أثار مشروع قانون الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها، جدالا محتدما، سواء حول الصلاحيات المخولة للهيئة، باعتبارها مؤسسة دستورية للتحري و البحث والتصدي لكل ما هو مرتبط بالفساد والرشوة، وأيضا حول تأويل بعض النصوص الواردة في الوثيقة الدستورية، وقرارات المجلس الدستوري، التي وجه إليها خبراء في علم السياسة انتقادات لاذعة، كان آخرها وصف الأستاذ الجامعي عبد العزيز النويضي للقرار المتعلق باستقلال الهيئات ب»الخاطئ». المتتبع للنقاش المحتدم حول مشروع القانون الخاص بالهيئة الوطنية للنزاهة، سيقف على تجاذبات «قوية» بين من يسعى، من جهة، إلى التأثير على معدي مشروع القانون، إما لإدخال تعديلات تكسبها استقلالية حقيقية عن مختلف السلط، ومنحها صلاحيات واسعة في التحري والبحث، وحتى في إطلاق المتابعات القضائية، ومن يدفع في اتجاه إضعاف مشروع القانون وتكريس بعض أوجه «الغموض» المتعمد في نصوص قانونية، قد تجعل التأويل يتجه نحو القراءة غير الديمقراطية. من أبرز الإشكالات التي طفت على السطح، منذ أن انطلق النقاش حول قانون الهيئة، تبرز مسألة إطلاق الهيئة الجديد للمتابعات القضائية في حق المتورطين في أفعال الرشوة والفساد بشكل عام، حيث تركز النقاش، بشكل أساسي، حول تأثير منح صلاحية المتابعة على مهام السلطة القضائية، وحدود ممارسة كل جهة لمهامها دون الإخلال بصلاحيات الجهة الأخرى. وقد علق عبد السلام أبو درار، رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، على السجال الذي دار بشأن صلاحية إطلاق المتابعات القضائية، بأن الخبراء اختلفوا بشأن منح هيئات محاربة الفساد سلطة للوقاية وللتحري وللمتابعة أيضا، غير أن هذا الاتجاه تمت مراجعته بشكل جذري. وسجل أنه من قبيل فصل السلط أن تضطلع هيئات مكافحة الفساد بدورها في الوقاية والتحري وأن تترك للسلطة القضائية أن تلعب دورها كاملا، وأن ما يعاب على السلطة القضائية أن فيها فساد لا يعني الاستعاضة عن القضاء بخلق هيئات أخرى لديها سلطات المتابعة. وقد تقدمت الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، «ترانسبارنسي المغرب»، بملاحظات في شأن مضامين النصوص الواردة في مشروع القانون، حيث علقت على المادة 20 منه، المتعلقة بالأشخاص المكلفين بالتحري والتحقيق، بملاحظة تحدثت فيها عن غياب صفة ضباط الشرطة القضائية لدى أعوان الهيئة، مما قد يحد من سلطات التحقيق، واقترحت إضافة فقرة تنص على أنه يمكن تعيين ضباط للشرطة القضائية تابعين وظيفيا للهيئة أو إعطاء هذه الصفة لكل أو بعض أعوانها المكلفين بالتحقيق. وقد كان موقف معدي المشروع من التعليق هو أنه لا يمكن تعيين ضباط للشرطة القضائية تابعين وظيفيا للهيئة، كما لا يمكن إسناد صفة الضابطة القضائية لكل أو بعض أعوان الهيئة، لأن هذا من شأنه أن يمس الاستقلالية التي يمكن أن تتأثر نتيجة خضوع ضباط الشرطة القضائية في مزاولتهم لمهامهم لتسيير وكيل الملك في دائرة نفوذه طبقا لمقتضيات الماة 16 من مدونة المسطرة الجنائية. وقد شكلت طريقة العضوية في الهيئة نقطة نقاش محتدم بين عدد المهتمين، إذ ارتفعت بعض الأصوات