أخيرا، زرت قطاع غزة. وغزة بقدر ما هي رائعة بصمودها وشجاعتها وانتصاراتها هي رائعة بشعبها وبالذين قاتلوا العدو فيها في حربين قاسيتين، وما زالوا مرابطين وأصابعهم على الزناد. غزة مضيافة ودودة ومتواضعة، فقد لقيتُ وأخَوانِ كنت في صحبتهما في زيارة غزة ما لا يحتمله المرء من الأخوَّة التي تغمرك بالحب ابتداءً من رئيس الوزراء الأستاذ إسماعيل هنيّة وعدد من القادة الرسميين والشعبيين وانتهاءً بالإنسان العادي في المقهى والشارع وكل من يتعرف عليك ضيفا. فتحت غزة أذرعها لتعرّفنا بمناطقها وأحيائها ومزارعها والمواقع التي جرت معارك التصدّي فيها أو التوقف أمام خطوط التماس المتحفزّة للمواجهة. ولعل أشدّ ما يؤثر في القلب والروح زيارة المقبرة التي تحوي أجداث الشهداء القادة العظام الذين صنعوا مأثرة غزة. فمن ذا الذي لا يغيب عن نفسه وهو يقرأ الفاتحة على قبر المؤسّس الفذ المجاهد والقائد أحمد ياسين أو رفيق دربه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، ثم يمر ببقية الشهداء ليقف أمام القبر الغض الذي فتح في اليوم الأول من حرب الثمانية أيام للقائد العام لقوات عز الدين القسّام أحمد الجعبري الذي قاد الصمود العسكري والانتصار في حرب 2008/2009، وصنع الاستعداد لحرب 2012 وكان قائدها عمليا، بما بناه من مؤسسة عسكرية وخلّفه وراءه من قادة بالرغم من استشهاده في اليوم الأول منها. عبق شهداء فلسطين من أبناء قطاع غزة من حركة الجهاد الإسلامي ومن فصائل المقاومة الأخرى يمتزج بعبق شهداء حركة حماس حيثما درت في تلك المقبرة الخالدة التي تسجّل ذلك التاريخ المجيد للمقاومة التي سطرها أبطال فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية وقوات التحرر الشعبية وكل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية منذ يونيو 1967 حتى اتفاق أوسلو الكارثي؛ فتلكم هي غزة وقطاعها دائما أرض بطولة ومقاومة وشهداء، ومفخرة من مفاخر فلسطين. غزة، عمليا، قاعدة محرّرة تحت السلاح، وهي الجزء الفلسطيني الذي لا احتلال صهيونيا يسيطر عليه، فيما ترزح الضفة الغربية، بقدسها الشرقية تحت الاحتلال والاستيطان. وقد أسّس فيها الجنرال الأمريكي كيث دايتون قوات أمنية تحمي الاحتلال والاستيطان بقمعها لكل تظاهرة وضربها لكل خلية مقاومة وإجهاضها لكل بداية انتفاضة ثالثة. ثم هنالك الجزء الفلسطيني الصامد الرازح تحت الكيان الصهيوني منذ 1948. أما الأجزاء الأخرى، وهي الأغلبية من شعب فلسطين، فخارج الأرض الفلسطينية لاجئة في حالة شتات مرير، وغربة قاسية على النفس أشدّ من قسوتها على السكن واللجوء. هذه المعادلة الفلسطينية تجعل لكل جزء من أجزاء الشعب الفلسطيني خصوصية في إدارة المقاومة والصراع وتحرير فلسطين، مما يفرض أن تتشكل استراتيجية متعدّدة وموحدّة، استراتيجية متباينة، ولكن متماسكة. ولنقف بداية، عند الجزء الغزّي فيها. قطاع غزة محرّر من وجود قوات احتلال، وقد امتلك زمام المبادرة بالرغم من الحصار والتهديد الدائم باجتياحه، فهو جبهة مواجهة وفي حالة حرب وإعداد للحرب؛ فمن جهة، طائرات العدو المراقبة والمقاتلة (ومنها «الزنانة») في سماء غزة ليل نهار، والدبابات تمتدّ على طول الحدود والبوارج الحربية تغطي المياه الإقليمية، وثمة أبراج المراقبة الحرارية والرادارية التي تعمل