سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تجارة «البال» العابرة للقارات.. سلاح المهاجرين لمقاومة الأزمة فقدوا وظائفهم في أوربا فاختاروا العودة إلى الوطن والبحث عن مصدر عيشهم في الملابس المستعملة
50 بالمائة من المهاجرين المغاربة المقيمين بإسبانيا سقطوا ضحايا للبطالة، وفق الإحصائيات الرسمية الصادرة عن البلد الإيبيري خلال سنة 2012، رقم صادم يوضح المعاناة التي يعيشها هؤلاء بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي تعصف بعدد من البلدان الأوربية، والتي أثرت بشكل مباشرعلى المهاجرين المغاربة المقيمين بها. عدد كبير ممن فقدوا وظائفهم وأعمالهم على الجانب الآخر من البحر المتوسط فضلوا العودة بشكل نهائي إلى أرض الوطن، وأقاموا مشاريعهم الخاصة بما ادخروه من ميزانيات أيام الرخاء، بينما لا يزال عدد آخر ينتظر انفراج الأزمة، ويعيش على المساعدات التي تقدمها الدولة للعاطلين، وهناك فئة ثالثة وجدت أعمالا جديدة، ربما كانت أقل دخلا، ولكنها أفضل من لا شيء. غير أن هناك ظاهرة أخذت في الانتشار والتوسع بين المهاجرين، خاصة المتحدرين من مدن الشمال المغربي، والذين اختاروا المنزلة بين المنزلتين، فعادوا للإقامة بشكل جزئي في أرض الوطن، وحافظوا على تواجدهم في الديار الأوربية، وكانت وسيلتهم في ذلك احتراف تجارة «البال» العابرة للقارات. «التجارة الدولية» يحكي «المختار»، المهاجر المغربي المقيم بمدينة برشلونة الإسبانية منذ 23 عاما، عن فقدانه عمله جراء اضطرار السوق الممتاز الذي كان يعمل فيه إلى تسريح نصف العاملين به، بعد انخفاض مبيعاته وتناقص عدد الزبائن بشكل كبير جراء الأزمة. ويرسم «المختار» صورة قاتمة لما آلت إليه الأوضاع، «لقد أصبحت أسواق المساحات الكبرى خاوية على عروشها في إسبانيا، العائلات لم تعد تأتي مجتمعة للتسوق كما كان في السابق، ونادرا ما يمكنك مشاهدة عربات التسوق وقد امتلأت بالبضائع، فقد أصبح الجميع يحسب لكل أورو حسابه قبل إنفاقه». ويضيف المختار وهو منهمك في ترتيب البضائع التي يعرضها في مرآب منزله بحي «الحداد» الشعبي بمدينة طنجة، «بعدما أصبحت عاطلا عن العمل فكرت في كل الخيارات المطروحة أمامي، بحثت عن عمل آخر، لكن دون جدوى، وحينها قررت أخذ فترة نقاهة في المغرب لأعيد ترتيب أفكاري، فقررت أن أنقل بعض البضائع لأعيد بيعها في المغرب، حتى تسد جزءا من مصاريف السفر، ومنذ ذلك الحين أصبحت أمارس التجارة الدولية»، يختم جملته بضحكة عالية، ثم يتبعها بدعاء محمل بالأمل، «الله يفكها من عنده». ويروي الرجل، الذي يقترب من إتمام عقده الخامس، كيف استطاع من خلال ما حمله معه من بضائع خلال تلك الرحلة أن يغطي مصاريفها، ويحظى بهامش ربح بسيط، لكنه كان كافيا لتشجيعه على معاودة الكرة، والذهاب بعيدا في «احتراف» هاته التجارة، في انتظار الفرج. ويضيف محدثنا قائلا: «نحن ننتظر أن تمر هاته الأزمة وتعود الأمور إلى نصابها، ولكننا وجدنا ما نحافظ به على الاستمرارية، رغم الصعوبات التي نواجهها أحيانا، والإرهاق الذي قد نصاب به جراء كثرة الأسفار». بين قارتين وغير بعيد عن «المتجر» الذي يعرض فيه «المختار» بضائعه للبيع، يباشر شابان عمليات تنظيم معروضاتهما القادمة من القارة العجوز، ويقومان بإخراج الطاولات المحملة بالملابس والأواني وأشياء أخرى، حتى تكون ظاهرة للمارين من الشارع، وتجذب انتباههم. محمد وسمير يقتربان من دخول الثلاثينات من العمر، تمكن أكبرهما، محمد، من العبور إلى الضفة الشمالية لمضيق جبل طارق قبل نحو ست سنوات، في عملية هجرة سرية باستخدام أوراق مزورة كما قال لنا، ثم أسعفته ظروف الانفتاح في الحصول على أوراق الإقامة هناك، حينما قررت الحكومة الإسبانية تسوية الوضعية القانونية لأعداد من