لا يتوقف التلاعب بصحة المغاربة عند بعض الأصناف من المنتجات التي تستعمَل يوميا، مثل الأحذية والملابس ولعب الأطفال والتجهيزات المنزلية، وهي التي كشفنا بعض مخاطرها في المقال السابق، لكنْ حين يتعلق الأمر بمنتجات غذائية فإنّ الأمر يستحق أكثر من وقفة للقول إن الأمور قد تخرج عن حدود السيطرة وتصير صحة المواطنين تحت رحمة مستوردين جشعين ولوبيات لا يهمّها من كل هذا سوى تحقيق الربح السريع، مستفيدة من تواطؤ أطراف يُفترَض أن مهمتها الأسمى هي المساهمة في الحفاظ على سلامة المواطنين، في حين تبقى القوانين عاجزة عن وضع حد لوضع يستفحل يوما عن يوم..
هكذا يتحايل بعض المستوردين ل«تدمير» صحّة المغاربة
تلاعبات بالجملة ومساطر قانونية لا تحترم ومواد خطرة تلج الأسواق من بوابة الاستيراد
الأمثلة كثيرة على ملفات توَرّط فيها مستوردون استطاعوا -بوسائل غير قانونية- إدخال كميات كبيرة من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك، إما لاحتوائها مواد كيماوية خطيرة، أو لانتهاء صلاحيتها أو لعدم احترامها المقاييسَ المعتمدة.. أطنان من التمور والمكسرات (فستق ولوز وفول سوداني).. ومستحضرات التجميل وغيرها من المنتجات التي تدخل «عنوة» إلى السوق الوطني، وإليكم بعض النماذج لنبيّن أن خيطا رفيعا يفصل بين السلامة والخطر، في مجال تصير فيه الإغراءات وسيلة لإزالة كل العقبات من الطريق.. تمور من زمن الحرب.. هذا واحد من الملفات التي تؤشر على مدى بشاعة بعض المستوردين الذين يستغلون بعض الظروف من أجل «إغراق» السوق بمنتجات تشكل خطرا على الصحة العامة، وهو أيضا ملف يبرز سهولة تورط موظفين مقابل عمولات، دون مراعاة لأي وازع أخلاقي أو مهنيّ.. رغم أن المساطر تفرض أن التمور، على غرار المنتجات الغذائية، تخضع لمجموعة من الفحوص والتحليلات، من طرف للمكتب الوطني للسلامة الصحية، لإثبات مدى تعرضها للتلف أو وجود حشرات ضارة فيها، أو إصابتها بإشعاعات أو وجود معدلات عالية من المواد الكيماوية الخطيرة فيها، حيث تؤخذ العينات بشكل عشوائيّ توجه إلى المختبر وعلى ضوء نتائج التقرير الإيجابية يتم إدخال هذه السلع، بعد استيفائها الرسوم الجمركية. تفجّرت القضية خلال شهر رمضان، قبل 3 سنوات، وكان «بطلها» مُعشّر زوّر مجموعة من الوثائق لإدخال 112 طنا من التمور العراقية عبر ميناء الدارالبيضاء، بعد أن سلّمته مصلحة مكافحة الغش في الميناء المذكور شهادة تؤكد أن تلك التمور غير صالحة للاستهلاك وغير مقبولة.. وحسب المعطيات التي كشفتها مجموعة من التقارير المُنجَزة في هذه القضية، فقد تمكنت مصلحة التدقيق والتفتيش في المديرية الجهوية للدار البيضاء -الميناء من رصد عملية دخول حوالي 112 طنا من التمور غير صالحة للاستهلاك، مُحمَّلة في 11200 علبة ومودعة في أربع حاويات، وهي العملية، التي باشرتها المصلحة بعد توصلها برسالة من وزارة الفلاحة والصيد البحري تتضمّن لائحة تضمّ مجموعة من السلع غير الصالحة للاستهلاك، والتي على ضوئها باشرت المصلحة البحث حول مآل تلك التمور، التي اتضح أنها خرجت من ميناء الدارالبيضاء بعد أن أعلمت مصلحة مكافحة الغش أنها «غير مقبولة»، حيث تم منح مصلحة الاستيراد في الميناء نسخة من بيان يقرّ بأنه تم، فعلا، «خروج» 112 طنا من التمور غير الصالحة للاستهلاك.. والمثير في الملف أنه سبق لمصلحة محاربة الغش في ميناء الدارالبيضاء أن أعلمت الشركة المستوردة بالإشعار الذي مفاده أن هذه التمور غير صالحة وغير مقبولة، ولكنْ رغم توصل الشركة بهذا الإشعار، فإن المُعشّر قام بتزوير الوثيقة في مصلحة خارج مصلحة الميناء وأخرج البضاعة من الميناء، بعد أن زوّر الوثائق الخاصة بالعملية، بمساعدة مفتش ومهندس معروف بتزويره الوثائق، ألقي عليه القبض لاحقا، بعد تورّطه في مجموعة من العمليات «التدليسية»، أما المفتش المذكور في هذه القضية فقد تم توقيفه لمدة شهرين، وهو الآن يزاول مهامه داخل ميناء الدارالبيضاء.. