أما البعد الإقليمي، الذي يمكن أن يؤثر، بشكل أو بآخر، على الوضع الجيو-استراتيجي لمنطقة المغرب الكبير ودول الساحل والصحراء والدول الإفريقية جنوب الصحراء، فهو ما شهدته منطقة الساحل والمنطقة المغاربية من تغييرات عميقة بعد الثورات التي شهدتها تونس وليبيا والتحولات التي وقعت نحو مزيد من الديمقراطية في المغرب ونوعا ما في موريتانيا، ونظرا إلى ارتباط بعض الأنظمة في شمال غرب إفريقيا، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالأزمة المالية قبل الوضع الحالي في شمال مالي، حيث كانت هناك مجموعة من الحركات الداعية إلى الانفصال عن دولة مالي كالجبهة العربية الإسلامية لتحرير الأزواد والجبهة الشعبية لتحرير الأزواد وغيرهما من الحركات ذات التوجهات العروبية والإسلامية، كونها تضم مجموعة بشرية مكونة من قبائل أمازيغية وعربية لها امتداد بشري بين الجنوبالجزائري وشمال مالي. الحرب المالية تبعثر الأوراق المخابراتية الجزائرية ويبقى للبعد الاستراتيجي المخابراتي الجزائري دور بارز في هذا الصراع الداخلي للأزمة المالية، حيث كانت تتحكم في كل خيوط اللعبة السياسية على مدى حوالي نصف قرن، وهو ما يدفع بالصراع في شمال مالي إلى أن يطال باقي أجزاء الصحراء الكبرى، مما قد يبعثر أوراق خطط المخابرات الجزائرية في المنطقة، وأساسا في ما يتعلق بدعمها لحركة البوليساريو الانفصالية التي صنعتها الجزائر مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي، نظرا إلى ارتباط هذه الجماعة المُحتَجِزَة لسكان الصحراء المغربية في تندوف بباقي الجماعات الإرهابية التي تتخذ من الصحراء مرتعا لنشاطاتها المنفذة لخطط قاعدة بن لادن، حيث كثفت هذه الجماعات في الآونة الأخيرة من تعاونها، بعدما أمدتها جبهة البوليساريو بمقاتلين في صفوفها، وتعاونت معها إلى أبعد حد في جلبها للسلاح الذي سربته العصابات المتاجرة بالسلاح من ليبيا إبان الثورة الليبية التي أنهت عهد القذافي الذي كان بمثابة شريان الحياة بالنسبة إلى الحركات الانفصالية في منطقة الساحل والصحراء وفي المنطقة الإفريقية كلها، وهو الذي عاكس وحدة المغرب الترابية بعد المسيرة الخضراء ووقف إلى جانب الجزائر بدعمهما لجبهة البوليساريو في تندوف، وذلك بعطائه السخي من أموال الشعب الليبي الذي تضخه عائدات آبار النفط، حتى علا نجمه في إفريقيا ليتوج ملكا لملوك إفريقيا وتنهيه الثورة الليبية قتيلا في أحد مجاري الصرف الصحي على أيدي بني جلدته. الحرب في مالي وتأثيرها على مسار الاتحاد المغاربي هذا المعطى يؤثر، لا محالة، على مسار سفينة الاتحاد المغاربي التي ما تزال، أصلا، تشهد تعثرات بنيوية واستراتيجية، تسير سير السلحفاة؛ ويمكن لهذه المستجدات الجيو-استراتيجية المرتبطة بالصراع في شمال مالي أن تمتد بفتيل التوتر إلى باقي مناطق الساحل والصحراء الكبرى، على اعتبار أن ثمة صلة ما بين الحركات الإرهابية والحركات الانفصالية كجبهة البوليساريو. ويمكن أن تكون لهذه الحرب، التي قد يطول أمدها، تأثيرات على جميع دول المنطقة، إن هي أخفقت في استراتيجية خططها الحربية، وأولاها موريتانيا والجزائر وبوركينا فاصو والنيجر، والمغرب. وفي إطار الحرب القائمة شمال مالي، يرى بعض المراقبين