صحافي اختار أن يغضب الملك لم يولد أبو بكر الجامعي معارضا للنظام الملكي في المغرب. فانتماؤه لآل الجامعي منحه الكثير من الامتياز ليكون طالبا ثم إطارا اختار أن يشتغل في القطاع الخاص. في ذلك الوقت لم يكن أبو بكر يتحدث لغة السياسة بقدر ما كان يبحث لنفسه عن موطئ قدم في عالم المال والأعمال. لكنه حينما جرب مهنة المتاعب وجدها مغرية، خصوصا وأن الوالد كان أحد مناضليها في جريدة حزب الاستقلال الناطقة باللغة الفرنسية. منذ اختار مهنة الصحافة، بعد أن كان من قبل يشتغل في القطاع الخاص، سيرسم أبو بكر الجامعي خطا آخر غير الذي رسمه مثلا والده خالد الجامعي، الذي جرّب هذه المهنة وهو يشتغل بجريدة لوبينيون قبل أن يترأس تحريرها. كان الظرف مناسبا، فالحسن الثاني أدرك أخيرا أنه بحاجة لخصوم الأمس، لذلك دعا الاتحاد الاشتراكي لقيادة أول حكومة تناوب ستسهل الانتقال السلس للعرش منه إلى محمد السادس، ولي العهد الذي كان معجبا آنذاك بعدد من المثقفين المغاربة والذين كان يستقبلهم على عهد والده. ولأن التناوب كان قد فتح الكثير من الأبواب التي ظلت موصدة لعقود، ومنها حرية الصحافة، فقد ارتأى الجامعي، ومعه بعض الشباب المتحمس أن ينخرطوا في مشاريع إعلامية كان أقواها آنذاك «لوجورنال» باللغة الفرنسية، ثم «الصحيفة» باللغة العربية. اعتبرت «لوجورنال» في بداية عهدها مشروعا للعهد الجديد رغم خطابها المتشدد. وظل الجامعي رفقة شباب لوجورنال من المقربين إلى صديق الملك فؤاد عالي الهمة، الذي سيكلف هذا الفريق بمهمة خاصة لدى أصدقائه في «لوموند» الفرنسية. تلك المهمة التي اعتبرها خصوم الجامعي دليلا على أن الرجل هو واحد من المقربين من القصر، خصوصا وأنه راجت وقتها بعض الأخبار التي تحدثت عن توفير دعم خاص لمؤسسة «لوجورنال» من أجل اقتناء مطبعة. غير أن الأمور ستتغير بتغير لغة الخطاب التي أرادتها لوجورنال، وسيصل الأمر إلى حد التوقيف والمنع. ولم يكن خلف هذه المشاريع غير الشاب الجامعي، الذي سيشكل حينما جاء محمد السادس إلى العرش، «صفا» معارضا لسياسة البلد عبر صفحات لوجورنال ومن خلال افتتاحياتها. جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وأغلقت لوجورنال ثم الصحيفة، قبل أن يولدا من جديد بأسماء أخرى. ثم أصبحت المواجهة بين الجامعي والنظام شبه علنية سيختار بعدها أبو بكر الهجرة إلى خارج المغرب، فيما يشبه المنفى الاختياري. لكنه منفى لم يختف فيه عن الأنظار، بل إنه واصل معاركه مع نظام محمد السادس ليكون اليوم واحدا من خصومه. لقد قال في المدة الأخيرة منتقدا نظام محمد السادس إن الأسس التي كان يعتمد عليها النظام المغربي بدأت تتلاشى، داعيا الاتحاد الأوروبي إلى ممارسة ضغوطه على المغرب لاستئناف مسلسل دمقرطة البلاد. وتحدث أبو بكر الجامعي عن تفاقم الغضب الشعبي بالمغرب، مؤكدا أن ثلاثة عوامل هي التي تشكل خطرا على البلاد وهي إسكات الصحافة، والتضييق على عمل جمعيات المجتمع المدني النزيهة مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وإنشاء حزب سياسي من قبل صديق الملك، فؤاد عالي الهمة. ومع ذلك فإن الثورة الشعبية في المغرب «ليست