تتبع الكاتب والصحافي الفرنسي توماس ديلتامب في كتابه «الإسلام المتخيل» صورة الإسلام في وسائل الإعلام الفرنسية طيلة ثلاثين عاما، رصد خلالها أهم المحطات التي طبعت صناعة وتطور هذه الصورة في وسائل الإعلام الفرنسية، المرئية والمسموعة والمكتوبة، ليخلص إلى نتيجة يسجلها منذ المقدمة تقول إن الصورة التي رسخت في العقل الفرنسي عن الإسلام والمسلمين ليست هي الصورة الحقيقية، وإنما الصورة التي أراد الإعلام أن يرسخها في أذهان الجمهور الفرنسي. في مقدمة كتابه «الإسلام المتخيل» في المقدمة التي حملت عنوان «الجمهورية والتلفاز و(مسلموهما)» يتساءل المؤلف: عن أي إسلام نتحدث؟ ويبين أن صورة الإسلام في فرنسا لم تكن معروفة جيدا قبل نشأة التلفاز، لكن هذا الأخير لم يصبح جزءاً من الحياة العائلية في المجتمع الفرنسي إلاّ في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ففي العام 1960 كان هناك 13 بالمائة فقط من الفرنسيين يملكون جهاز تلفاز، وفي العام 1975 ارتفعت هذه النسبة إلى 84 بالمائة. لكن في هذه الفترة لم يتم التعرف على صورة المسلمين والإسلام وإنما بدرجة أولى على الهجرة والمهاجرين بشكل أساسي، وإن ظلت صورة الجزائريين شائعة بين الفرنسيين وترتبط لديهم بالعرب والمسلمين، لكن بفضل التلفاز بات الفرنسيون يعرفون أن المهاجرين هم «الآخرون»، وأن الفرنسيين يختلفون عنهم. ويوضح الكاتب بأنه «لكي ندرس العلاقة بين المسلمين والتلفاز يجب أن نتحرر من النظرة التي يريد الإعلام أن ينقلها إلينا عن الإسلام»، داعياً إلى اتخاذ مسافة ضرورية بين ما يقدمه هذا الإعلام وبين الصورة الحقيقية التي نريد التعرف إليها. ويشير الكاتب أيضاً إلى أن الإعلام الفرنسي كان دائماً يستعمل مفردات وكلمات عن الإسلام والمسلمين تخلق التشوش والارتباك لدى الجمهور أكثر مما تعمل على توضيح الصورة لديه، مثال ذلك إطلاق كلمة «مسلم» على الشخص الذي ينضبط بضوابط الإسلام السلوكية والتعبدية، وعلى الشخص المتحدر من بلد إسلامي، حتى وإن لم يكن ينضبط بتلك الضوابط، مما يؤدي بالمواطن الفرنسي حسب المؤلف إلى التساؤل: ما هو الإسلام بالفعل؟ ومن هو المسلم حقا؟. أسلمة الرؤى (1978- 1989) حتى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي كان الإسلام بالنسبة لفرنسا «ديناً غريباً»، لكن الثورة الإيرانية التي حصلت عام 1979 غيرت كل شيء فأصبح الإسلام منذ تلك اللحظة في قلب الأحداث المهمة بالنسبة للإعلام الفرنسي، بل دخل موضوع الإسلام إلى النقاشات العائلية في البيوت، حيث سمحت تلك الثورة كما يوضح المؤلف ببروز مصطلحات كانت مجهولة من قبل لدى الفرنسيين مثل «السنة» و»الشيعة» و»الحجاب» و»التشادور»و»الشريعة» و»آية الله» و»الفقيه». ويرى المؤلف أن تلك المرحلة كانت فاصلاً عما قبلها في تصور الفرنسيين للإسلام، إذ من قبل كان الإسلام مرتبطاً بمجموعة من»الكليشيهات» أو التصورات الجاهزة والمعلبة التي كرسها المستشرقون عن العالم الشرقي «الغارق في التخلف والجهل والمطبوع بالحريم» وتعدد الزوجات والجهاد ضد المسيحيين الكفار وغرائب كتاب «ألف ليلة وليلة»، لتبدأ صورة أخرى جديدة أقرب إلى الواقع. وعلى الرغم من حصول الثورة الإيرانية ظل الإعلام الفرنسي طيلة تلك الفترة يدير ظهره لها خلال ذلك العام إلى أن غادر الشاه إيران، فانكب الإعلام الفرنسي على تقديم تحليلات وتعليقات حول الإسلام والمسلمين، وظهرت أسماء كانت مغمورة من قبل أمثال المستشرقين الفرنسيين ماكسيم رودنسون وجاك بيرك. ويشير المؤلف إلى أن الإعلام الفرنسي والخبراء الذين كانوا يقومون بالتعليق