المطالبة بضرورة انتخاب أعضاء الهيئة حتى يكونوا عرضة للحساب وللمراقبة، لكن رئيس الهيئة المركزية اعتبر أن انتخاب الأعضاء من طرف مجلس النواب، مثلا، سيجعلهم جزءا من الأغلبية الحكومية، مشيرا إلى تجربة المجلس التأسيسي في مصر، الذي أصبح من الأغلبية ويضع دستورا على المقاس، على حد تعبيره. ويضم الجمع العام، الذي يترأسه رئيس الهيئة الوطنية، 31 عضوا يتم تعيينهم من طرف الملك لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، حيث تضم الفئة الأولى اثنا عشر عضوا يتم اختيارهم من قبل الملك من بين الأشخاص الذين تتوفر فيهم خصال التجرد والاستقامة والكفاءة والاهتمام بمجال الحكامة الجيدة. ويوجد عشرة أعضاء يقترحون بصفتهم الشخصية من طرف المنظمات غير الحكومية الأكثر تمثيلا والمعروفة بمساهمتها الفعلية في مجال الحكامة ومحاربة الفساد، وعضوان يختاران من بين الشخصيات المشهود لها بالمشاركة والعمل الجاد في مجال الحكامة ومكافحة الفساد. أما الفئة الثانية، فتضم تسعة أعضاء يقترحون، بصفتهم الشخصية، من طرف السلطات الحكومية المكلفة بالشؤون الخارجية والتعاون، الداخلية، العدل، الاقتصاد والمالية، التجارة والصناعة والتكنولوجيات الحديثة، التربية الوطنية، الاتصال، الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، والشؤون الاقتصادية والعامة. وبالنسبة للفئة الثالثة من الأعضاء، فهي تضم عشرة يقترحون، بصفتهم الشخصية، من طرف الهيئات المهنية لكل من جمعية المحامين بالمغرب، وعضو عن غرفة التوثيق، والهيئة الوطنية للخبراء المحاسبين، وعضو عن الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وعضو عن نقابة الوطنية للصحافة المغربية، وخمسة أعضاء عن النقابات الأكثر تمثيلا للأجراء بالقطاعين العام والخاص. وقد أثار غياب القضاة عن تشكيلة أعضاء الجمع العام للهيئة ردود فعل قوية من نادي قضاة المغرب، الذي خرج نائب رئيسه، محمد عنبر، بتصريحات قوية رد فيها على ما أسماه «إقصاء» للقضاة من الهيئة، حيث اعتبر أن استقلالية الهيئة رهينة بتشكيلها من القضاة، مادامت هذه الفئة ليست لها أي مصالح ضيقة، بل هاجسها الوحيد هو تطبيق القانون وتحقيق العدالة. وقد أعد القاضي عنبر مذكرة ينتظر أن يوجهها إلى موقع الأمانة العامة للحكومة، تضمنت انتقادات لمختلف النصوص الواردة في المشروع، بدءا من مهام الهيئة في «التصدي» التي اعتبرها عنبر غصبا لاختصاص القضاء، وتجاوزا للسلطات التي من أجلها أنشأت الهيئة، على اعتبار أنها أسست لمحاربة الفساد الاقتصادي والإداري، أي القيام بعمليات الاستشارة والوقاية والرصد والبحث والتحري، والكشف عن مكامن الفساد فقط، وإحالة نتائجها على السلطة القضائية. ورغم ما قد يبدو من تشاركية في إعداد مشروع القانون بشأن الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة والوقاية منها، فإن مخاوف المهتمين بمجال الحكامة ومحاربة الفساد تبقى قائمة، أمام إمكانية إدخال تعديلات قد تبدد آمالهم في هيئة لها من القوة الدستورية ما يكفي ليجعلها مؤسسة بصلاحيات حقيقية وفعالة، في ظل سياق جديد من أبرز شعاراته «محاربة الفساد».