تعتبر الخدمة العمومية دعامة أساسية لتطور الحياة الإنسانية بمختلف تجلياتها الاقتصادية الاجتماعية والثقافية؛ لذلك وسعيا منها إلى تحقيق المنفعة العامة، من جهة، وتقديم الخدمات، من جهة أخرى، قامت مختلف بقاع المعمور بإحداث مؤسسات خدماتية ومدها بالإمكانيات المادية البشرية واللوجستية التي أوكلت إليها مهمة الاستجابة لمتطلبات المواطنين، سواء كانوا أفرادا أو جماعات. ويعتبر العنصر البشري بمثابة النواة الصلبة التي يعول عليها في تفعيل السياسات الاستراتيجية القطاعية وصياغتها في قالب خدماتي، الأمر الذي يتطلب إعداد برامج تكوينية بهدف صقل مواهب هاته الأخيرة وجعلها تواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالتغير المستمر واللامتناهي للحياة الإنسانية الكونية. منذ حصوله على الاستقلال، حاول المغرب اعتماد مجموعة من المخططات الهيكلية الهادفة إلى إعادة الاعتبار إلى الحياة الإنسانية لمرحلة ما بعد الاستعمار. ومن ثمة شرعت الدولة في بناء هياكل إدارية مغربية تم وضعها في قالب مرفقي عمومي جعل من الموارد البشرية ركيزته الأساسية من أجل تحقيق أهدافه. ومن هذا المنطلق، جاء القانون المنظم للوظيفة العمومية ليشكل المحدد الأساسي لحقوق وواجبات الموظف العمومي. ومن بين واجبات هذا الأخير نجد إلزامية حضوره بانتظام إلى مقر عمله من أجل القيام بالمهام الموكولة إليه بنص القانون. لقد أدت التراكمات الإدارية في مختلف القطاعات الإدارية المغربية إلى ظهور مجموعة من الشوائب التي أثرت بصفة مباشرة على مردودية نتائجها والتي نذكر من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، ظاهرة التغيب غير المشروع عن العمل. لذلك، ورغبة منها في احتواء هذه الأزمة، اعتمدت الحكومات المغربية المتعاقبة على مجموعة من: - الآليات القانونية المتمثلة في تطبيق المساطر الزجرية الجاري بها العمل في مجالات تغيب الموظفين، كالاقتطاع من الأجر وتوجيه الإنذار والتوبيخ، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى التوقيف المؤقت أو الكلي لنشاط الموظف المتغيب داخل المرفق العمومي؛ - الوسائل الإلكترونية والتكنولوجية الحديثة التي تهدف إلى تتبع حضور الموظف من عدمه لا غير، كتثبيت الكاميرات خارج وداخل المرفق العمومي أو وضع وحدات لتسجيل الحضور الإلكتروني، الأمر الذي لم يحقق نتائج إيجابية بالرغم من أنه كبد خزينة الدولة مصاريف طائلة، ذلك أنه بالرغم من استعمال هاته التكنولوجيات الحديثة في ضبط الظاهرة، فإن الواقع ظل يعكس خلاف ذلك... إلخ. لقد أفادت مجموعة من الإحصائيات، التي قامت بها عدة مكاتب للدراسات الوطنية والدولية المتخصصة في مجالات تدبير الموارد البشرية، بأنه رغم اعتماد منهجية تأكيد الحضور الإلكترونية، فإن ظاهرة تغيب الموظفين لازالت متفشية، الأمر الذي يتطلب منا وقفة تأمل بهدف معرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة الكامنة وراء تغلغل هذا الداء داخل الجسم الإداري المغربي. يعتبر نمط التدبير الاستراتيجي الخاص، في شقه المتعلق بتدبير الموارد البشرية، من بين أهم الوسائل التي استطاع القطاع الخاص من خلال تطبيقها جني نتائج إيجابية جدا، انعكست على فعالية ومن ثمة جودة نتائجه، هذا الأخير نجد أنه قد اهتم بمردودية المستخدم في إطار تطبيقه لمنهجية العمل القائمة على تحقيق النتائج، غير أن هذا لا يعني أن القطاع العام لم يحاول تطبيق مجموعة من النماذج الناجحة والمستوحاة من القطاع الخاص، الأمر الذي يستشف من خلال