المقيمين بصفة غير شرعية. يقول محمد إنه لم يستمر في عمل واحد لمدة تزيد عن السنة، لإحساسه الدائم بأن جهده يتم استغلاله بشكل سيء، ولا يتلقى الأجر المكافئ له، سواء خلال عمله في الحقول الفلاحية، أو في أعمال البناء، أو سائقا في إحدى الشركات الخاصة، وكان ذلك آخر عمل يقوم به لدى الآخرين، قبل أن يقرر قبل سنة وتحت ضغط الأزمة دخول غمار التجارة في السلع بين المغرب وإسبانيا. وجد محمد في هذه التجارة مصدرا جيدا للدخل كما يقول، فقرر إشراك أخيه سمير الذي كان عاطلا عن العمل فيها، واتفق الطرفان على أن يتكلف سمير بمباشرة البيع في «المتجر»، بينما يقوم محمد بجلب البضائع من إسبانيا، وفق نسب محددة في الأرباح لكل منهما. يتدخل سمير في هذه اللحظة في الحوار، «الآن أصبح هو متفرغا للبحث عن السلع في الخارج، ولم يعد يحمل هم البيع هنا، وأنا لم أعد عاطلا عن العمل، وكلانا ينال رضا الوالدة كل صباح ومساء»، يبتسم الشابان كأنهما منتشيان بصيد ثمين. رحلة البضاعة ويستطرد محمد في الحديث عن رحلة السلع التي يقوم بجلبها، «في كل مرة تحتاج إلى أن تبذل مجهودا في البحث عن البضائع، لم يعد الأمر كما كان في السابق، الإسبان أصبحوا أكثر احتفاظا بمقتنياتهم، ولا يبدلونها إلا لضرورة، بفعل الأزمة التي قلصت مداخيلهم وأرغمتهم على خفض مستوى عيشهم». ويضيف قائلا: «هناك أسواق معروفة للسلع المستعملة، التجار فيها من المغاربة كما من الإسبان، ومن جنسيات أخرى أيضا، وغالبا ما يتم التفاوض على المعروضات بالجملة، رغم أنها ليست من نفس النوع، وذات قيم مالية مختلفة، ولكن هذا يسهل علينا الحصول على شحنة السلع بجهد أقل، وهذه الطريقة جيدة للبائع أيضا». كما أن استخدام الأنترنت أصبح جزءا من المهمة كما يؤكد محمد، فباستخدام عدد من المواقع المتخصصة في التجارة عبر الأنترنت يتتبع البضائع المعروضة، والتي قد تشكل فرصا مميزة، خصوصا بالنسبة للمقتنيات الكبيرة مثل الأجهزة المنزلية الكبيرة، والحواسيب ونحوها. وبعد أن يحصل محمد على البضائع التي تكفيه في رحلته، والتي لا يجب أن تتجاوز الوزن المسموح به للسيارة، ينطلق في رحلة العودة إلى أرض الوطن، وهنا في ميناء طنجة المتوسط تبدأ مرحلة أخيرة قبل أن تصير البضاعة قابلة للبيع، وهي أداء الرسوم الجمركية. ويقول محدثنا في هذا الصدد: «الرسوم الجمركية تتفاوت مع كل رحلة، هناك بعض البضائع التي لا نؤدي عنها شيئا، وهناك سلع أخرى تتشدد الجمارك في إجراءاتها، ونضطر لأداء المبالغ المطلوبة، مما يجعل ثمنها يرتفع أكثر، مثل الثلاجات وآلات الصابون والأفران». تحديات المهنة ويتفق كل من محمد وسمير مع المختار في أن هناك صعوبات كثيرة تواجه عملهم، فبالإضافة إلى صعوبة إيجاد السلع الملائمة في بعض الأحيان، والإرهاق الناتج عن السفر، يجد هؤلاء صعوبة في ترويج بعض البضائع أحيانا، بينما يكون اجتياز «امتحان» التعشير أصعب مرحلة في العملية برمتها. ويؤكد المختار أنه أصبح يفضل اقتناء السلع من المدن الساحلية في الجنوب الإسباني، بدل التوجه إلى مدينة برشلونة في كل مرة، نظرا إلى بعد المسافة، لكن إيجاد السلع الملائمة ليس بالمهمة الهينة، فضلا عن أن بعض البائعين يطلبون مبالغ مالية أكبر من طاقته أحيانا، ولا تترك له هامشا من الربح، وهو ما قد يكلفه أياما من البحث قبل العثور على مراده. ويضيف المختار «أقضي في بعض الأحيان مددا طويلة وأنا أسوق السيارة متنقلا بين المدن والأسواق، وهو ما يخلف آثارا على صحتي، بحكم الإصابة التي أعاني منها في الكتف، وتزيد المعاناة عندما تكون الرحلة من دون طائل». من جانبه، يؤكد محمد أن المبالغ المالية التي تطلبها الجمارك، والمبالغ فيها في بعض الأحيان، هي ما تؤرقه أكثر، خصوصا بعدما أصبح معروفا بكثرة تنقلاته عبر