يمثل «الربيع العربي» إحدى نقاط التحول في مسيرة الحركات الإسلامية؛ فقد فتح الباب على مصراعيه أمام جميع القوى والتيارات الإسلامية كي تصبح فاعلة ومؤثرة في الحياة العامة بعد عقود من المنع والقمع. وقد حصدت هذه القوى الكثير من مكاسب «الربيع العربي» على حساب القوى والتيارات المدنية التي تفتقد البنية التنظيمية والتأثير الجماهيري والشعبي. بيد أن أبرز ما نتج عن الربيع العربي هو ظهور أفراد وجماعات وكيانات إسلامية جديدة مؤثرة، ولكنها لا تنتمي إلى الأشكال التقليدية للحركة الإسلامية، سواء في طبعتها «الإخوانية» أو السلفية أو الجهادية. هذه الكيانات تعبر عن طور جديد في الظاهرة الإسلامية التي لا تزال تبهرنا بكل ما هو جديد وغريب في الوقت نفسه. وما أقصده هنا أننا إزاء خليط أو هجين إسلامي جديد تمثله مجموعات وتكتلات وشبكات وشخصيات إسلامية، ظهرت في أكثر من بلد عربي خلال العامين الأخيرين وتسعى إلى أن تلعب دورا ملموسا، سواء في العمل السياسي أو في محاولة إعادة صوغ المجال العام كي يتوافق مع إيديولوجيتها وأفكارها. هذه الكيانات الإسلامية الجديدة تتميز بمقدار من اللامركزية، فهي إضافة إلى كونها لا تتمتع ببنية تنظيمية أو هياكل بنيوية مؤطرة فإنها تنشط في شكل مواسمي وفق حركة الأحداث وتعتمد على الميديا الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي من أجل إيصال صوتها وتبليغ رسالتها. وفي كثير من الأحيان، فإن هذه الكيانات تتقاطع مع بقية التيارات الإسلامية، سواء فكريا وإيديولوجيا أو سياسيا، ولكن دون رابط تنظيمي أو مؤسسي. هذه الحركات «الهجينة» لم تخرج من رحم الإسلاموية التقليدية وإنما هي «بنت» التحولات التي شهدها المجال الديني في العالم العربي، خصوصا في مصر طيلة العقد الماضي، وهي نتاج لعملية «السلفنة» و«الحفظنة» (من المحافظة) التي حدثت للمجال العام وزادت في شكل واضح خلال الأعوام الخمسة السابقة للربيع العربي الذي ما إن جاء حتى خرجت هذه الكيانات إلى النور وباتت تنشط في شكل واضح وتحاول التأثير في القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية؛ فالنتيجة غير المباشرة لعملية «السلفنة» (والتي جاءت في سياق الصراع الشديد بين الأنظمة السابقة والتيارات الإسلامية التقليدية كالصراع بين مبارك و«الإخوان») هي نشوء جيل إسلامي جديد أو بالأحرى متدين دون الارتباط بتنظيم أو حركة إسلامية معينة. بكلمات أخرى، ساهم الطلب المتزايد على الدين في المجال العام طيلة العقد الماضي في إيجاد رغبة متزايدة لدى قطاع واسع من الشباب العربي في التدين الفرداني، ولكن دون أن يتم ذلك من خلال الانضمام أو الانتماء إلى حركة أو تنظيم إسلامي مسيّس، وذلك إما خوفا من الملاحقة الأمنية أو رغبة في الاستقلالية الحركية. ولعل أبرز من يمثلون هذه الظاهرة ما بات يُعرف في مصر بحركة «حازمون»، وهي كتلة إسلامية متحلقة حول الداعية الإسلامي البارز الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية. وقد برزت هذه الحركة خلال الشهور الأولى للثورة المصرية، ولكنها اكتسبت زخما وحضورا ملفتا في المجال العام خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتحديدا إبان أزمة الإعلان الدستوري الشهيرة وأثناء عملية التصويت على الدستور المصري الجديد؛ فقد قامت الحركة بمحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي وجرى الحديث عن تورط بعض أعضائها في الهجوم على مقر حزب «الوفد»، فضلا عن محاصرتهم بعض أقسام الشرطة المصرية. تستند حركة «حازمون» إلى هجين أو خليط إيديولوجي وسياسي؛ فهي، من جهة، تتبنى خطابا ثوريا يتقاطع مع خطاب الكتل الثورية الشبابية الرافض لكل ما له صلة بالنظام القديم، وينادي بالتطهير الشامل لمؤسسات الدولة؛ ومن جهة أخرى، لديها أجندة ورؤية سلفية واضحة تضع مسألة تطبيق الشريعة وإقامة دولة إسلامية على رأس أولوياتها؛ وهي، من جهة ثالثة، لا ترى غضاضة في اللجوء إلى القوة، سواء للردع أو من أجل تحقيق مطالبها. ويغلب على تكوين هذه