في كثير من الانتفاضات التي اندلعت على امتداد التراب الوطني في السنوات الأخيرة، كان «الماء والكهرباء» من كلمات السر الحاضرة بقوة في الساحة، بل إن احتجاجات تحولت إلى أعمال شغب وحرق وتخريب، كان سببها الرئيسي الفواتير الملتهبة التي تحرق بها الوكالات المستقلة وشركات التدبير المفوض جيوب المواطنين بين الفينة والأخرى. ما يمكن استنتاجه من هذا المعطى هو أن المغرب انتقل -دون وعي من سياسييه ربما- من مرحلة المطالب السياسية إلى مرحلة المطالبات الاجتماعية، وهو انتقال لا ينبغي التعامل معه كتطور طبيعي ضمن حركة المجتمع، لأنه يحمل في طياته مؤشرات في غاية الأهمية والخطورة. صحيح أن المغرب عرف في الماضي انتفاضات كان عنوانها الرئيسي هو «الخبز» وتطلب إخمادها اللجوء إلى العصا الغليظة، بل والرصاص الحي الذي حصد في بعض الحالات أرواحا لم يتم حصر عددها النهائي إلى حد الساعة رغم سنوات من مساعي المصالحة مع الماضي والتخفف من أثقاله. لكن في كل تلك الانتفاضات، كانت السياسة عنوانا حاضرا لا يمكن التعتيم عليه، حتى لو غطته مطالب اجتماعية واقتصادية، لأن حالة الانغلاق التي كان المغرب يعرفها، وتواصل معركة عض الأصابع بين النظام والمعارضة اليسارية على وجه التحديد، لم تترك فرصة للحوار سوى عبر تحريك الشارع، من جهة، والرد بقبضة حديدية، من جهة أخرى. لقد كان هناك أمل لدى شرائح واسعة من الشعب -بعد تدشين تجربة التناوب- في أن يؤدي إشراك المعارضة التقليدية في الحكم إلى «تحسن ما» في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للمواطن البسيط، خاصة وأن الفساد بلغ معدلات خيالية، مقابل خطاب سياسي معارض قائم أصلا على التبشير بالقضاء على هذا الفساد، فضلا عن الضغوط المتواصلة على القدرة الشرائية للمواطنين محدودي الدخل، وهم الأغلبية الساحقة. وقد كان من نتائج هذا «المنطق» أن ترسخت في الذاكرة الجمعية إمكانية حدوث تغيير جذري، بمجرد تغيير قواعد اللعبة التي كانت تجعل «الدولة» دائما في موقع قوة، في مواجهة شتات معارض لا يملك سوى المناوشة في الشارع عبر إذكاء الغضب الشعبي النابع أصلا من غياب أبسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. ولهذا، بقدر ما كانت الأماني المعلقة على تجربة التناوب كبيرة كانت خيبات الأمل أكبر، خاصة بعد فشل الاتحاد الاشتراكي في ترجمة شعاراته الكبيرة التي نجح من خلالها طوال عقود في تجنيد «القوات الشعبية» خلف طروحاته وبدائله. وقد اتضح هذا «الانقلاب» ليس في أسباب اندلاع الانتفاضات فقط، بل أيضا في أماكن اندلاعها. ففي العقود الماضية، كانت الحرائق الاجتماعية تشب في الدارالبيضاء وفاس وطنجة ومراكش، أي في المدن الكبرى التي تتوفر على «طبقة عاملة» كثيفة، وبالتالي على حضور نقابي وسياسي ملحوظ، رغم كل ما قد يقال عن الاستغلال السياسوي لهذه الشريحة من طرف ممثليها النقابيين على اعتبار أن النقابات عندنا ظلت دائما مخالب في خدمة الأحزاب. وبغض النظر عن الأسباب الظرفية التي كانت تؤدي إلى انتفاضة دموية بمعدل مرة في كل عشر سنوات تقريبا منذ الاستقلال، فإن العامل السياسي كان حاضرا دائما، حيث «المخزن» يمسك كل الخيوط في يده، ويرفض مجرد إشراك بقية مكونات الساحة السياسية ولو من خلال استقراء الرأي وطلب المشورة غير الملزمة، فضلا عن التزوير المنهجي للانتخابات، وخلق أحزاب بطريقة «آلية» وفبركة تحالفات حكومية وتوفير أغلبيات صورية داعمة لها، ناهيك عن القمع بكل أشكاله، والحصار الإعلامي والتضييق على الحريات بشكل عام. بالمقابل، فإن السمة الغالبة على انتفاضات العقد الأخير هي المطالب الاجتماعية الصرفة، ليس لأن الحقوق السياسية أصبحت مضمونة ومكتسبة، بل لأن المواطن فقد الأمل في السياسة والسياسيين؛ وما يؤكد هذا الطرح هو أن أغلبية الانتفاضات، التي عرفها المغرب في السنوات القليلة الماضية، اندلعت في مدن الهامش (صفرو، سيدي إفني، فيجيج، زاكورة، تازة،...) وليس في العواصم العمالية التقليدية. أضف إلى ذلك أن الأحزاب والنقابات نفسها فوجئت بهذا الحراك