صلاح الطويل فنان لإبداعه طعم خاص، جاء من الأحياء السفلى إلى مجال الأغنية الملتزمة التي طبعها ببصمة السخرية. غنى للعمال والطلبة والبسطاء في الأحياء الشعبية، وحاول أن يخصب تجربته الغنائية بالممارسة المسرحية وهو ما أعطى عملا بعنوان: «تجربة في المسرح المنظوم» أصدره مؤخرا بعد أن قدمه في عروض مسرحية بعنوان «الفراجة وشي حاجة». عن الأغنية الملتزمة ورهاناتها وأفقها، وعن تجربته في المجال يتحدث صلاح الطويل في هذا الحوار. - كيف تقدم لنا اللون الفني الذي عرفت من خلاله؟ < اللون الفني الذي عرفت به هو الأغنية الملتزمة، وهذا لم أختره أنا، فقد بدأت تجربتي في الثمانينيات، وتعرف علي الجمهور أساسا في أول مرة بمهرجان الأغنية الجديدة بمدينة الجديدة، وهكذا عرفت كفنان ملتزم أما أنا فكنت أفكر في تجربتي بصيغة أخرى، لأن ما انشغلت به أساسا هو الأغنية الساخرة التي كانت تركز على النقد السياسي والاجتماعي وتطرح بعض القضايا والهموم وتعكس بعضا من قلق الناس، خاصة أن المرحلة التي عرفت فيها أكثر تميزت بأحداث عديدة منها أحداث 14 دجنبر وزخم الحركة الطلابية في الجامعة المغربية، حيث كنت أستدعى من طرف مناضلي أ.و.ط.م لإحياء أمسيات، ثم لاحقا الهجوم على العراق إلخ. لقد أديت أغاني عديدة تجاوب معها الناس آنذاك، من قبيل «أم المعارك» و«رامبوش» و«البنك الدولي» إلخ. طبعا لم أكن أسعى إلى أن كون معروفا في المجال، بل كان يهمني أن أؤدي رسالة ذات طابع نضالي عبر الفن الغنائي. وتجربتي تبلورت داخل الأحياء الشعبية بفاس وصقلتها أكثر بالارتباط ببعض الإطارات الثقافية والجمعوية والعمالية والطلابية. لقد قمنا بما قمنا به بكل الحماس الذي استدعته المرحلة، لكني حين أتأمل هذه التجربة الآن أصل إلى خلاصة مؤسفة هي أنه تم توظيفنا لجمع الناس «الجوقة» لبعض الزعماء اليساريين بغاية تمرير خطابهم ومواقفهم. لقد كنا حطبا لهؤلاء للأسف الشديد. - ما الذي شجعك أكثر على هذا الاختيار الغنائي الخاص؟ < هناك مسار أفضى بي إلى هذا الاختيار. فأنا ابن مقاوم ومقاومة وهذا طبعني وقد تأثرت في شبابي بأغنية المجموعات، إلا أن الذي طبعني أكثر هو أن أغنيتي برزت في المجال الطلابي أو الجمعوي أساسا، وهذا غير صحيح لأن انطلاقتي كانت وسط العمال، لأني كنت عاملا في المركب الخزفي في بداية الثمانينات، كنت أغني وأعزف وكنت من الذين استفادوا من أحد التكوينات فصرت مسؤولا بين العمال، ولأنه كان علي أن أمارس في المجال النقابي فقد استثمرت طاقتي الإبداعية لخدمة العمل النقابي وبعد ذلك ارتبطت ببعض الجمعيات والهيئات السياسية وكان أن سمح لي ذلك بالانتشار أكثر والحضور عند جمهور واسع. لقد وفرت لي هذه الأجواء تكريس تجربتي لدى جمهور خاص من المتعلمين والمثقفين والسياسيين، لكن هذه التجربة استغلت أحيانا لصالح بعض الجهات دون أن أعي أنني أقوم بذلك لفائدتها. - كيف تقيم تجربتك الآن وهل تعتبر نفسك مستمرا في نفس التجربة أم قطعت معها؟ < ركزت منذ بداية الألفية الجديدة على المسرح الغنائي. فقد مسرحت أعمالي الغنائية وقدمتها في مجموعة من العروض ويهمني أن أسير في هذا الاتجاه. لقد أحسست أن ما قدمته بصيغة الأغنية الساخرة كان عبارة عن مشاهد توظف القصة والرواية والكاريكاتير... وهذا من صميم الممارسة المسرحية. لهذا قدمت هذه الأعمال ممسرحة في عروض عديدة وهذا العمل هو الذي أصدرته في كتاب بعنوان «تجربة المسرح المنظوم-مسرحية الفراجة وشي حاجة نموذجا». - ماهي القضايا التي شغلتك أكثر في أغنيتك وفي مسرحك؟ < نصوصي التي غنيتها هي النصوص التي مسرحتها وأصدرتها بعد ذلك في كتاب، وما تطرحه كقضايا له علاقة بمعاناة الشعب المغربي والشعب العربي والإنسان عامة، لقد سعيت إلى التعبير عن معاناة الناس واضطهادهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. الواقع بئيس جدا ومن المهم أن نجعل الفن والممارسة الإبداعية في خدمة غاية أساسية هي فضح المسؤولين عن هذا البؤس. أعتبر الآن أن عملي المسرحي في بدايته ويحتاج إلى تراكم واجتهاد لتطويره، ولابد أن يغتني أكثر ويحضر عند جمهور واسع لاحقا، خاصة أن المسرح الغنائي الذي أقوم به لا يحضر كثيرا في مجالنا. فعلى الرغم من أن الأغنية حضرت دوما في مسرحنا، وأن مسرحنا المغربي عرف هذا النوع منذ القديم فأنا أحاول أن أستفيد من التجارب السابقة للرواد في المجال إلا أن خطاب المسرحي له طابع خاص وهذا تبرزه لوحات المسرحية وشخصياتها والأغاني الساخرة فيها. واقعنا فيه الكثير من المرارة، والسبب في ذلك هو السياسية التي لا يهمها خدمة مصالح الناس وتنشغل أكثر بتحقيق احتياجات الجهات التابعة لها عالميا ومحليا. - قلت سابقا إن تجربتك في الأغنية الساخرة استغلت من طرف جهات في حينها كيف ذلك؟ < استغلال تجربتي في ما سبق مسألة لم أدركها إلا لاحقا وأنا آسف لذلك، أنا الآن أحس بأنني لا أملك جمهورا، والجمهور الذي احتفى بي في السابق صار مع مصالحه. لقد تمت قولبتنا من طرف هيئات وأطر سياسية واستثمرنا لتهييج الناس بغاية لفت نظر النظام السياسي إليهم وهو ما تم، لأن غالبية من غنينا لهم ووفرنا لهم قاعدة جماهيرية ليخطبوا فيها حصلوا على مناصب هامة واستفادوا من الكعكة وبقينا نحن غرباء في هذا الواقع. لقد كان فننا أصيلا إلا أنه وظف من طرف آخرين بغاية الحصول على مناصب ووزارات، أما نحن فما زلنا نبحث عن لقمة العيش، هذا لا يعني أني نادم على تجربتي لكني أحس بحزن لأن كل الذين رافقوني في مرحلة، صاروا في الجهة الأخرى ويتحدثون بلغة أخرى، ولهم انشغالات أخرى، ليس من بينها الانشغالات التي وحدتنا أيام النضال السياسي والثقافي والفني. الفارق الآن هو أن الذين توحدنا معهم في القضايا الحارقة سابقا هم من يرفض دعمنا اليوم. ففي عهد الوزراء التقدميين في الثقافة والإعلام حرمنا من أشياء عديدة وما أستدل به على ذلك هو أنه تم تسجيل حوار معي حول عملي المسرحي لتقديمه في القناة الأولى، إلا أنه لم يقدم كما أنه تم الاتفاق مع هذه القناة على تقديم عملي وتم الإخبار عن ذلك في وصلات إشهارية، حيث كنت أقوم بعروض تجريبية مسرحية لكن لاحقا تم إيقاف الوصلات ولم يقدم العمل وهذا ما يدفعني للقول إن إعلامنا الرسمي غير ديمقراطي ويهمه فقط التقديم لنماذجه الإبداعية النمطية إلى الأبد، ينشغل فقط بالإبداعات الممسوخة والثقافة الساقطة والسوقية وذلك ضدا على الناس وضدا على الاختلاف المميز لوجودنا المغربي. - هل هناك حاجة إلى الفن الملتزم في وطننا الآن؟ < الإبداع الملتزم حاجة لدى المجتمع دوما. وكل شيء الآن يستدعي الحاجة إلى هذا الفن، فالقهر متضخم والمعاناة الاجتماعية لا حد لها والناس تعيش كل أنواع المحن ووظيفة الفن هي الحديث عن كل هذا ومساندة المعدمين والمظلومين، لأن الشيء الذي يعطي للفن قيمته هو ارتباطه بواقع الناس وأحزانهم. وأنا لا أقول إنه على كل الفنانين أن يصيروا ملتزمين، بل أطالب فقط بحق الفن الملتزم والإبداع المختلف في التواجد بشكل عادل وديمقراطي. من حق الجميع أن يقدم الفن الذي يريده بشكل طبيعي وأن يمر بالقنوات الثقافية والإعلامية وأن يستفيد من الدعم إلا أن هذا لا يحصل لأن من يحكم أو يتحمل المسؤولية يهمه فقط تسطيح وعي الناس وقتل المعاني النبيلة للإبداع والثقافة والفن ولهذا يدعمون كل أنواع الإسعاف ويحكمون على أمثالي بالموت البطيء. - ماذا عن تجربة إصدار فنان لعمله في كتاب؟ < تجربة إصدار كتاب محنة حقيقية، عشت مرارتها لسنوات وهو ثمرة مجهودي الخاص إمكانياتي الخاصة، ووزعته شخصيا وعائدات المبيعات أسلمها مباشرة إلى المطبعة. إنها أحد ملامح معاناة المبدع المغربي، خاصة حين يختار نمطا إبداعيا مختلفا أو له غايات لا تسير في نفس اتجاه رغبة الحاكمين. لكن ما أختم به هو التأكيد على أن شعبنا لا ينسى ولن ينسى ولن تساوي ذاكرته بين الذين عانوا لأجله والذين استفادوا على حسابه وخذلوه.