وشيكة» لأن نظام الملك محمد السادس «ما زال يتوفر على بعض صمامات الأمان تتمثل في وسطاء اجتماعيين يوجهون استياء المجتمع الذي يتوفر على مؤشرات نمو تعد من بين الأسوأ في العالم العربي» يؤكد الجامعي. ولكنه اعتبر أن الجمود السياسي هو موضع مساءلة أكثر فأكثر من قبل الفاعلين السياسيين المحليين، خصوصا وأن خلق حزب سياسي يقف خلفه صديق الملك ومستشاره الحالي، أدى إلى تهميش أكبر للأحزاب السياسية التقليدية والتي «تم أصلا تدجينها بشكل كبير». لا يخفي أبو بكر الجامعي في جل تدخلاته أن القصر يسيطر على عدد كبير من موارد البلاد كالأبناك، وشركات التأمين وقطاع الاتصالات، بالإضافة إلى الإنتاج الزراعي والعقارات. هذه الأخطاء، التي يرى الجامعي ضرورة دخول الشركاء الدوليين وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي من أجل الضغط على النظام المغربي لإصلاحها من خلال استئناف عملية التحول الديمقراطي التي تم تنويمها، حسب توصيف الجامعي الذي يوصف اليوم كواحد من أشد معارضي نظام محمد السادس، على الرغم من أنه كان من أقوى المدافعين عن تجربته حينما كان ولي عرش المملكة.
علبة أسرار الحسن الثاني الذي جرب لغة «المعارضة» بدأت ملامح إبعاد إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، من تدبير الشأن العام تظهر منذ 1996، حيث فشل أول تناوب حلم به الملك الراحل، وهو التناوب الذي كان سيقوده حزب الاستقلال بمشاركة اتحادية. لكن نوبير الأموي، الرجل القوي وقتها في الاتحاد وفي الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، هو من سيُفشل هذا التناوب بعد أن أعلن تضامنه مع كاتبه الأول عبد الرحمن اليوسفي، الذي كان قد أعلن غضبه مما عرفته الانتخابات وقتها من تجاوزات. لم يجد الحسن الثاني من مبرر لهذا الأمر غير أن يقول، في بلاغ للقصر الملكي، إن التناوب فشل لأن إدريس البصري لم يعد مرغوبا فيه. لكن المفاجئة هي أن ابن الشاوية سيحتفظ بمنصبه وزيرا للداخلية حتى حينما انطلق قطار التناوب بقيادة الاتحاد الاشتراكي. غير أن معطيات كثيرة ستتغير بعد اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، إذ سيصبح مقام إدريس البصري في الحكومة مسألة وقت فقط. فبعد أن أعلن الدكتور بربيش عن وفاة الحسن الثاني لابنه الملك محمد السادس، ولي العهد آنذاك، بمكتبه بمصحة مستشفى ابن سينا زوال يوم الجمعة 23 يوليوز 1999، سلبت من إدريس البصري، علبة أسرار الحسن الثاني، حرية التحرك وحق إصدار الأوامر، والمساهمة في صنع القرار. ففي زوال يوم الجمعة 23 يوليوز 1999 أوقفت التلفزة المغربية برامجها المعتادة، وشرعت في بث آيات من القرآن الكريم. وفي نفس هذه اللحظات، كان إدريس البصري مرغما على البقاء بإحدى قاعات القصر الملكي بالمشور السعيد بالرباط، وهو تحت المراقبة اللصيقة من طرف مجموعة من الضباط، بعيدا عن عيون الوافدين إلى دار المخزن آنذاك لتقديم التعازي. إذ بدا بجلاء أن الملك محمد السادس اعتمد على الجيش لتنحية صاحب «أم الوزارات». لذلك سينزل قرار إقالته من منصبه بردا وسلاما على المغاربة، الذين ضاقوا ذرعا بسياساته وهو الذي كان ممسكا بقضايا أمن