على مدار الساعة. أما من الجهة الأخرى، فغزة تحت السلاح وبحاجة دائمة إلى تعزيز سلاحها، أكان بالتهريب أم بالتصنيع الداخلي، وآلاف الشباب تحت الأرض يحفرون الأنفاق، ومثلهم في المرابطة وأكثر من هؤلاء تحت التدريب والإعداد والسهر على الأمن الداخلي وتأمين ما أمكن من حاجات الصمود المدني في الحرب وما قبلها وما بعدها. إنها تشبه خلية النحل في الحالتين السلمية والعسكرية. من حيث الظاهر، تبدو غزة للزائر السائح كما لو أنها مدينة عادية في قطرٍ آمنٍ مستريح. ولكن غزة، في الحقيقة، غزتان: غزة سلم مدني في الظاهر وغزة حرب ومواجهة دائمة تحت السطح. وقد أثبتت حكومة غزة في حرب 2012 قدرة عالية على الحفاظ على الجبهة الداخلية، فكانت حكومة حرب في الحفاظ على الأمن وتأمين حاجيات السكان. وكان ذلك من دروس حرب 2008/2009 والإفادة من الهدنة. بكلمة، إن غزة جبهة حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد خرجت من حرب الثمانية أيام لتوّها. ولكن بالرغم من ذلك فقد ذهب البعض إلى إلقاء أحكامٍ ظالمة على الوضع في غزة وعلى حركة حماس التي تتولى قيادة حكومتها وقواتها المسلحة، وذلك لتفسير كل وقف لإطلاق النار، أو لكل هدنة، باعتباره تخليا عن المقاومة والمواجهة. وهذا ما حدث، مثلا، خلال الثلاث سنوات التي تلت حرب 2008/2009، ولاسيما الحملة التي شنت خلال عام 2012. وقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار قيادة حماس وغزة خرجتا من مواقع المقاومة. كان يفترض في حرب الثمانية أيام أن تدفع البعض إلى أن يعيدوا حساباتهم بالنسبة إلى تقديراتهم الخاطئة، في الأقل إن لم يكن تقديم ما يتوجب عليهم من اعتذار. أما المغرضون والمعادون للمقاومة فلا يجب أن يُتوقع منهم غير الاستمرار في المكابرة والعناد. فمن جهة، أثبتت حماس وحركة الجهاد وآخرون في غزة أن الثلاث سنوات من الهدنة لم تكن حالة تخلٍ عن المقاومة، وإنما كانت حالة تسلح وتدريب وإعداد للحرب. أما الدليل فحرب الثمانية أيام التي ما كانت لتنجز ما أنجزته من انتصار لولا الهدنة واستغلالها في التسلح والإعداد لتعزيز القدرات العسكرية. المأساة الحقيقية التي وقع فيها البعض من المخلصين الحريصين على المقاومة أنهم لم يتعلموا من درس الهدنة وحرب الثمانية أيام ليعيدوا حساباتهم فحسب، وإنما أيضا، أمعنوا في تكرار الخطأ الذي يُلحِق بالمقاومة ظلما، فادّعوا أن ثمة صفقة تحت الطاولة عقدت مع أمريكا والكيان الصهيوني وأن مصر التزمت بمنع الأعمال العدائية من غزة؛ وذلك بالرغم من أن حرب الثمانية أيام لم توقف فيها حركة حماس وحركة الجهاد الحرب إلا بعد أن فرضتا شروطهما التي خضعت لها حكومة نتنياهو صاغرة. وكرّست إدارة أوباما، من خلال هيلاري كلينتون، ذلك الخضوع. وقد انتزع مزارعو القطاع السيطرة على 22 ألف فدان، ما يُقارب 20 في المائة من الأرض الزراعية كان العدو يحرمهم من الوصول إليها قبل حرب الثمانية أيام. وكذلك انتزع صيادو الأسماك إمكان الصيد على عمق ستة أميال، أي بزيادة ثلاثة أميال بحرية جديدة. هذا النصر الذي لم يسبق أن حدث من قبل في وقف إطلاق نار لحربٍ مع الكيان الصهيوني شُوِّه، هذه المرّة، بإشاعة وجود صفقة تحت الطاولة، ثم عُززت الشائعة بما قام من هدنة كدليل على الصفقة. واستدّل أحد كبار المعلقين المرموقين على