في الوقت الذي ينشغل فيه حملة الأقلام بمواضيع سجاليه هامشية، وتمتلئ فيه صفحات كثير من المنابر الورقية والجرائد الإلكترونية، بتناولات أقل ما يمكن ان توصف به هو أنها تافهة، تمر كثير من الأشياء والمعطيات دون أن يتنبه إليها أحد، مع أن مهمة حامل الفكر أو القلم هي الرصد وقراءة ما بين السطور وما خلفها، لا تحليل الواقع بشكل سطحي ولا الجري وراء "الإثارة" الرخصية وقتل الوقت في النقاشات العقيمة. فمن غير المقبول أن نسجل انغماسا تاما للنخبة المثقفة في تحليلات سفسطائية، أو حروب كلامية بلا هدف أو غاية، في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون دور هذه الفئة هو تنوير الرأي العام، وتوضيح الصورة أمامه. وقد مثلت الأحداث التي عرفها المغرب ضمن ما يسمى في الأدبيات الإعلامية :"الربيع العربي"، وتحديدا منذ ولادة حركة 20 فبراير ما تلا ذلك من تطورات، مادة دسمة كان من المفروض أن تحرك حاسة النقد والتحليل عند من يصنفون أنفسهم ضمن الأقلية المفكرة والمستنيرة، لكن الغريب أن كثيرين انخرطوا في السفسطة، وغلبوا الهوى السياسي أو الموقع الإيديولوجي على التعاطي المنطقي، والتحليل العلمي لما عرفته هذه اللحظة التاريخية الفارقة من أحداث. إحدى أهم الملاحظات التي لم يتوقف عندها كثير من المشتغلين ب"علم الكلام السياسي" في مغرب اليوم، أن سنة 2011 لم تكن سنة عادية في تاريخ "المخزن" العريق، ذلك أنه على عكس ما يروج له البعض من أن هذا الأخير نجح في امتصاص غضب الشارع وخرج من المواجهة بأقل الخسائر، بل هناك من يروج اليوم لفكرة مفادها أن المخزن بدأ في التراجع إلى مواقعه القديمة، وأن ما قدمه من تنازلات في دستور فاتح يوليوز، سرعان ما التف عليه عند الشروع في التنزيل على أرض الواقع السياسي...على عكس هذا، علينا ان نسجل أن "قبضة المخزن" ارتخت كثيراً، والأمر لا يعود إلى قوة استثنائية اكتسبتها حركة الشارع، أو متغيرات فرضها المحيط العربي المشتعل، بل هي تطور منطقي لحالة التوهان التي عرفها المغرب طيلة ما سمي "مرحلة انتقالية". ففي الوقت الذي كان البعض يراهن على أن تفضي أجواء الانفتاح التي عرفها المغرب بداية الألفية الثالثة إلى وضع قطار الديموقراطية على سكته الصحيحة، والشروع في بناء دولة المؤسسات فعلا لا قولا فقط، سرعان ما عادت العجلة لتدور في الاتجاهات القديمة، دون أن تراعي المتغيرات الداخلية والخارجية، بل بلغت الجرأة ببعض مهندسي المرحلة حد التفكير في إعادة إنتاج الماضي في لبوس جديد، مع إدخال تعديلات طفيفة على أدوار اللاعبين الأساسيين في الساحة. فقد تبادل اليسار "المعتدل أو الديموقراطي" مع اليمين التقليدي، الأدوار في الحكومة والمعارضة في إطار ما سمي "التناوب التوافقي"، بينما أجبر الإسلاميون على لعب دور المعارضات من "المعتدلة" إلى "الراديكالية" التي عرفها مغرب السبعينيات والستينيات وكانت تعتبر نفسها معارضة للنظام وليست معارضة من داخل النظام. وقد صدق البعض فعلا أن المغرب وصل إلى "نهاية التاريخ" بما أن المخزن وضع يده مجددا على جميع مفاتيح اللعبة، ولم يعد هناك مجال للمشاغبة والتشويش، خاصة بعد انخراط الاتحاد الاشتراكي وجزء