على الثورة الإيرانية والدين الإسلامي لم يكونوا يفهمون جيداً حقيقة الإسلام، فبسبب تزامن ثورة الخميني مع انتخاب البابا جان بول الثاني في سبتمبر 1978، أطلق هؤلاء لقب «بابا الإسلام» على الخميني؛ إذ حاولوا أن يعكسوا ما يحصل في المسيحية على ما حصل في إيران، وزاد من ذلك أن عودة الخميني إلى إيران واستقباله بالهتافات تزامنت مع زيارة البابا في نفس العام إلى المكسيك واستقباله من طرف الجماهير، مما كرس تلك الصورة. لقد تزامنت هذه المرحلة في فرنسا مع بروز ظاهرة الهجرة من بلدان المغرب العربي بالخصوص، التي كانت محتلة سابقاً من قبل باريس، ومع ظهور موضوع الإسلام كواحدة من القضايا المهمة في الإعلام، صارت قضية الهجرة لا تنفصل في أذهان الفرنسيين عنه، وسرعان ما أصبح التركيز يتم على المهاجرين القادمين من المنطقة المغاربية فقط وليس على المهاجرين الآخرين القادمين من إسبانيا وإيطاليا وبولونيا وغيرها من البلدان الأوروبية، وبات يُنظر إليهم كتهديد للمجتمع الفرنسي بسبب ديانتهم الإسلامية. وقد احتل الجزائريون الصدارة بسبب هذا الاهتمام، نظرا للارتباط الطويل بين فرنساوالجزائر طيلة مرحلة الاستعمار الذي دام أزيد من قرن، فانبعث موضوع الحرب الجزائرية الذي كان حتى ذلك الوقت موضوعا منسيا أو مسكوتا عنه، وأنشأ الإعلام الفرنسي نوعاً من الترابط بين موضوع الهجرة وحرب الجزائر. ويثير المؤلف نقطة مهمة في هذا الفصل، وهي أن الفرنسيين اكتشفوا هويتهم الخاصة والمتميزة ليس بالنظر إلى تاريخهم، بل بالنظر إلى المهاجرين الآخرين القادمين من بلدان العام العربي، فقضية الهجرة جعلت الجميع يفتح نقاشاً عمومياً حول «الهوية» الفرنسية والطابع المسيحي لها، خاصة بعدما ظهرت قضية «الإدماج» للمهاجرين في المجتمع الفرنسي، حيث بدأ البعض يدق ناقوس الخطر من خطورة إذابة الهوية الفرنسية في هويات المهاجرين الأجانب، وتساءل أحد الكتاب عما إن كان الفرنسيون سيظلون فرنسيين خلال الثلاثين عاما المقبلة. ضبط الأقلية المسلمة (1990-2000) خلال هذه المرحلة يبين المؤلف تراجعت صورة إيران كممثل للإسلام لتحل محلها عراق صدام حسين أثناء غزوه للعراق للكويت، والجزائر التي ظهرت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأصبح الإسلام يجسد في الذهنية الفرنسية ووسائل الإعلام «العدو» المضاد للغرب. لقد كانت الحالة الجزائرية أكثر تأثيراً في فرنسا من إيران التي لم تكن العلاقات معها قوية بما يكفي، ذلك أن الجزائر ذات ارتباط كبير بماضي فرنسا الاستعماري في شمال إفريقيا، وهناك علاقات سياسية واقتصادية ولغوية متشابكة معها، جعلت التركيز يتم بشكل أكبر عليها، وقد حاول الإعلام الفرنسي أن يصور ما حصل في الكويت وفي الجزائر بأنه انعطاف تاريخي كبير في العالم العربي، وبداية بروز الإسلام على المسرح الدولي، على الرغم من أن صدام حسين كان دائماً في نظر الفرنسيين يمثل الحاكم العربي العلماني المعادي للإسلاميين، و»صديق فرنسا» الدائم. ويصف الكاتب التناول الإعلامي للإسلام في هذه المرحلة بأنه كان تناولاً قاصراً ومتحيزاً، ويضيف بأن تلك المرحلة «كانت مرحة التوظيف الإعلامي والخلط المتعمد على جميع المستويات». ويروي المؤلف أن الإعلام الفرنسي، ومن أجل محاولة تفسير الجبهة الإسلامية للإنقاذ للفرنسيين، رجع إلى التصورات الاستشراقية الأولى عن الإسلام والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وقضية المرأة «المحجبة» و»المقموعة» و»المضطهدة» في العالم الإسلامي، وفي هذه المرحلة عادت بعض الأسماء المهتمة بالإسلام في الغرب إلى الظهور