المملكة وأسرار تسييرها بقبضة من حديد، على الرغم من أن «رئيسه» في الحكومة عبد الرحمان اليوسفي اختار أن يحتفي بمغادرته، وينظم له حفل وداع. لم يستسغ البصري، وهو الذي اعتبر نفسه واحدا من صناع المغرب الحديث بسياسييه ونقابييه وجمعياته، هذا الإبعاد، لذلك سيخرج عن «صمته» ليقول في أكثر من مناسبة إن النظام الملكي مهدد في المغرب، وهي الخرجات التي اعتبرها العديد من المراقبين «مزايدات» من رجل كان ذا حظوة في مغرب الحسن الثاني فوجد نفسه مبعدا في مغرب محمد السادس. كان لا بد أن تتحرك الكثير من الجهات لثني رجل الحسن الثاني عن الكلام، دون أن تنجح في ذلك. وظل الرجل يوجه سهام نقده للمقربين من محمد السادس، أولئك الذين وصفهم ب»المربع الذهبي الذي لا يفهم في تدبير الشأن السياسي للمغاربة». كان طموح إدريس البصري أن يرتقي إلى منصب مستشار ملكي، فالتجربة التي قضاها على رأس أم الوزارات، بكل امتدادها الأخطبوطي، لا يجب أن تضيع سدى. وضدا على كل رغباته، سيضطر ابن الشاوية ليعيش في منفى اختياري بباريس، رغم أن سفره إلى عاصمة الأنوار كان لدواع صحية، ومن هناك سيوجه الكثير من سهام نقده في اتجاه نظام محمد السادس والمتحكمين في دواليبه. انطلقت الحكاية مع جواز السفر، الذي طالب بأن يتضمن صفته كوزير دولة، وتواصلت مع تلك الخرجات الإعلامية التي أطلقها من باريس، إلى درجة أن الصحافة الفرنسية ظلت تعتبره صندوق أسرار مملكة الحسن الثاني، ولا بد أن تفرغ هذا ما في جعبته من محتويات. ورغم الأضواء التي سلطت على محيطه، من أبنائه وأقاربه وبعض رفقاء دربه، ظل البصري مصرا على الحديث تارة عن محيط الملك، وتارة أخرى عن الزعماء السياسيين والنقابيين الذين صنعهم، دون أن ينسى تلك الحقائب المالية التي ظل يوزعها هنا وهناك لإسكات «الغاضبين». لكن آخر «ضريبة» سيؤديها البصري «المعارض» كانت بعد أن وافته المنية، وتقرر أن يحمل جثمانه إلى المغرب، ويدفن في الرباط وليس في مسقط رأسه سطات، وهو ما فهم منه البعض أن جنازته أريد لها أن تمر عادية وبدون ضجيج...
ناطق باسم القصر يتحول إلى صوت للمعارضة لم يجد حسن أوريد، زميل دراسة الملك محمد السادس، موقعا له ضمن المربع الذهبي، فاضطر إلى مغادرة جدران القصر الملكي.وعلى الرغم من أن القصر يعرف كفاءته حق المعرفة، باعتباره زميل فصل الملك محمد السادس في المدرسة المولوية، التي درس بها فؤاد عالي الهمة ومنير الشرايبي وغيرهما، فإنه اضطر إلى إعفائه من مهامه، بسبب حرب المواقع التي عادة ما يعرفها محيط القصور. كان حسن أوريد أول ناطق رسمي باسم القصر، وهي الصفة التي لم يكن الحسن الثاني مقتنعا بها وهو الذي كان بمقدوره أن يكون ملكا وناطقا رسميا باسم نفسه. غير أن مهمة أوريد لم يكتب لها النجاح، ليتحول صديق الملك إلى مهام أخرى ذات علاقة بتدبير الشأن العام، حيث انتقل إلى الإدارة الترابية حينما عينه الملك محمد السادس واليا على مكناس. سيخوض أوريد الكثير من المعارك، وسيتحول هذا المفكر والروائي من صانع للشخصيات والأحداث إلى رجل توافقات وصراعات مع مجالس منتخبة عنوانها هو البحث عن المصلحة الخاصة. لذلك سيعود أوريد إلى حضن القصر