كبير من متقاعدي اليسار الجذري في تزكية الوضع القائم، حتى أن بعضهم اضطر للاستعانة بقاموس دار لبريهي زمن "العام زين"، ل"تشليل" فمه من ضلالات الخطاب المعارض السابق الذي اعتادته الألسن وأدمنت عليه الأقلام. كل هذا يبقى منطقيا ما دام أن المجتمع المغربي لم ينتج قوة شعبية حقيقية تدفع في اتجاه التغيير الفعلي البعيد عن الشعارات الجوفاء والتضليل الإعلامي. فنحن في النهاية أمام بلد أصبح فيه التخلف طقسا شبه ديني، وأصبحت فيه السياسة خارج اهتمام المواطن، بل وحكرا على عينة أساءت إلى صورة المغرب بوجه عام، حتى أن كثيراً من الحالمين وضعوا حدا مبكراً لطموحاتهم وتطلعاتهم وأحلامهم السياسية، خوفاً على أنفسهم من "الشبهات" التي أصبح الاشتغال بالسياسة يثيرها. وتشاء الصدف التاريخية الماكرة، أن ينكسر هذا النسق الروتيني ليس بسبب ثورة داخلية أو انتفاضة شعبية، بل بسبب هزة حدثت في سيدي بوزيدالتونسية ومازالت تداعياتها مستمرة إلى الآن. لا يهم هنا تحديد من ربح ومن خسر في المغرب بعد موجة الربيع العربي، وهل كانت حركة 20 فبراير أقصى ما يمكن أن يفرزه المجتمع المغربي بعد أكثر من نصف قرن من "التعليب السياسي"، وهل كان دستور فاتح يوليوز مجرد مسكن مرحلي لتفادي خسائر أكبر في حالة المغامرة بالإبخار في بحر هائج وأجواء عاصفة؟ فكل هذه الأسئلة مهمة جدا وربما تتطلب عقد ندوات ومنتديات لمناقشة تفاصيلها، ومحاولة الوقوف على أجوبة مناسبة لها. لكن الأهم بالنسبة لي في هذه الزاوية المتواضعة، هو التركيز على ملاحظة "اهتزاز يد المخزن" في السنوات القليلة الماضية، حيث لم يعد خافيا أنه فقد قدرته على المبادرة، وبدل أن يستبق الأحداث، أصبحت خطواته عبارة عن ردود أفعال متأخرة ومرتجلة، وأحيانا تؤدي إلى عكس المتوقع منها. لنأخذ مثلا، تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة. فلا يشك أحد في أن الهدف من هذه الخطوة كان هو قطع الطريق على الإسلاميين، وهذا ما تم إعلانه صراحة ضمن "كليشيه" معين يفيد أن الاحزاب التقليدية، انقطعت صلتها بالشارع والواقع السياسي، وبالتالي فقد أصبحت عبارة عن دكاكين تمارس نشاطها بشكل موسمي في إطار رهان تام على المال الانتخابي، حتى أن عبد الرحمان اليوسفي نفسه أعلن صراحة بأن المهم هو المقاعد، ولا يهم إن كان الفائز بها مناضل أصيل، أم سمسار انتخابات دخيل. ولهذا ربما قررت "الإدارة" التدخل بخلق حزب جديد زودته بكل المنشطات السياسية ومنحته الرتبة الأولى في أول استحقاقات يخوضها بعد التأسيس، بل سخرت له إعلامها العمومي والمستقل/المأجور، وصارت عينه التي يرى بها وأذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بها. وإذا كان الأمر لم يتطلب سوى سنوات معدودة لتحترق هذه الطبخة، ودون التوقف مطولا عند مدى تأثير انهيار أنظمة الحزب الوحيد في تونس ومصر وليبيا على المشاريع المستقبلية لحزب الدولة، فإن هناك ملاحظات لا ينبغي إغفالها: أولاها، أن الأحزاب التي أسستها الإدارة حتى قبل التنصيص على التعددية كخيار دستوري لا رجعة فيه، مازالت متواجدة في الساحة، بل إنها نجحت في اقتطاع حصصها من المقاعد دون حاجة إلى "منشطات" أو "دوباج" من