على الواجهة الإعلامية، أبرزهم برنارد لويس الأمريكي؛ إذ تم بعث بعض كتاباته الخاصة بالموضوع، خصوصاً ما كتبه عام 1964 عندما وضع مصطلح «صدام الحضارات» لأول مرة، وراج في الإعلام الفرنسي أن الفجوة بين الغرب والإسلام ماضية في الاتساع أكثر فأكثر بشكل لم يسبق له مثيل من قبل. في بداية التسعينيات أيضاً عادت قضية الهجرة لتحتل الواجهة الإعلامية، لكن بشكل مختلف عن المرحلة السابقة، حيث ظهرت عبارة «انتفاضة الضواحي» لتوصيف حالة المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا الذين يقيمون في أحياء شعبية تنعدم فيها شروط الحياة الكريمة، وصار الإعلام الفرنسي يسلط الضوء أكثر على هذه الأحياء، واصفاً إياها ب»الغيتوهات» و»المناطق الخارجة عن القانون»، وصار يطلق على ساكنيها كلمات مثل «المسلمون»، «الأجانب»، «المؤمنون»، «المغاربيون» و»البور» (المهاجرون المغاربيون المولودون في فرنسا)، وقد تعبأت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة لمتابعة هذه القضية، ونظمت في القنوات التلفازية جلسات حوارية بعضها كان موضوعه: هل ينبغي على المسلمين الفرنسيين التخلي عن الإسلام من أجل اندماج أفضل وضبط أحسن للإسلام في فرنسا؟ ويؤكد الكاتب: إن المسلمين في فرنسا وجدوا أنفسهم مضيقاً عليهم الخناق بسبب هذه المعالجة الإعلامية التي حاصرتهم. لكن القضية الجزائرية تطورت بشكل مثير خلال العام 1992 بعدما انقلب الجيش الجزائري على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في البلديات، حيث أصبح هناك تخوف من الانعكاسات السلبية لذلك التحول على فرنسا والمهاجرين المسلمين فيها. ويرى الكاتب هنا أن ما تحكم في الصحافيين والإعلاميين الفرنسيين هو تلك الصور النمطية القديمة الموروثة عن الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا، بعيداً عن الموضوعية والعقلانية، حيث كان يتم التركيز، في الغالب، على بعض الحوادث العرضية والصور والمشاهد المعزولة لتقديمها وكأنها تمثل الإسلام أو المسلمين، مثل العراك بين جزائريين في الشارع، أو ارتداء سيدة جزائرية أو عربية الحجاب، أو مشهد شخص ملتحٍ يحمل بندقية. ولكي تكتمل الصورة في الذهنية الفرنسية أطلق الإعلاميون والصحافيون على ما يحصل في الجزائر اسم «حرب الجزائر الثانية» لمقارنتها بالحرب الجزائرية الأولى في خمسينيات القرن الماضي ضد الوجود الفرنسي. لكن تفجيرات صيف 1995 باريس واختطاف طائرة «إيرباس» أحدثت تحولاً جديداً في التصورات عن الإسلام والمسلمين والجزائر خاصة. بعدها بأسبوعين تم اغتيال الشيخ الصحراوي الجزائري، أحد الوجوه البارزة في تلك الفترة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في قلب باريس. ويكتب المؤلف: إن اغتيال الصحراوي شكل موضوعا رئيسياً لوسائل الإعلام الفرنسية التي اكتشفت فجأة أن هناك تيارين داخل الإسلاميين، التيار المعتدل والتيار المتشدد، ونتيجة لذلك أخذت وسائل الإعلام تميز بين الجبهة الإسلامية وبين الجيش الإسلامي للإنقاذ بعد سنوات من الخلط بينهما بعد وصول حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان عام 1996، وبروز الإسلاميين في تركيا، بدأ الإعلام الفرنسي يتجه بعيداً عن المسلمين الفرنسيين ليركز على قضايا أخرى مرتبطة بالإسلام بعيداً عن الجزائر ومنطقة المغرب العربي، ليخف الضغط الإعلامي عنهم فترة معينة. غير أن هذه المرحلة شهدت نوعاً من الاتجاه نحو الموضوعية والصراحة في انتقاد طريقة تناول الإعلام الفرنسي للإسلام وقضايا المسلمين، فبدأ بعض الصحافيين والباحثين يستعملون عبارات «شيطنة الإسلام» و»المتخيل المعادي للمسلمين»، ووصل البعض إلى حد استعمال عبارة «الإسلاموفوبيا» أو نزعة معاداة الإسلام. تطويق العدو غير المرئي (2001-2005) كانت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر حدثا فاصلا كما يوضح المؤلف في تعاطي الفرنسيين مع الإسلام، «لقد دخلنا بعد الحادي عشر من سبتمبر في عصر جديد وغير مسبوق، أصبح الغرب فيه مستهدفاً في كيانه». وبعد ظهور أسماء زكريا الموساوي والفرنسي جيروم كورتايلي، الذي اعتقل في هولندا بتهمة علاقته بتنظيم القاعدة، والبريطاني ريتشار دريد، أصبح الحديث الرائج في فرنسا هو عن «المؤامرة» التي تستهدف الجاليات المسلمة في فرنسا، وخاصة أبناء الضواحي، من أجل تجنيدهم وإرسالهم إلى الحرب في أفغانستان مع تنظيم القاعدة، وهذا أدى إلى سيطرة «العقلية الأمنية» داخل الدولة في التعاطي مع المسلمين، فأصبحت المساجد والخطب ولقاءات المسلمين وجمعياتهم تخضع للرقابة الشديدة من طرف وزارة الداخلية ورجال المخابرات. ويوضح المؤلف بأن هذه المرحلة كانت أخطر المراحل في المعالجة الإعلامية للإسلام وشؤون المسلمين في فرنسا، فأصبح الشك هو الأصل في المسلمين. ويُطلق على تلك المعالجة تسمية «المعالجة الافتراضية» التي تنحرف عن الواقع باسم تدارك الخطر قبل وقوعه، مما أدى إلى حصول «انزلاقات»، كما حصل في حادث انفجار أحد المعامل في مدينة تولوز بعد أسابيع من تفجيرات نيويورك وواشنطن، حيث اتجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى «إسلاميين»، وكانت أولى قصاصة إخبارية لوكالة الأنباء الفرنسية فور الحادث تشير إلى وجود متطرفين إسلاميين وراء الحادث، قبل أن تلحق بها كافة وسائل الإعلام والصحف الأخرى، ليتأكد في الأخير أن ذلك كان مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة، وتكررت نفس العملية مع حادث مطار رواسي عام 2003. أهم ما طبع هذه المرحلة حسب المؤلف هو انتشار تحقيقات وروبورتاجات «ملفقة» في وسائل الإعلام الفرنسية التي كانت تقدمها البرامج الأكثر مشاهدة على القنوات، وقد برز اسم صحافي جزائري يدعى محمد سيفاوي، كان مرتبطاً بالجنرال خالد نزار وتيار في الجيش الجزائري، جاء إلى فرنسا قبل سنوات للعمل مع مجلة فرنسية هي «ماريان»، وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر بدأ يقدم نفسه كمتخصص في الإسلام، مما جعل وسائل الإعلام تفتح له أبوابها، ثم أخذ يعد تحقيقات مصورة ملفقة يصور فيها نفسه وكأنه نجح في اختراق بعض الإسلاميين المتشددين، وتمكن من تصويرهم بكاميرا خفية والتقاط بعض تصريحاتهم المثيرة، مثل ذلك الشاب الذي صرح له بأن فرنسا ستكون الهدف التالي بعد أمريكا. وعلى الرغم من كل تلك التلفيقات يضيف الكاتب أكل الصحافيون والإعلاميون الفرنسيون الطعم؛ لأن سيفاوي كان يهدف إلى تشويه صورة الإسلاميين الجزائريين ودفع الفرنسيين إلى الحقد عليهم لتقديم خدمة للتيار الاستئصالي في المؤسسة العسكرية الجزائرية. وخلال الفترة ما بين 2003 و2004 عادت قضية الحجاب مجدداً إلى الساحة الإعلامية، خاصة بعد التظاهرات المعارضة لطرد محجبات من المدارس، وقد نتج عن ذلك أن النقاشات حول الإسلام والحجاب في وسائل الإعلام أصبحت «أكثر تطرفاً وتشدداً»، إلى درجة أن أحد البرامج التلفازية في قناة «تي إف 1» في أكتوبر 2003 صوّر مشهدا لطالبات مسيحيات محجبات بلباسهن الكنسي في مدرسة كاثوليكية بمارساي ومشهد صليب معلق على جدار مدرسة أخرى ليؤكد أن «العلمانية موجودة في فرنسا»، دون أن يسأل نفسه لماذا ترفض هذه العلمانية حق مسلمات في ارتداء الحجاب.