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما هي كمية هذه التمور غير الصالحة للاستهلاك التي وصلت فعلا إلى بطون البسطاء المغاربة، وهم على الأرجح أناس لم يعلموا منشأها ولا حقيقة أنها قد تكون خطيرة مع ورود معطيات ترجّح فرضية إصابتها بإشعاعات، بسبب أطنان القنابل التي سقطت فوق التراب العراقي، وحده المستورد والمعشّر ومن ساعدوا على إخراجها من الميناء يعلمون حقيقة الأمر.. يتعلق الملف الثاني الذي تطلعكم عليه «المساء» بكميات من الكاكاو ضُبطت في الميناء نفسه وفي السنة نفسها، والأدهى هو أن الإجراءات المتعلقة بالشحنة أنجِزت من طرف المُعشّر نفسه في القضية الأولى ولفائدة شركة أخرى. وحسب المعطيات التي كشفتها الوثائق والمحاضر المُنجَزة بخصوص القضية، فإنّ الأمر يتعلق بشحنة من ثلاث حاويات من الكاكاو المستوردة من جمهورية مصر العربية يبلغ وزنها الصافي 5 أطنان، وهي الشحنة التي أثبت التحاليل المخبرية التي أنجزتها مصالح قمع الغشّ، التابعة للمكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية على عيّنات أخِذت منها، أنها غير صالحة للاستهلاك. وعلى غرار الملف السابق، وبالأسلوب نفسه، ورغم توصل الشركة، عبر وكيلها، بالإشعار الذي يفيد بضرورة إتلاف الشحنة أو إرجاعها إلى بلد المَصدر، ما يعني عدم إمكانية دخولها إلى السوق الوطنية، فإن المُعشّر زوّر الوثيقة في مصلحة خارج مصلحة الميناء وأخرج البضاعة من الميناء، بعد أن قام بتزوير الوثائق الخاصة بالعملية، بمساعدة مفتش أثبتت التحريات أنه لا يشتغل في المصلحة المعنية بتتبع إجراءات إخراج الشحنة.. ورغم ذلك فقد عمد إلى وضع خاتمه على الوثيقة التي استعملتها الشركة لإخراج الحاويّات. وتشير محاضر الاستماع التي أنجزتها مديرية الجهوية للجمارك للمفتش المتورط في العملية، إلى أنه أنكر كل الوقائع التي نُسبت إليه، متذرعا بكون تجربته المهنية وتكوينه لا يسمحان له بتقديم وثيقة «رفع اليد» عن سلع لا تدخل ضمن دائرة اختصاصه، فضلا على أن العملية تبقى رهينة بتسليم الشركة المعنية وثيقة مسلمة من مصلحة محاربة الغش، تثبت صلاحية الحمولة. أكثر من هذا، أنكر المفتش صلته بالوثيقة التي اعتمدتها الشركة، مؤكدا أن التوقيع المتضمن في الوثيقة ليس بخط يده، وأن مثل هذه الحوادث قد تقع لأيّ مفتش بالنظر إلى ظروف الاشتغال التي يعمل فيها هؤلاء!.. مجرد تهمة! الملف الثالث يتعلق بشحنة من مواد التجميل، دخلت عبر ميناء الدارالبيضاء، وتفيد المعطيات المتوفرة أنها مصنوعة في الصين وأتثبت التحاليل المخبرية أنها غير صالحة للاستعمال، كما أنها تحمل اسم ماركة عالمية مشهورة. تشبه تفاصيل هذه القضية -إلى حد كبير- القضيتين السابقتين، إذ تم الاعتماد فيها أيضا على مجموعة من الأفعال التدليسية وتزوير الوثائق بتواطؤ مكشوف مع بعض الموظفين، وهو ما مكّن مستوردها من التلاعب في الوثائق لتمريرها في مصلحة مكافحة الغش في الدارالبيضاء الخارجية، فيما كانت هذه المصلحة قد سلمته شهادة تثبت عدم الصلاحية. والمثير في القضية هو أنه تم تمرير هذا المنتوج التجميليّ الصيني على أنه منتوج قادم