ميناء طنجة المتوسط، «أضطر في الأخير لدفع المبلغ الذي نصل إليه بعد التفاوض، لكن التفاوض في السلع الكبيرة غير ممكن، فمن الواضح أنها موجهة للتجارة وليست للاستعمال المنزلي». على قارعة الطريق في شارع رئيسي من شوارع منطقة العوامة بمقاطعة بني مكادة بطنجة، يوقف شخص سيارته التي تحمل لوحات ترقيم إسبانية، ويشرع في إخراج عدد من السلع ووضعها على قارعة الطريق، فيما يحتفظ بسلع أخرى داخل صندوق السيارة، لتتحول هذه الأخيرة إلى ما يشبه المتجر المتنقل. ويؤكد عبد المجيد أنه يمارس هذه التجارة منذ بضعة أشهر، ويقوم برحلة بين إسبانيا والمغرب كل شهر، حاملا معه ما استطاع حمله من البضائع التي يركز على أغلاها وأكثرها طلبا لدى المغاربة. «أفضل عرض بضائعي على رصيف الشوارع التي تعرف تدفقا للراجلين، نظرا لأن اكتراء مرآب سيجعل التكلفة ترتفع، ولن يترك لي هامشا جيدا من الأرباح، كما أن الترويج للسلع يتم بشكل أفضل بهذه الطريقة، حيث أتمكن من بيعها في وقت قصير نسبيا»، يقول عبد المجيد، في تصريح متقطع وهو يباشر عمليات التفاوض مع الزبائن. يتنقل عبد المجيد بين مناطق مختلفة من مدينة طنجة، ولا يجد أدنى حرج، كما يقول، في التوقف بسيارته وسط بعض الشوارع الهامشية أو الأسواق الشعبية، والصياح بأعلى صوته للترويج لبضائعه، كما كان عليه حاله عندما لفت انتباهنا إليه أول الأمر. إيجابيات وسلبيات ويتفق المهاجرون الذين التقتهم «المساء»، والذين اختاروا ممارسة هذه التجارة، أو اضطروا لذلك، على أن هناك فوائد ومساوئ لذلك، تتنوع بين التأثير الاجتماعي على أسر المهاجرين، والقلق الذي يسببه عدم الاستقرار في كفة السلبيات، والزيارة المتكررة للوطن وصلة الرحم، والتمكن من مواجهة تحديات الأزمة في كفة الإيجابيات. ويرى الأخوان محمد وسمير أن هذه التجارة مكنت الأسرة من الاجتماع مجددا، وحققت لهما التعاون الذي طالما نصحتهما والدتهما به، كما أن عدم وجود محمد في الغربة بشكل دائم يطمئن الوالدة أكثر، «لقد شرعت في البحث عن عروس لكل منا»، يقول سمير باسما، ثم يردف «الله يخلي لينا الوالدة». وفي مقابل ذلك، يعبر المختار عن أسفه لاضطراره لترك ابنيه اللذين يتابعان دراستهما في إسبانيا لفترات طويلة، تارة رفقة زوجته، وتارة وحدهما عندما ترافقه زوجته إلى المغرب، «ولكن لا بد من التضحية بشيء ما، والصبر إلى حين انفراج الأزمة»، كما يقول المختار. أما عبد المجيد، فيبدو مستمتعا بعمله إلى حد كبير، ففي كل مرة يأتي فيها إلى المغرب، وينهي بيع البضائع التي جلبها معه، يقوم بزيارة لبعض المناطق السياحية الموجودة في الشمال، ورغم أنه في بداية الثلاثينات فإنه يبدي الكثير من التريث في مسألة الزواج. ويقول عبد المجيد: «لا أعتقد أنني سأقبل أي عمل آخر سواء في المغرب أو إسبانيا، التجارة الحرة هي مصدر رزقي الآن، وما دام الناس يقبلون على البضائع التي نجلبها فإنني سأواصل عملي هذا». عائدات مالية تتراوح العائدات المالية لهذه التجارة، كما يؤكد أصحابها بين 8000 و10000 درهم شهريا، وذلك في ارتباط بالمراسم التي تشهد رواجا في بعض الأحيان وضمورا في أوقات أخرى، كما تتعلق المصاريف بنوعية السلع التي يتم جلبها، والتي قد لا تتوفر في بعض الأحيان لدى التجار في الضفة الشمالية. ويؤكد المختار أنه يتعامل مع تجار مغاربة على الضفة الأخرى، يقومون بدورهم بالحصول على تلك السلع بطرق مختلفة، لكنه يشدد على رفضه اقتناء السلع المسروقة، إذا ما ظهرت شبهة السرقة، خصوصا من خلال المبالغ المالية المطلوبة. أما عبد المجيد، فيقول إنه يحقق عائدا ماليا أكبر من ذلك في كل رحلاته الشهرية، رافضا إعطاء مزيد من التفاصيل حولها، لكنه لمح إلى عدم رفضه اقتناء السلع التي يريدها حتى ولو كان من الواضح أنها مسروقة.
