بعض الروايات تمنح المتعة وتجنح بالخيال وتجدد طاقة العيش، وربما تكون لها فوائد أخرى في فتح الشهية على الحياة بحمية شديدة. إنها نصوص تتعلم منها معنى أن «تنسب» الأشياء، وأن تكون ابن العالم. نصوص وروايات وقصائد تحب أن تقرأها مئات المرات ولا تتعب من ذلك. لا تأخذك، مثلا، سفينة الملل إلى مياهها الضحلة ولا يغرقك السأم في مجراه الآسن. وهناك روايات «تعوذ بها من الشيطان الرجيم»، لا تعرف لماذا يصر «كتابها» على اقتراف هذا الإثم، ولماذا يخضعون أنفسهم لجلسات تعذيب طويلة من أجل كتابة تلك الترهات. إن الروايات الجيدة نحب دائما أن نتحدث عنها مثل «حالة عشق مستدام»، أو حب طارئ لم يخطر على بال، كان وقعه على القلب وعلى اللسان مثل التفاح الجيد، أو مثل مذاق الرمان، لمن يحب الرمان. فالذي يقرأ رواية الكاتب الأمريكي جاك كيرواك «على الطريق» لا بد أن يحس بمتعة حقيقية، وبمعنى أن تكون كاتبا ممتلئا بالحياة وقادرا على العطاء، تدهمك غصة في الحلق، وأنت تقارن بين ما يكتبه العرب، وما يكتبه أي كاتب مبتدئ في أوروبا. الكتابة بكل حرية، والإمساك بتلابيب الحياة وليس بالقشور، والحكايات التي تروى لك وكأنك من عاشها ويرويها. قرأت رواية «على الطريق»، هذه الرواية الضخمة، وأنا في أمكنة متعددة، وفي ارتفاعات مختلفة. اتخذتها رواية سفر وأنس، تشعر بالفعل أنك مسافر حقيقي، رفقة تلك الشلة الشريرة، التي ستعبر الغرب الأمريكي، بحثا عماذا؟ بحثا عن المتعة، متعة الاكتشاف. هذا هو الجيل الأمريكي المدمر، الذي سمي ب»جيل الغضب»، والذي استطاع أن يهز عرش اليقينيات الأمريكية، وأن يشكك في مفهوم «الأمة الأمريكية» القائمة على التهام الآخرين الضعفاء بقوة الحديد والنار. مع مثل هذه الأعمال تتطهر، وتعود إلى طبيعتك، وإلى ما كنت عليه، وفي خضم لذة الوحدة والتخلص من ربق اليومي، تحس أنه بإمكانك أن تدير ظهرك لكل شيء وأن تمضي إلى «غايتك أو غاياتك»، لا يهمك من تكون ولا مع من تكون. وليس هناك من نجاح رائع يمكن أن تحققه رواية معينة، أكبر من أن تحدث هذا التغيير المحسوس في المشاعر، وتتحول إلى حياة أخرى موازية قادرة على الصمود في وجه «البلادة المعممة التي نسبح فيها». وفي المنتهى، تخرج بقناعة أن الأدب الكبير لا يمكن أن يكتب إلا في شعوب تعيش هزات وخضات حقيقية، وليس وسط القطيع. المحيط العربي من الماء إلى الماء يحتاج إلى أكثر من «جيل غضب»، بسبب الهوة الحضارية التي نعبرها، وهي هوة عميقة ودراماتيكية، تؤكد كم نحن متأخرون ليس تقنيا فقط، ولكن، وهذا هو المؤسف، أدبيا وفنيا، كأنه قدر علينا أن نتعلم فنون الجمال من الآخر، الذي نكره، ونتعلم فنون الكتابة أيضا. وأما مغربيا، فما أكبر كذبة الكتابة عندنا، في أجيال لا تغضب.