والمهتمين بالشأن المغاربي، والصراع الخفي في منطقة الساحل والصحراء، أن ما يحدث في مالي الآن هو نتيجة لتناغم سياسي وتنسيق اقتصادي فرنسي مغربي، أمريكي، مما يهدد بسحب البساط من تحت النفوذ الجيو-سياسي الجزائري في إفريقيا لصالح الحفاظ على المصالح الاقتصادية المغربية وتطويرها في مالي، دون إغفال تغيير الاستراتيجية السياسية مع هذا البلد، للضغط عليه من أجل حمله على سحب ثقته من «جمهورية الوهم»، ومن ذلك التغلغل مستقبلا في منظمة الاتحاد الإفريقي، قصد خلخلة رؤية بعض أعضائها للوضع في الصحراء المغربية وإقناعها بسحب اعترافها بجبهة البوليساريو من هذا المنتظم الإفريقي الذي يعد المغرب من مؤسسيه. هذا الارتباك في الاستراتيجية المخابراتية الجزائرية يفسره إسراع الجزائر إلى عقد لقاء ثلاثي على أعلى مستوى لرؤساء وزراء الجزائر وليبيا وتونس لوضع خطة التنسيق الأمني للحدود بدون المغرب وموريتانيا، وكأن هذين البلدين لا يعنيهما ما يجري في شمال مالي، خصوصا وأن الجزائر لها حدود مع المغرب بحوالي 1400 كلم ومع مالي بحوالي 1330 كلم، ومع موريتانيا ب150 كلم، إضافة إلى 140 كلم مع النيجر، وهي حدود كلها موبوءة وملغمة. وهذه الخطوة غير المحسوبة، وغير التشاركية، هي ما رد عليه المغرب، في اعتقادي، بالقول: «يجب وضع الحسابات السياسية الضيقة جانبا والتفكير في المسؤولية المشتركة والتعاون المندمج والشراكة البناءة.. وينبغي مقاربة ظاهرة الإرهاب بشكل شامل، لا يعتمد فقط على التدابير العسكرية والبوليسية، لأن الإرهاب ينبع من مجموعة من العوامل المعقدة والمترابطة٬ السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ولمكافحته، لا ينبغي إهمال الحاجة إلى مكافحة الأسباب الخفية التي تؤدي إلى هذه الظاهرة عبر النهوض بإصلاحات سياسية والاهتمام بالتنمية البشرية٬ والقضاء بذلك على الظلم الاجتماعي، وإيجاد حل للنزاعات الإقليمية«. لذلك، وكما سبق القول في مستهل حديثي عن حيثيات هذه الحرب ومكمنها وتوابعها وتجلياتها، فإن الحل الجذري لإنهاء التوتر في الساحل والصحراء وفي المنطقة المغاربية ينبغي أن ينبني على أساس وضع استراتيجية تنموية تشاركية، تضع الأصبع على الجرح الإفريقي عموما، وعلى الجرح في منطقة الساحل والصحراء خصوصا، وتروم هذه الاستراتيجية التحلي بالشجاعة والعمل وفق المنطق التشاركي والمصلحي والتضامني من أجل تجاوز حالات التشرذم المجتمعي الإفريقي والاهتمام أساسا بالعنصر البشري، الذي يشكل النسبة الكبيرة في السلم الديمغرافي الإفريقي، وكذلك لكونه الطاقة الخلاقة والمبدعة للثروة وللتطور والازدهار. وهذا ما يفرض على المجتمع الدولي، وعلى الدول التي استعمرت إفريقيا بالأساس وسلبت خيراتها، أن تساهم وبشكل فعلي وفعال في تنمية هذه البلدان وتقدمها لإلحاقها بركب الدول النامية. ومن هذا المنطلق، نكون بهذه الاستراتيجية التنموية قد قضينا على منبع الفقر والجهل والعصيان والتمرد والتشدد الذي يجمل في تعبير «الإرهاب» باستعمال الدين مطية للحصول على ما لا تتيحه الوسائل المعتمدة الفكرية والعتادية واللوجستيكية من أجل تحقيق رغبة هذه الجماعات المتشددة والميليشيات الإرهابية والانقلابية في الوصول إلى التربع على عرش السلطة.