من فرنسا وإيرلندا وتايلند. بعدما قام المستورد بتغيير رقم المصلحة التي منحته الشهادة السلبية.. وحسب الوقائع فقد قامت وزارة الفلاحة والصيد البحري ومديرية مراقبة الجودة في الحدود بإرسال لائحة بالسلع غير الصالحة للاستعمال إلى مصلحة التدقيق والتفتيش في ميناء الدارالبيضاء. وعلى ضوء هذه اللائحة بحثت لجنة مكونة من مجموعة من المراقبين في مصير تلك السلع، ليتضح من خلال الأبحاث التي أجرتْها اللجنة أن مادة التجميل هي عبارة عن مرهم مستورَد من طرف شركة تعشير لحساب شركة مستورِدة. ولإلقاء الضوء على حيثيات هذه القضية، أطلق تحقيق بشأنها، حيث اتصلت لجنة المراقبة بالشركة المُكلَّفة بالأرشيف وبمصلحة مكافحة الغش في الدارالبيضاء وكذا بالشركتين المعنيتين بالعملية والمقاطعة الثالثة في ميناء الدارالبيضاء للتحقق من عملية التخليص الجمركية لهذه المادة التجميلية والاستماع إلى الأشخاص المتورطين في عمليات الاستيراد، وكذا إلى المفتش الذي أنجز البيان المفصل للبضائع. وبالفعل، فقد أثبتت التحريات التي قامت بها اللجنة تورّط المفتشة التي سمحت بمرور المادة التجميلية (ماركة عالمية معروفة) بعد أداء جميع الرسوم الجمركية. وقد اتصلت لجنة المراقبة كذلك بمصلحة مكافحة الغش في ميناء الدارالبيضاء وتم إعطاء المراقبين نسخة تبيّن أن هذه المادة هي فعلا غير صالحة للاستعمال. كما تم منح لجنة المراقبة نسخة من غلاف المنتوج الخاص بهذه المادة التجميلية المكتوب عليها أنها مصنوعة في فرنسا وإيرلندا وتايلند، فيما هي منتوج صينيّ.. وبعد إخبار المراقبين أن المخوّل بإعطاء شهادة مرور مثل تلك المواد هو مكتب الدارالبيضاء الخارجية، تم الاتصال بالمكتب وتم منح اللجنة الوثائق التي تثبت توصل المكتب بالمادة التجميلية، حيث تشير المحاضر إلى أنه اكتُشف أنّ الرمز مزوَّر وأنه تمت إزالة الرقم 9 ووضع مكانه الرقم 0، علما أن الرقم 309 تابع للدار البيضاء -الميناء، وعندما تم تغييره ب0 أصبح تابعا للدار البيضاء الخارجية. وأكدت المصادر نفسها أن عاملا في مصلحة مكافحة الغش في الدارالبيضاء الخارجية هو من وقّع الوثيقة لكي تمر المادة التجميلية على أساس أن الوثائق التي مُنحت له لا تبيّن أنها مزورة. وقد كشفت التحريات أن المستورد هو الذي سهر على عملية مراقبة الجودة في ما يتعلق بهذه المادة التجميلية، وهو من وضع الملف الخاص بها لدى أحد المفتشين، وهو من منح وثيقة تمرير البضاعة.. وبعد أن استخلص الوثيقة التي تسمح له بتمرير المواد دفع الرسوم الجمركية وكل التكاليف الخاصة بمرور السلعة، كما قام بأخذ الملف الذي كان يضمّ البيان المفصل للبضاعة وفاتورة السلعة والالتزام بالاستيراد والإشعار الذي يوضح أن السلعة غير صالحة للاستعمال، حيث أخذ الملف شخصيا إلى أحد الوسطاء المعروفين بعلاقتهم مع مستخدَمي مصلحة الغش في الدارالبيضاء الخارجية ومنحه الملف وأربعة نماذج من المادة التجميلية بعد أن منحته مصلحة مكافحة الغش في مصلحة الدارالبيضاء -الميناء شهادة تفيد أن المادة التجميلية «غير صالحة». بعد ذلك، قدّم المستورد طلب تفتيش آخر، ولكنْ هذه المرة لدى مصلحة مكافحة الغش في الدارالبيضاء الخارجية، حيث تمكن من الحصول على إشعار من طرف الدارالبيضاء الخارجية بأنّ المستحضرات «صالحة للاستعمال».. وعلى غرار الحالتين السابقتين، دفعت المفتشة ببراءتها من تهمة التواطؤ، وقالت بخصوص تحميلها المسؤولية من طرف لجنة المراقبة إنها لم تمنح الترخيص بخروج السلعة حتى توصلت بإشعار من مصلحة مكافحة الغشّ!!..