سيظل الالتباس بين الاعتبارات السياسية ومصالح الدول والعدالة الجنائية الدولية أحد أهم الفروق بين السياسة الداخلية والعدالة الوطنية أو بين القانون الدولي والقانون الداخلي، ذلك أن الدول تحرص على استقلال قضائها عن التأثيرات السياسية، ولكن الدول نفسها لا تتحرج من أن تنال من استقلال القضاء الدولي وتطويعه لمصالحها السياسية. فقد تجدد الحديث عن العالم العربي والمحكمة الجنائية الدولية للمرة الثالثة، ذلك أنه في المرة الأولى كانت المناسبة هي الرئيس البشير ومشكله دارفور؛ وفي المرة الثانية كانت القيادة الليبية إبان الثورة، ثم بعد القبض على نجل القذافي ورفض السلطات الليبية تسليمه وإصرارها على محاكمته أمام القضاء الليبي وما أثير عن القلق من مستوى العدالة الممكنة وضمانات العدالة للمتهم؛ أما المرة الثالثة فهي بسبب أحداث سوريا وطرح قضية الجرائم التي ترتكب في المسرح السوري على المجلس الدولي لحقوق الإنسان وإدانته في هذه الأحوال الثلاثة لهذه الجرائم، ثم دفع الاتحاد الأوربي في الأسبوع الثاني من يناير 2013 نحو تحويل الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية من خلال مجلس الأمن، وهو أمر مستحيل في ضوء تمسك روسيا والصين بموقفيهما السياسي والقانوني في الأزمة السورية. ومعنى ذلك أن دفع سوريا إلى الوصول أمام المحكمة الدولية يتطلب عددا من الشروط، أهمها أن تكون سوريا طرفا في النظام الأساسي للمحكمة. صحيح أن السودان لم يكن طرفا وأنه تقرر أن يمثل أمام المحكمة بقرار مجلس الأمن 1593، ولكن ذلك كان يناقض النظام الأساسي، كما أنه يتنافى مع نظرية المعاهدات في القانون الدولي، وأن العوار القانوني في هذا القرار ينال من مجلس الأمن، كما أن إحالة المسؤولين السودانيين على المحكمة الدولية بقرار صدر وفقا للفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة لا يكفي لكي يعقد اختصاص المحكمة في قضية ليست مختصة بالنظر فيها، لأن السودان ليس طرفا. كذلك، فإن نظام المحكمة يأبى أن يغتصب السلطة القضائية من الدولة إذا بدأت أي إجراء من الإجراءات القضائية، مما يوضح أن مجلس الأمن والمحكمة لم يساعدا على تقديم الصورة الصحيحة لأول محكمة جنائية دائمة بعد ما يقرب من قرن على هذا الحال الذي ظهر بإلحاح بعد الحرب العالمية الأولى. والحق أن الحالات العربية الثلاث، وهي السودان وسوريا وليبيا، تقدم نماذج مثالية للصراع بين العدالة الجنائية ومتطلبات السياسة الدولية. أما الملف السوداني فإنه يكشف عن الجرائم التي ارتكبت في دارفور، ولكن تحمس فرنسا لمحاكمة الرئيس البشير أمام المحكمة لم يكن بدافع الشفقة على ضحايا دارفور، ولكن فرنسا كانت حصان طروادة في يد الولاياتالمتحدة، وهذا معروف من تاريخ صدور القرار المذكور، حيث قدمت فرنسا مشروعا ونأت واشنطن عن هذا المشروع لولا أن فرنسا قبلت صيغة الفقرة السادسة من القرار لكي تعفي الرعايا الأمريكيين من اختصاص المحكمة على بياض، وهذا أخطر عوار قانوني في قرارات مجلس الأمن، ويترتب عن ذلك أن دفاع البشير عن وحدة الأراضي السودانية في مواجهة المشروع الغربي هو الذي دفع الغرب إلى تحويل ملفه إلى المحكمة الجنائية. أما الملف الليبي فله وضعية مختلفة، وهي أنه تحول من إدانة للقذافي ونظامه إلى خشية المحكمة على نجل القذافي في محاكم الثوار. وفي كل الأحوال، فإن جرائم السودان وليبيا ثابتة؛ ولكن نظرا إلى كون الناتو هو الذي ساهم في التعجيل بإنهاء نظام القذافي، وهو الذي يتردد في تقرير مصير نجله أمام المحاكم الليبية أو أمام المحكمة الجنائية الدولية، فإن الذي يقرر هذه النقطة هو الاعتبارات السياسية، فضلا عن أن المحاكم الليبية يمكن أن تتوافر فيها الضمانات الكافية للمحاكمة العادلة. ولا بد من أن نشير في هذا الصدد إلى أن القانون الجنائي الدولي قد تطور تطورا مذهلا على أساس المسؤولية الجنائية للأفراد في جرائم النظام العام