متاجر «المهاجرين».. تشكيلات منوعة من بضائع «الخارج»
لا تختص تجارة «البال» العابرة للقارات في نوع محدد من البضائع، بل تقدم تشكيلة متنوعة منها، تتوزع بين الشخصية والمنزلية والترفيهية وغيرها. ويضم المتجر الواسع في مرآب منزل والدة محمد وسمير أقساما متعددة يعرض بعضها الملابس «شبه الجديدة» كما يحلو لهما تسميتها، وإلى جانبها الأحذية المقسمة بدورها إلى رجالية ونسائية، وأخرى رياضية، وثالثة خاصة بالأطفال، والأمر نفسه في ما يخص الملابس. وإلى جانب هذا القسم، تصطف أعداد من الأواني المنزلية المتنوعة، وتضم الكؤوس والأطباق الزجاجية، وتشكيلة مختلفة الأحجام والأشكال من قدور الطبخ والمقالي، والسكاكين والملاعق والأشواك وغيرها. أما أثمنة هذه المنتوجات فتختلف باختلاف حالتها العامة والشركة المنتجة لها، ويجري التفاوض حول كل منها على حدة، وقد يتجاوز سعر المستعملة منها ثمن شبيهتها الجديدة، التي يتم إنتاجها في المغرب، نظرا لاختلاف الجودة، كما يؤكد سمير. وفي ركن آخر، يصطف عدد من الثلاجات مختلفة الأحجام، وإلى جوارها فرنان للطبخ، وجهاز التسخين الكهرومغناطيسي وعدد من آلات غسل الملابس، وكلها مستعملة استبدلها أصحابها الأوربيون بأخرى جديدة، ووجدت طريقها إلى المغرب، بعد عدة مراحل. ويضم متجر المختار هذه البضائع أيضا، وإلى جانبها كميات كبيرة من ألعاب الأطفال المختلفة، والتي تتراوح بين الدمى الصغيرة البلاستيكية، والدراجات وألعاب الذكاء. ولا تقتصر البضائع الخاصة بالأطفال على الألعاب، بل تضم الأسرة والعربات المدفوعة وأشياء أخرى. وفي زاوية من متجره، يعرض المختار غرفة نوم كاملة، مجهزة بالسرير وملحقاته، ويؤكد أنها نموذج للعرض يمكنه جلب نسخ أخرى منه تحت الطلب، وكذلك الشأن بالنسبة لقاعات الأكل التي يعرض اثنتين منها. أما عبد المجيد، فيفضل جلب الحواسيب ذات الجودة العالية والهواتف، والآلات المنزلية، نظرا إلى هامش الربح الجيد الذي تحققه، وإلى ارتفاع الطلب عليها بين الشباب، كما أنه يستطيع بيعها بالجملة للمحلات المتخصصة في هذه السلع. قطع الأثاث المختلفة تأخذ بدورها حيزا في متجري محمد والمختار، ومثلها في أغلب المتاجر الشبيهة المنتشرة في أحياء مدينة طنجة وغيرها من مدن الشمال، لكنها تبقى قليلة بالنظر إلى طول مدة عرضها قبل بيعها كما يؤكد هؤلاء، لذا يفضلون جلبها تحت الطلب. ويؤكد المختار أن الآلات الكبيرة توفر له عائدا ماليا جيدا، غير أن اضطراب السوق وتغير اهتمامات الزبائن يجعل الأمر غير مضمون، وقد «يتورط» أحيانا في جلب بعض السلع التي تأخذ مساحة كبيرة في المحل وتظل لوقت طويل قبل بيعها. وتبقى «الرمزية» التي تحظى بها السلع القادمة من «الخارج» عاملا إيجابيا في رواج البضائع التي يعرضها المهاجرون الفارون من صداع الأزمة، في انتظار أن تلوح انفراجة جديدة تريحهم من هذه المهنة «المؤقتة»، إلى متى؟ لا أحد يملك الجواب.