بعد أن رأينا كيف تحول «الربيع العربي» إلى «خريف إسلامي» بمباركة من واشنطن، التي باتت تفضل عدوا واضحا يملك وجها وعاصمة بدل محاربة الأشباح، نتوقف اليوم مع حكاية «الربيع» و«الخريف» في بلادنا، التي بدأت بتظاهرات ال20 فبراير 2011 وانتهت بحكومة عبد الإله بنكيران... قبل ذلك، لا يمكن الحديث عن علاقة الولاياتالمتحدة ب«الربيع العربي» دون استحضار الحلفاء الخليجيين الذين شكلوا ما يشبه «الراعي الرسمي» لهذه «الانتفاضات»، مع تنويه خاص جدا بقطر التي تستحق عن جدارة لقب «كوكاكولا الربيع العربي»... وبعيدا عن «السبونسورينغ»، يمكن أن نفهم انحياز ديمقراطية عريقة مثل الولاياتالمتحدة إلى الشارع العربي، لكن مساندة الخليجيين لهذه الانتفاضات تطرح أكثر من سؤال، لأن «فاقد الشيء لا يعطيه» أو بالعربية الفصحى: «شاط الخير على زعير»... كيف يمكن لدول تنتهك أبسط حقوق الإنسان أن تقف في طليعة المدافعين عن الحرية والديمقراطية؟ أي ديمقراطية يمكن أن ترعاها دولة حكمت على شاعر بالمؤبد لأنه كتب قصيدة «مسيئة إلى الذات الأميرية»؟ وأي حرية تأتي من بلد يمنع النساء من سياقة السيارات؟ واضح أن «الربيع» إياه لم يأت بالورود فحسب، بل رمانا بوابل من الأشواك ! في بدايات 2011، شكك كثيرون في إمكانية وصول رياح التغيير إلى المغرب، وشنت الصحف «المخزنية» هجوما لاذعا ضد من تجرأ على هدم «الأسطورة» التي كانت تسمى «الاستثناء المغربي»، وكان للأمير مولاي هشام والصحافي بوبكر الجامعي نصيب الأسد من الشتم والتشهير، لأنهما أدليا بتصريحات إلى مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» تتوقع وصول الحراك إلى الشارع المغربي. أما الشباب الذين أصدروا نداء «20 فبراير» فقد اتهموا بالشذوذ والإدمان والعمالة للبوليساريو وغيرها من التهم الجاهزة في المكاتب المعلومة، لكن الزلزال كان أكبر من توقعاتهم. هكذا دلف «الربيع العربي» إلى المغرب رسميا في العشرين من فبراير 2011، حين خرج مئات الآلاف في كل أنحاء البلاد يطالبون بالتغيير، وولدت حركة 20 فبراير التي تتكون من شباب لم يسبق لهم أن مارسوا السياسية وفصائل من المعارضة الجذرية، بدءا من «النهج» وصولا إلى «العدل والإحسان»، أقوى مكونات الحركة على مستوى الوزن والتنظيم. وبخلاف الصحف المأجورة، التقط الملك الرسالة وعدل الدستور وحل البرلمان وأقال الحكومة، وأجريت الانتخابات وفاز «العدالة والتنمية» بغالبية المقاعد، وفي ظرف قياسي صار عبد الإله بنكيران أول رئيس للحكومة في ظل دستور يمنحه صلاحيات غير مسبوقة... ثم ماذا بعد؟ ضعف زخم الاحتجاجات، وفجأة انسحبت «العدل والإحسان» وماتت 20 فبراير سريريا، ليبدأ موسم الانتقام، حيث دشنت السلطات حملة اعتقالات في صفوف مناضلي الحركة، ووزعتهم على السجون بتهم ملفقة... هناك اليوم حقيقة لا بد أن نسلم بها: لقد تفادى المغرب أسوأ السيناريوهات بفضل وجود حزب إسلامي، يملك مصداقية في الشارع ويدافع باستماتة عن النظام والشرعية. بنكيران و«العدالة والتنمية» لعبا «دور الفيزيبل»، في المنعطف الخطير الذي عشناه في 2011، تماما كما صنع عبد الرحمان اليوسفي في نهاية حكم الحسن الثاني. وكما بدد «الاتحاد الاشتراكي» أربعين سنة من المصداقية في أربع سنوات من الحكم، هاهو «العدالة والتنمية» يشرب من نفس الكأس. المشكلة أن العالم مازال يهتز، والطبقات التكتونية التي تحركت في المنطقة لم تهدأ بعد، كما تدل على ذلك الانتفاضات المتواصلة في البحرين والكويت والأردن والسعودية... وسيتعين على من يصنعون الشمس والمطر في المملكة السعيدة أن يعثروا في المستقبل القريب على قرابين إضافية لتهدئة الشارع، لا بد من «فيزيبلات» جديدة كي لا يحترق الجهاز بأكمله. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن واشنطن يهمها أن يشارك الإسلاميون بمختلف تلاوينهم في السلطة، يمكننا أن نتوقع من الآن مشاركة «السلفيين» و»العدل والإحسان» في الحكم خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن كيف وبأي ثمن؟ قبل يومين سمعنا عن اختفاء سلفيين خرجوا حديثا من السجن، مع أنباء عن هروب آخرين وتفكيك خلية ترسل جهاديين إلى القتال في شمال مالي... إذا أضفنا إلى ذلك أن «الشيوخ»، الذين لم يتوقفوا عن التعبئة والاستقطاب منذ أن غادروا السجن، باتوا يفكرون جديا في تأسيس حزب سياسي، فإن مشاركة «السفليين» في الشأن العام تصبح مسألة وقت ليس إلا، خصوصا أن هناك تجارب مجاورة في مصر وتونس وليبيا. أما «العدل والإحسان»، التي قضت عقودا وهي تبني آلة تنظيمية محكمة، فلا شك أنها تفكر جديا في المشاركة السياسية بعد وفاة مرشدها الشيخ عبد السلام ياسين، ولن يتم ذلك إلا عبر خيارين لا ثالث لهما: الإطاحة بالمخزن عن طريق الشارع أو انتزاع مزيد من التنازلات السياسية منه لقيادة حكومة أكثر راديكالية من حكومة «العدالة والتنمية»... في كل الأحوال، «الخريف الإسلامي» فصل طويل، واهم من يظن أنه سينتهي بعد خمس سنوات!