الدولي، أما القضاء الجنائي الدولي فقط فتخلف كثيرا عن القانون، لأن الدول لا تزال تتمسك بسيادتها القضائية وترفض التسليم للاختصاص القضائي للمحاكم الدولية، وهذا هو ما سجله نظام المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بالاختصاص التكميلي، وهو أكبر دليل على أن القانون الدولي الراهن لا يزال يقوم على الدول واحترام سيادتها وإرادتها واختصاصها، مما يؤدي إلى التناقض بين هذا المبدأ وإجبار الدول على المثول أمام المحكمة الجنائية رغم أنها ليست طرفا في نظامها، وبقرار صدر من منظمة دولية ينص ميثاقها على مبدإ السيادة للدول الأعضاء. أما بالنسبة إلى الملف السوري، فتجب الإشارة إلى أن مجلس الأمن كان قد قرر، في إطار الصراع السياسي مع سوريا، إنشاء محكمة جنائية خاصة بها عرفت بمحكمة الحريري. أما الملف السوري في الأزمة الأخيرة فإن الفيتو الروسي والصيني يعوق مجلس الأمن عن تحويل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية. يضاف إلى ذلك أن واشنطن تعادي المحكمة، وهي ليست متحمسة لفكرة إحالة سوريا على المحكمة، لأن ذلك لا يتناسق مع نظريتها في الأزمة السورية، كما أنها تدرك أن إحالة الملف على المحكمة الجنائية سوف يورط الجيش السوري الحر أيضا وعددا كبيرا من المقاتلين المجهولين على الأراضي السورية. من ناحية أخرى، لا يمكن إنشاء محكمة خاصة بسوريا كما يريد البعض، لأن المحاكم الجنائية الدولية عادة كانت مؤقتة وكانت تنشأ بقرارات من مجلس الأمن، أما المحكمة الجنائية الدولية فقد نشأت مستقلة تماما عن الأممالمتحدة، لولا أن الولاياتالمتحدة تدخلت في مؤتمر روما الدبلوماسي وتدخل مجلس الأمن إلى جانب الدول والأطراف والمدعي العام في قائمة حالات تحريك الدعوى الجنائية، فلا يمكن لمجلس الأمن أن ينشئ هذه المحكمة الخاصة بسبب الفيتو، وإذا كان نفس المجلس قد سمح في القرار 1657 في قضيه الحريري بإنشاء المحكمة الدولية ذات الطابع الخاص في إطار الصراع مع سوريا، فإن الصين وروسيا لم تجدا ضرورة لعرقلة القرار في ذلك الوقت، لأن الخطر على سوريا لم يكن مؤكدا. وأخيرا لا نعتقد أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي صاحبة الاختصاص الأصيل في إنشاء المحاكم، سوف تسمح بإنشاء محكمة خاصة بسوريا بسبب انقسام الموقف الدولي حول المشهد السوري. صحيح أن الدول العربية لم تحاول أن تلجأ إلى الجمعية العامة لإنشاء محكمة جنائية لمحاكمة المجرمين الإسرائيليين رغم أن العرب يستطيعون الحصول على قرار مريح ضد إسرائيل، ولكنهم على العكس ترددوا في عرض هذه القضية على مجلس الأمن ولم تسجل سجلات الأممالمتحدة أي محاولة جدية في هذا الشأن، ولم تحاول أي دولة أن تخاطر بتقديم الاقتراح حتى لا تتعرض للضغوط الأمريكية في مجلس الأمن. ونذكر في هذا المقام أن هذا الموضوع أثير بشدة في أروقة اتحاد المحامين العرب في المناسبات التي كانت إسرائيل ترتكب فيها جرائم واسعة ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى، ويرجع تقاعس العرب عن السير نحو إنشاء محكمة خاصة بإسرائيل بينما أيدوا المحكمة الخاصة بالحريري في لبنان إلى نقص الإرادة العربية في المسألة الفلسطينية وتفاوت مصالحها في المسألة السورية واللبنانية. الدرس المستفاد من هذا التحليل هو أن غلبة السياسة الدولية على القانون جعلت العدالة الدولية للضعفاء محل نظر. ولكننا يجب أن نميز بين العدالة الجنائية في المحكمة الجنائية الدولية والعدالة المدنية في محكمة العدل الدولية.. في المحكمة الأولى تطمس السياسة وجه العدالة، بينما في المحكمة الثانية تلزم العدالة المدنية السياسة حدودها ولا نكاد نلمس غلبة الجانب السياسي في محكمة العدل الدولية إلا عند بعض القضاة المنتمين بجنسيتهم إلى الدول الدائمة في مجلس الأمن، خاصة إذا كانت دولهم أو حلفاء هذه الدول أطرافا في المنازعات أو القضايا المنظورة أمام هذه المحكمة.