الحركة العنصر الشبابي، حيث تتراوح أعمار أعضائها ما بين 20 و30 عاما. وقد كانوا العصب الرئيس في الحملة الرئاسية لأبو إسماعيل. هذه الحركة تقف على تخوم جماعة «الإخوان المسلمين»، من جهة، وتخوم التيار السلفي، من جهة أخرى؛ فمؤسسها الشيخ أبو إسماعيل تربى وترعرع داخل جماعة «الإخوان» رغم نفيه المتكرر لذلك؛ ولكنه، في حد ذاته، يمثل النزوع السلفي ل«الإخوان: طيلة العقد الماضي والذي كان قد رصده الصديق الراحل الباحث حسام تمام في أطروحته حول «تسلّف الإخوان». ولعل ما يلفت النظر في حركة «حازمون» أنها تمثل إحدى محطات التحول في الظاهرة الإسلامية، يمكن أن نطلق عليها «السلفية الثورية»، وهي ظاهرة رصدناها من قبل على هذه الصفحة. وهي ظاهرة في حالة ديمومة وتطور باستمرار، ولا ندري أين ستتوقف وتأخذ شكلها النهائي، وما إذا كانت ستستطيع الانتقال من حال السيولة إلى المأسسة والتنظيم، وما ستكون تداعيات هذا التحول، خصوصا في ظل الأخبار المتواترة حول سعي الشيخ أبو إسماعيل إلى إنشاء حزب سياسي وتأطير الحركة ضمن إطار رسمي ومؤسسي. هناك أيضا «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح»، وهي كيان غير رسمي يتكون من خليط من الرموز السلفية و«الإخوانية» والجهادية السابقة، وهي هيئة متقاطعة في شكل واضح مع جماعة «الإخوان، من جهة، والدعوة السلفية والجهاديين التائبين، من جهة أخرى. ورغم وجود هيكل شبه تنظيمي لهذه الهيئة فإنها لا تتمتع ببنية هيكلية ومؤسسية، خاصة خارج العاصمة المصرية. وهي أقرب ما تكون إلى كيان استشاري وتنسيقي أكثر منه إلى كيان سياسي أو حركي. بيد أن ثمة أخطارا من أن تتحول هذه الهيئة مستقبلا إلى مؤسسة دينية تمارس مقدارا من الرقابة على الحياة العامة والحريات الفردية والقضايا الاجتماعية والثقافية تحت شعار «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». يُقابل هذه الكيانات الجديدة ما بات يعرف بشبكات «أنصار الشريعة» المنتشرة في العالم العربي والتي تورطت في أعمال عنف في ليبيا وتونس واليمن، وتبدو أكثر نشاطا وسيطرة في الجزء الشمالي من مالي، وهي الجماعات التي يراها البعض امتدادا لتنظيم «القاعدة» (راجع التحقيق المتميز الذي كتبه الزميلان محمد أبو رمان وحسن أبو هنية على صفحات «الحياة» قبل أسبوع). ولعل ما يلفت النظر في نمو ظاهرة «أنصار الشريعة» أمران: أولهما قدرتها على تحويل مسألة الشريعة إلى مطلب «شعبوي» بعيدا من التعقيدات الفقهية والثيولوجية للمسألة، وذلك من أجل دغدغة مشاعر كثير من المتدينين في العالم العربي، ومن ثم تعبئتهم واستخدامهم في الصراع مع الأنظمة الجديدة في مصر وليبيا وتونس واليمن؛ وثانيهما قدرة المنتمين إلى هذه الشبكات على الاستفادة من الانفتاح الشديد في المجال العام بعد الثورات العربية لمحاولة تسليط الأضواء على أفكارهم وإيديولوجيتهم من خلال الوسائط الإعلامية المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي، شأنهم في ذلك شأن بقية الفاعلين السياسيين، بحيث بات في إمكانهم التواصل مع فئات خارج نطاقهم الإيديولوجي والعقائدي بسهولة. السؤال المهم الآن يتعلق بمدى تأثير هذه الجماعات والكيانات الإسلامية الجديدة، ليس فقط في مستقبل التحول الديمقراطي في المنطقة وإنما أيضا في الأنظمة «الإسلامية» الموجودة الآن في الحكم. بكلمات أخرى، إلى أي مدى يمكن أن تتناغم هذه الجماعات الجديدة أو تتصارع مع الإسلاميين التقليديين ك«الإخوان» والأحزاب السلفية والجهادية؟ هنا يمكن القول إن العلاقة بين الطرفين تمر حتى الآن بمقدار من التناغم والتوافق، خصوصا في ظل المعركة الشرسة التي تخوضها الأنظمة الجديدة مع بقايا الأنظمة القديمة، مما يدفع كلا الطرفين إلى التعاون والتعاضد. بيد أن من غير المستبعد على الإطلاق أن تشهد هذه العلاقة مقدارا من التأزم وربما الصراع والصدام في المستقبل القريب لأسباب كثيرة ليس أقلها الصراع على السلطة بمختلف أشكاله ومحاولة كليهما احتكار الحديث باسم «المشروع الإسلامي». خليل العناني