الإدارة. وأكثر من ذلك، فإن هذه الأحزاب تحررت من عبء التبعية الذي كان يثقل كاهلها، وتطهرت من شبهة "الإدارية" التي رافقتها منذ ولادتها... أليس غريبا أن الأحزاب التي اخترعها أوفقير والبصري وكديرة منذ عقود مازالت حاضرة بشكل طبيعي في الساحة، بينما الحزب المدلل الذي ولد وفي فمه أكثر من ملعقة ذهبية على يد مهندسي المرحلة، سرعان ما احتاج إلى التنفس الصناعي، بل اضطر في لحظة من اللحظات إلى الاختباء خلف غابة من الأحزاب الإدارية الأكبر سنا تحت مسمى جي 8 الشهير؟ ثاني الملاحظات، أن الحزب "الأغلبي" الذي لم يخف أصحاب الكلمة فيه منذ البداية أن هدفهم هو "قطع الطريق" أمام الإسلاميين بصفتهم القوة السياسية الوحيدة المنظمة والموجودة في الشارع والتي يصعب التحكم في كثير من مكوناتها، أصبح وجوده يطرح أكثر من علامة استفهام خاصة بعد ما أفرزته انتخابات 25 نوفمبر. فحصول حزبي العدالة والتنمية والاستقلال (وهما حزبان ذوا خلفية واضحة)، على حوالي 180 مقعداً يؤشر بوضوح إلى توجهات الكتلة الناخبة، ويكشف عن فشل الطرف الآخر في تسويق وجهة نظره رغم الإمكانيات الهائلة التي وضعت تحت تصرفه. الملاحظة الثالثة تتمثل في أن سوء التدبير جر حزب التجمع الوطني للأحرار إلى الغرق، وهو الذي كان بمثابة "رمانة الميزان"، في الساحة السياسية، أي ضابط الإيقاع الذي يعتمد عليه المخزن لكبح أي جموح، كما حدث خلال التناوب عندما فكر الاتحاديون في تعديل الدستور اعتمادا على ثلثي أعضاء مجلس النواب فذكرهم السيد عصمان بأن ذلك لم يكن جزءا من "الصفقة"، بينما اليوم نرى أن الحزب دخل دوامة من المشاكل والفضائح التي لن تنتهي بسلام إذا قرر حزب العدالة والتنمية رد الصاع صاعين للسيد مزوار الذي قبل في لحظة معينة لعب دور "المخلب" نيابة عن "البام".. الملاحظة الرابعة، تتمثل في الصراع الداخلي الذي يعرفه حزب الأصالة والمعاصرة، والذي حمل تقرير لجنة بن شماس الخاصة بمكتب التسويق والتصدير أحد مظاهره، ذلك أن الانتقادات التي تم توجيهها للشيخ بيد الله ضمن هذا التقرير كشفت أن كل الأسلحة جائزة في لعبة عض الأصابع بين الفصائل التي اجتمعت تحت عباءة حزب كان يفترض ألا يكون مصيره كما نرى. إن هذه الملاحظات تخلص جميعها، إلى أن "المخزن" فقد الكثير من قدرته على الضبط والتحكم وتوجيه الأحداث، ولهذا ليس غريبا أن الحزب الذي راهن عليه لفرض الأمر الواقع تعثر في بداية المشوار، وهذا هو المخيف في الموضوع. فأن تفشل بعض مخططات المخزن، فهذا أمر متوقع في إطار التطور المنطقي للأشياء، لكن أن ترتخي قبضته رغما عنه ودون إعداد الأرضية لهذا الانسحاب، فهذا ما يطرح كثيرا من الاسئلة الحائرة برسم المستقبل. فبما أن سنوات "الانتقال الديموقراطي" - ورغم أنها طالت أكثر من اللازم- لم تنجح في العبور إلى زمن دولة المؤسسات، وبما أن الرهان على "الحزب الأغلبي" فشل مبكرا جداً، فالخيار الوحيد المطروح الآن هو :"الفوضى" في غياب نخبة واعية قادرة على ملء الفراغ والعبور الآمن بالبلد نحو الديموقراطية الحقيقية، وفي ظل توقع الأسوإ خاصة وأن رياح الربيع العربي ربما لم تهب بعد على المغرب... وتلك هي المشكلة.. [email protected]