الذي لم تكن تتوقعه، فكان رد فعلها متذبذبا بين «التفهم» أو «الدعم بتحفظ» أو «التحذير من أيادٍ خفية تحرك الخيوط من خلف الستار» أو حتى «الدعم الصريح» من طرف هيئات ميكروسكوبية لا وجود لها أصلا، استغلت هذه الأحداث لاستقطاب الأضواء. والأكثر إثارة في الموضوع أن السكان «المنتفضين» اختاروا مباشرة من يمثلهم في الحوار مع «الدولة»، أي أنهم رفضوا أن ينوب عنهم المنتخبون المحليون والبرلمانيون رغم أن انتخابات العهد الجديد كانت أكثر نزاهة من استحقاقات العهد القديم، كما أن المواطنين «الغاضبين» لم يعودوا يقنعون بمجالسة العامل أو الوالي، بل أصبحوا يحددون لائحة الوزراء الذين عليهم الحضور ل«الحوار».. ولأن كل تحرك اجتماعي لا بد أن يكون له بعد أو تفسير سياسي، علينا أن نسجل هنا ملاحظة في غاية الأهمية، لم يتوقف عندها كثير من المشتغلين بالسياسة، سواء من الحزبيين أو الأكاديميين أو المحللين والباحثين. فزمن السياسة في المغرب لم ينته، رغم أن الانتفاضات الأخيرة كان عنوانها الوحيد هو المطالبة بدعم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، لأن المجتمع هنا أيضا نجح في «إنتاج» شيء غير متوقع، ألا وهو حركة 20 فبراير. ليقل من شاء ما شاء عن هذه الحركة، لكنها في النهاية تعتبر مولودا أكثر شرعية من كثير من الأحزاب التي ولدت في الفنادق المصنفة، والنوادي الضيقة، وتعجز إلى حد الساعة عن التنفس الطبيعي لهواء الشارع خارج الحاضنات. لقد رد المجتمع بطريقته على ما كان مهندسو المرحلة يطبخونه في المطابخ السرية، حيث نجحت حركة 20 فبراير، رغم محدوديتها وشكلها «البدائي»، في فرملة وإسقاط كثير من المشاريع التي كانت قد دخلت فعلا حيز التنفيذ، بل كانت ترجمتها على أرض الواقع ستعني «تجميد» حركة المجتمع، وإعلان «نهاية التاريخ» بعد «مغربة» نظرية فرانسيس فوكوياما وتطويعها لتتأقلم مع «الخصوصية» المعلومة. وقد جاءت الاستجابة العاجلة عبر تعديل الدستور، لتؤكد أن استقراء الواقع المحيط بالمغرب، لم يكن يسمح بمزيد من «المغامرات»، لأن أية قراءة خاطئة قد تؤدي إلى وضع تصعب السيطرة عليه. والخلاصة هنا، أن مهندسي المرحلة لم يكونوا وحدهم الخاسرين، بل خسرت الأحزاب، بكل ألوانها وأطيافها، البقية الباقية من ماء الوجه، بما أنها عجزت عن التنبؤ بحراك الشارع، وفشلت في التحكم فيه أو حتى المشاركة في جزء منه. وهذا ما يقودنا إلى نقطة البداية: صحيح أن المواطن المغربي لم يعد يهتم ب«السياسة»، ويعزف باطراد عن المشاركة في الانتخابات ومختلف الاستشارات، ولا يثق في السياسيين الذين أصبحوا في نظره كلهم من «أبناء عبد الواحد».. وصحيح أيضا أن هذا المواطن أصبح همه الوحيد هو تحصين قدرته الشرائية المتداعية والمهددة بفواتير الماء والكهرباء، وبضعف قطاع التعليم وغياب الخدمات الصحية... وما إلى ذلك من «الحقوق الاجتماعية».. وصحيح أن المواطنين لم يعودوا يهتمون بما قد تفرزه نتائج الاقتراع، ولا بما إذا كانت الانتخابات نزيهة أو مزورة، وقد يخرجون في مظاهرات للمطالبة بشق طريق أو بناء مستشفى أو توسيع مدرسة أو وضع حد للانفلات الأمني... وذلك دون تأطير حزبي أو تهييج نقابي.. لكن هذا لا يعني، في كل الأحوال، أن السياسة أصبحت خارج الاهتمام الجماعي، بل من المؤكد أن المجتمع قادر على إبداع أشكال غير مسبوقة، تتجاوز كل المظاهر التقليدية التي عرفها المغرب منذ استقلاله إلى اليوم. ولهذا أعتبر أن حركة 20 فبراير ما هي إلا «نموذج أولي» (Prototype) لما يمكن أن يفرزه الشارع السياسي في المستقبل من تشكيلات قد تكون أكثر تنظيما ووعيا واتساعا وجاذبية. وأظن أن مهندسي المرحلة من واجبهم استغلال اللحظة الحالية -التي قد تكون مجرد استراحة بين شوطين- للتفكير الجدي في الانتقال الفعلي إلى مرحلة دولة المؤسسات القائمة على ربط المسؤولية بالمحاسبة، بدل الانشغال بتحضير «العفاريت».. فأكبر خطإ يمكن ارتكابه هو الاستكانة إلى الهدوء الظاهري... فقد قال أجدادنا قبل قرون «دوز على الواد الهدار ولا دوز على الواد السكوتي»...