الهدنة التي قامت وفقا للشروط التي أعلنها رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، وأمين عام حركة الجهاد، رمضان شلح، في مؤتمر صحفي مشترك، بأنها تلبي «حاجة إسرائيل إلى الاستقرار وإلى الالتفات لمشاريعها الأخرى»، بل اعتبر أن «إسرائيل أنجزت أهدافها من الحرب». الهدنة حاجة إلى المقاومة أكثر منها حاجة إلى العدو، فالمقاومة بحاجة إلى استكمال تسلحها وتدريباتها وحفر أنفاقها وإعدادها للحرب القادمة. وإن من يقارن في حالة غزة حالة موازين القوى العسكرية بين طرفي المواجهة لا يحق له أن يعتبر حاجة العدو إلى الهدنة أشدّ من حاجة المقاومة إليها. فالعدو في هذه الحرب فرضت عليه شروط الهدنة، فيما كان وقف حرب الثمانية أيام مطلبا أمريكيا صهيونيا منذ بداية الردّ الشامل الذي أطلقته المقاومة بعد اثنتي عشرة ساعة على اغتيال الشهيد الجعبري. ومن هنا، يمكن القول إن المقاومة في قطاع غزة كانت ستأتي بنتائج أفضل وأكثر إبهارا لو أنها كانت قد استكملت تسلحها وإعداداتها في ظلال هدنة أطول. ثم ألم يخطر ببال الذي استند إلى حاجة الكيان الصهيوني إلى الاستقرار وكسب الوقت أن الذي يقاتله هو هذا القطاع الغزاوي الفلسطيني المتواضع في حجمه وعدد سكانه وفي وضعه الجغرافي؟ أوَليس هذا أكثر من كثير يجب أن يسجل لحساب حكومة قطاع غزة وحماس والجهاد إذا صحّ أن العدو «حقق إنجازا في حرب الثمانية أيام» باتفاق الهدنة أم إن الهوى في العداء لحماس يعمي الأبصار. إن الموضوع الذي يجب أن يحسم هنا هو المتعلق بالهدنة، سواء أكانت تلك التي عقدت بعد حرب يوليوز 2006 أم التي عقدت بعد حرب 2008/2009 أم الهدنة الحالية بعد حرب 2012. لقد جرى الكثير من الإساءة إلى حزب الله وإلى حماس وإلى المقاومة عموما بسببها، ولاسيما من جانب أعداء المقاومة. والتهمة التخلي عن المقاومة، والدليل الالتزام بالهدنة. وهي معادلة مدغولة لا يحق لمحايد أو مؤيد للمقاومة أن تمرّ عليه أو به. إن الهدنة في الحرب هي جزء من الحرب، بل هي حرب في حد ذاتها، وذلك حين تعني الدخول في مرحلة سباق تسلح وحفر أنفاق وخنادق وإقامة استحكامات وتدريب قوات ومضاعفتها وإعادة سدّ ثغرات أظهرتها الحرب السابقة. إذا لم يكن كل هذا حربا، فما هي الحرب؟ هل هي الاشتباك وإطلاق النار فقط؟ بل إن أكبر الحروب التي عرفها التاريخ سبقتها هدنة اتفق عليها أو لم يتفق عليها؛ فعلى سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الأولى قامت هدنة بين 1917 – 1939 فأعقبتها حرب أعدّت لها تلك الهدنة، ولماذا أُسمي سباق التسلح بين المعسكرين الغربي والشرقي في ظل الهدنة بالحرب الباردة (أي سمّي بالحرب)؟ إن الذين يتعلمون سنة أولى في علم الحرب أو في علم السياسة يعلمون بأن الهدنة بين المتحاربين يجب أن تفهم وأن تعامل باعتبارها حربا. أما في السنة الثانية فيتعلمون أن الحرب كشافة لحقيقة المواقف والسياسات قبلها وفي أثنائها؛ فليس ثمة زغل في الحرب ولا لعب ولا تمثيل ولا تلميع، لأنها جِدٌّ ما بعده جِدّ، فإما تبْيَض وجوه وإما تسوء وجوه. كل جهد بُذل قبلها يظهر فيها، وكل تقدير موقف يسبقها تكشف صوابه أو خطأه لا محالة. فمن يزور قطاع غزة، اليوم، يراه يستعد ويعدّ للحرب القادمة. أما ما عدا ذلك من تقديرات، فيجب أن يخضع لهذه الحقيقة أو هو في مرتبة الثانوي.