الذي سيختاره هذه المرة مؤرخا للمملكة، وهي مهمة تتماشى ومؤهلاته الفكرية وطموحه ليكون فاعلا في مملكة زميل الدراسة، لكن بعيدا عن السلطة التي يقال إنها تغتال كل شيء جميل. لكن أوريد سينتهي إلى المصير ذاته، بعد أن اضطر إلى ترك مهمة التأريخ، ليعود إلى حضن الجامعة، حيث التفكير والتنظير، ومن هناك سيجرب مهمة جديدة عليه وهي «المعارضة» وإطلاق تصريحات مفادها أن أوضاع المملكة ليست على أحسن ما يرام. في آخر خرجاته، لم يتردد حسن أوريد، وهو الناطق الرسمي السابق باسم القصر، في القول إن بوادر الالتفاف على مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني في 1995 بإيعاز من تقرير للبنك الدولي، بدأت عام 2001، مع تنامي دور «الملكية التنفيذية»، موضحا أن مؤشرات هذا الالتفاف بدأت مع تعيين ما سمي ب»الولاة الكبار»، وإحداث مراكز الاستثمار بدون إخبار الوزير الأول آنذاك الذي تلقى رسالة من الملك محمد السادس تحثه على إنشائها دون أن يكون على علم بقرار إنشائها. ولا يخفي أوريد اليوم أن مسار سيرورة الدمقرطة توقف سنة 2002، مع تعيين وزير أول تقنوقراطي، دون أن ينسى توجيه سهام النقد إلى موقف الاتحاد الاشتراكي آنذاك، والذي جاء على رأس الأحزاب الفائزة في الانتخابات دون أن يطالب بحقه في تدبير الشأن العام، ويكتفي بالتنبيه إلى أن الملك لم يحترم المنهجية الديمقراطية. اليوم يتحدث أوريد بصوت عال عن «موت السياسة»، ويقول إن انفجارات الدارالبيضاء سنة 2003 جاءت لتعزز المقاربة التقنوقراطية بمقاربة أمنية. لذا فإن كل الخطابات التي صيغت بعد ذلك حول تأهيل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، كانت تستهدف الضبط والتحكم في هذه المجالات التي أصبحت السلطة تتدخل فيها بقوة. وهو ما أدى إلى عزوف الناخبين عن المشاركة في انتخابات 2007. حيث تجاوز معدل العزوف الرقم الرسمي الذي أعلنت عنه وزارة الداخلية، والذي تمثل في نسبة مشاركة لم تتجاوز 37 في المائة. ويقول أوريد إن ما حصل في 2007، كان بمثابة «ناقوس خطر»، إلا أن السلطة قرأت تلك النتائج قراءة خاطئة، وأقدمت على تأسيس حزب جديد حظي بدعم الدولة. يتحدث حسن أوريد، وهو الذي جرب القرب من القصر وكان ناطقا باسمه، اليوم خطابا أقوى من كل الخطابات التي أطلقتها الأحزاب اليسارية على عهد الملك الراحل. إنه مع استماتة القادة السياسيين، وتضحية الجماهير من أجل تحقيق التغيير المنشود، ومع عودة شباب 20 فبراير إلى الساحة السياسية لكن برؤية وخطاب الشباب الحاضر وفق منطق «عند كل نهاية تكون بداية جديدة»، ذلك أن الجل يعتقد أن الحركة «ليست مجرد فقاعات كما وصفهم البعض. صحيح أنهم لم يكتبوا الدستور، لكنهم هم أملوه، ومن ضغطوا على السلطة كي تعيد النظر في الدستور القديم ودفعوها إلى تعديله»، على حد تعبير أوريد. بين أوريد الناطق الرسمي باسم القصر الملكي وأوريد «المعارض» تغيرت العديد من المعطيات، فبينما ظل يصر في أكثر من مناسبة على أنه يتحدث بصفته أستاذا جامعيا وباحثا في العلوم السياسية، بدا في أكثر من مرحلة أنه دخل في مرحلة «مراجعة للذات والصفات»، ليتحول من «لسان للقصر» إلى «لسان للمعارضة».