أكتب إليكم رسالتي هاته وأنا أستعد لكي أُحال على التقاعد، بعد أن سكنت بينكم لمدة 365 يوما فهمت فيها أشياء كثيرة، وربما لم أفهم أي شيء على الإطلاق. قبل عام بالتمام والكمال، حللت بينكم واحتفلتم بي كأني عروس في ليلة دُخلتها، وزينتم من أجلي الأشجار وأشعلتم الأضواء وشرب كثير منكم الويسكي والفودْكا الراقية، وآخرون شربوا نبيذا مغشوشا مثل مياه المجاري وانتهوا في أقسام المستعجلات، فقلت في نفسي إنكم من الأتباع المخلصين للسيد المسيح، وإنكم شعب يقاتل من أجل أن يكون شعبا قويا جبارا، مثل الروس والأمريكان. مع توالي الأيام، لاحظت أنكم تستعجلون رحيلي وترددون باستمرار عبارة «الله يْعدّي هادْ ليّاماتْ عْلى خير»، ثم أدركت أنكم تستعجلون طرد الزمن كله لأنه قهركم وجعلكم تحسون بوطأته. أنتم تعرفون، أحبائي المغاربة، أنني لم أعش بينكم فقط، بل عشت بين جميع شعوب الأرض، لكني رأيت فيكم بالخصوص قلقا دفينا وخوفا غريبا من الحاضر والمستقبل، ثم رأيت كيف تجمعون القرش فوق القرش خوفا من عوادي الزمن، فأشفقت لحال شعب يكاد ينسى أن آخر هذه الدنيا فناء، ومثلما انتهيت الآن كأنني لم أكن، فكذلك ستنتهون أنتم وكأن أعماركم كلها سنة أو أقل. خلال مقامي بينكم، رأيت كيف أن أغنياءكم يمضون عطلة الصيف في أماكن حالمة، بين ماربيا وتاهيتي وباريس ولندن وجزر المالديف، وآخرون يقضون الصيف في مصارعة العطش والبعوض. رأيت كيف يملأ أغنياؤكم مسابحهم الشاسعة بمياه كأنها الفضة النقية، كما رأيت بالمقابل أطفالا يعطشون فيتوجهون إلى الأودية الوسخة بحثا عن ماء يروون به ظمأهم، لذا لم أستغرب موت الأطفال بردا في أقاصي الجبال، وظهور أمراض «المينانجيت» والكوليرا، وعودة ظاهرة القمل والحَكّة. الحقيقة أنني شعرت بالخجل، لأن اسمى 2012، بينما هذه الأمراض ومظاهر التخلف تنتمي إلى 1912 أو 1812 وما قبلها.. الحقيقة أنني لم «أتبهدل» في أي بلاد في العالم كما «تبهْدلت» عندكم. لقد عاينت خلال هذه الفترة القصيرة التي قضيتها بين ظهرانيكم كيف يستمر كباركم في تهريب ثرواتكم إلى الخارج بينما أنتم لا تبالون. يقصفونكم كل يوم بالسرقة والنهب وأنتم تقولون «الحمد لله لأننا أفضل من باقي الشعوب»؛ أخبروني أيها الأشاوس، ما هي امتيازاتكم عن باقي الأمم؟ أحبائي المغاربة، سكنت بينكم لوهلة ورأيت من الفساد ما لم أره في بلدان كثيرة مجتمعة، رأيت مسؤوليكم ينهبونكم ويخرجون عيونهم فيكم حتى يخيفوكم، بينما أنتم ترددون عبارة «من نعرفه خير ممن لا نعرفه»، فقلت في نفسي: لله درّك يا شعبا أرطب من قطعة جبن تحت وميض سكين. سياستكم وأحزابكم لم أفهمها على الإطلاق.. عندكم زعماء أحزاب فاسدون. لقد أخذوا الكثير من الامتيازات، نقدا وعينا، ثم استمروا في ادعاء أنهم يدافعون عنكم.. هل تعرفونهم؟ أكيد أنكم تعرفونهم، لكنكم تتظاهرون بالعكس لأنكم تحبون جمع أزبالكم تحت الحصير. من حسن حظي، وربما من سوء حظي، أنني عشت الأيام الأولى لتشكيل حكومتكم، ورأيت من ألعاب الكواليس ما لم أره في أي مكان آخر، فسألت الله اللطف لشعب له حكومات كثيرة، واحدة تحت الشمس، وأخرى في الظل، وثالثة في الظلام، ورابعة في الغار، وخامسة هناك، وسادسة هنالك.. خلال هذه الأيام بينكم، رأيت تناقضا غريبا في مواقف وسلوكات كثير منكم. رأيت أشخاصا غاضبين يشتمون الفاسدين بالاسم والصورة، لكن بمجرد أن يلتقوا فاسدا يبادرون إلى الوقوف ويهرولون نحوه ويرحبون به قائلين: «تبارْك الله عْلى سيدي الحاج.. والله العظيم توحّشْناك». صدقوني إخوتي، إنني، ومن بين كل شعوب الأرض، رأيت أنكم الوحيدون الذين تمتلكون ثلاثة رؤوس؛ فالمغربي يقول: واحْد الرّاس كيْقول لي اطْلع وواحد الرّاس كيْقول لي اهْبط»، وأحيانا يظهر رأس ثالث يقول له: ما تطلع ما تهبط. وأحمد الله على أنني بقيت معكم سنة واحدة فقط لأني لو أطلت المقام بينكم لظهر لي أيضا رأس ثان وثالث. أعزائي المغاربة، أغادركم الآن وأترك لكم استقبال سنة 2013 بما يليق بها من حشيش وقرقوبي وفودْكا حقيقية ونبيد مغشوش. تزاحموا تراحموا وقفوا في الطوابير الطويلة، مرة أخرى، من أجل شراء «طرْطة» راسْ العام، ثم اركبوا الطوبيسات المهترئة واحتفلوا بالسنة الجديدة تحت قطرة الشتاء أو روائح المجاري؛ أما أنا، وقبل أن أتقاعد رسميا، فسأمر على ضريح بُويا عْمر لكي أُربط بالسلاسل، لعلني أُشفى من الخبل الذي أصابني بسبب المجهود الكبير الذي بذلته من أجل فهمكم... والله ياخُذْ فيكم الحق.