إعداده لمجموعة من المراجع التدبيرية، كالدليل المرجعي لتأهيل الأطر والكفاءات، هذا بالإضافة إلى نهجه استراتيجيات قطاعية إصلاحية. إلا أن شبح الغياب الوظيفي ظل، رغم كل هذه المحاولات، يطارد كل تطور في مجال فعالية ومردودية العنصر البشري في مجالات الخدمة العمومية. ومن هذا المنطلق، وجب التفكير في وسائل تكون كفيلة بالقطع مع هذه الظاهرة الخطيرة، وهذه الوسائل يمكن حصرها في: - الإعداد لعملية تشخيص وطنية تهتم برصد مختلف المؤثرات المباشرة وغير المباشرة لظاهرة الغياب الوظيفي؛ - إعداد استراتيجية وطنية مندمجة وتشاركية، تجعل من بين أولوية أولوياتها تحديد الآليات الكفيلة بتحقيق مردودية الموظف لا تتبع حضوره، الأمر الذي يتطلب منا إعادة النظر في سياسة التقييم الوظيفي المعمول بها داخل وحدات المرفق العمومي، إذ إن استمرار العمل بهذا النمط التقليدي سيكرس، لا محالة، تجذر النمط المزاجي التقليدي للمسؤولين الإداريين في تقييم مردودية الموظف العمومي، مما سيشكل حاجزا منيعا أمام تحقيق الأهداف المرجوة من وراء إحداث المرفق، من جهة، وكذا من ضمان فعالية اشتغال الموظف العمومي، من جهة أخرى،... إلخ. إن موظف عصر العولمة غالبا ما يجد نفسه في حالة عدم القدرة على الاستجابة لطلبات المرتفقين، الأمر الذي يمكن إرجاعه بالأخص إلى النقص الحاد الذي تعرفه أغلب المؤسسات الإدارية، إن لم نقل كلها، في التجهيزات اللوجستية الكفيلة بتسهيل مأمورية الموظف العمومي. هذا علاوة على حالة الاكتظاظ التي تعرفها مجموعة من القطاعات دون غيرها، كالصحة والتعليم، الأمر الذي تنتج معه حالة من الملل لدى العديد من الموارد البشرية المؤهلة والتي لطالما لم تتناسب مؤهلاتها المعرفية والتطبيقية مع القطاع الذي تشتغل فيه، مما يكرس تعاظم ظاهرة الغياب غير المبرر بشكل لافت للانتباه. إن حل الإشكالات المرتبطة بتدبير الموارد البشرية تدبيرا أمثل، لا يمكن أن يقتصر على تطبيق المساطر القانونية الزجرية فقط، بل لا بد له أيضا من وسائل تدبيرية جديدة تجعل من المقاربة التشاركية أساسا له في التعامل مع القضايا المرتبطة بتطبيق مبادئ الحكامة التدبيرية المرفقية الخدماتية الجيدة والمتمثلة أساسا في: - ضرورة تطبيق منهاج تدبير الملفات الفردية أو الجماعية، الشيء الذي سيمكننا من تقييم المردودية، وكذا من ضمان إشراك فعلي ومباشر للموارد البشرية في رسم معالم الخريطة الخدماتية للمرفق، سواء منها الآنية أو المستقبلية؛ - ضرورة القيام بعملية إعادة الانتشار الوظيفي بشكل يحترم معه مبدأ تخصص الموظف العمومي، من جهة، وتحقيق التوازن بين الوحدات المرفقية في الاستفادة من الثروات البشرية، من جهة أخرى؛ - اعتماد سياسة التحفيز القائم على المردودية، الأمر الذي ستنتج عنه حالة من التنافس بين الموظفين العموميين؛ - احترام الحريات النقابية للموظف العمومي والتعجيل بإخراج القانون المنظم للإضراب، من جهة، وكذا القانون المنظم للعمل النقابي وللنقابات، من جهة أخرى، لأنه لا مردودية بدون تحقيق التوازن بين حقوق وواجبات الموظف العمومي... إلخ. إن تدبير ملف تغيب الموظف العمومي لا يمكن التعاطي معه بصورة قانونية جامدة، تتمثل في تطبيق المرسوم الحكومي القاضي بإنزال العقوبات الزجرية الصارمة بالمتغيبين، فلتطبيق القانون تطبيقا جيدا لا بد من توفير أرضية مادية بشرية قانونية تشاركية مندمجة تقوم على تحقيق المردودية، لأن الانفتاح على الآخر أصبح لازمة لكل تطور تنموي اقتصادي اجتماعي ثقافي، ولمَ لا سياسي.