطدت علاقتكما بعد لقائكما في فرنسا، وما هي طبيعة المواضيع التي كنتما تناقشانها؟ كنت أزوره في أوقات الفراغ وأيام العطل بدون انتظام، وكنا نلتقي في حديقة «اللوكسمبوغ» الباريسية، فكان يحدثني عن دراساته وعن التيار اليساري الذي كان يرى أنه أهم اتجاه بالنسبة إلى المغرب، وغير ذلك من الشؤون التي كانت تهم الطلبة إذاك، وعلى رأسها مستقبلهم في المغرب. - كيف تلقيت خبر اغتياله؟ علمت بخبر اغتياله وأنا في المغرب، كنت حينها مكلفا بخزانة كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء والتي كانت تقع وقتها في وسط المدينة، وكنت في نفس الوقت أقدم بعض الدروس في أيام مختلفة، غالبها في شأن التنمية وما إلى ذلك. لقد كان اغتيال عمر بنجلون مأساة حقيقية بينما لم يكن يهم الرجل، الذي كان حاد الذهن، إلا المستقبل الذي اغتصب منه بصفة لا يرضاها ذو عقل لغيره مهما كان الخلاف والتنافس معه، وهذا دليل على أن الناس لا يعون ما يفعلونه ولا يرون أن كثيرا من الأشياء التي تقع تكون على حساب شعبنا وآفاق انتظاره وتطلعه. لقد كانت شخصيته تتسم بحدة لا تبلغ درجة التطاول، وحين كان يتحدث كان يتوجه إلى الموضوع مباشرة. الرجل لا يعوض، وللتعبير عن هذا المعنى أسوق هنا ما قاله أحد العرب قديما: «وما كان عمر موته موت واحد، ولكنه بنيان قوم تهدم»، ويمكن أن تضع عوض «قوم» رجل أو أي كان يحمل ولو جزءا ضئيلا من الأمل لبلده وشعبه.