في مذكراته «متهم حتى تثبت إدانته»، يحكي الصحافي خالد الجامعي كيف ارتمى في عالم الصحافة تاركا جَمل وزارة الثقافة، التي كان يشتغل في ديوان وزيرها، بما حَمل، متنازلا عن السيارة والتحية العسكرية التي كانت «تُقرقب» له كل صباح. ذات صباح من ماي 1973 سيقتاد الجامعي معصب العينين من مقر «لوبينيون» نحو المجهول، والتهمة: نشر صورة لطفل، لم يكن غير الأمير مولاي رشيد، إلى جانب بدويات يفترشن الأرض. في «متهم حتى تثبت إدانته»، التي تنشرها «المساء» على حلقات، فصول مشوقة حتى الإيلام لصنوف من التعذيب، ومفارقات بالجملة لوجوه كانت تعبر زنزانة خالد الجامعي، طيلة ستة أشهر من اختطافه، فيما هو ينتظر الذي يأتي: الجلادون، والذي لا يأتي: الفرج. وبين كل «علقة» وأخرى يردد ما أوصاه به والده بوشتى الجامعي: «إذا اعتقلوك يا بني فتماسك، واحذر أن تتخاذل أبدا». في «متهم حتى تثبت إدانته» نتعرف على شخصية خالد الجامعي التي تجمع بين كارل ماركس وعلال الفاسي، على ما بينهما من تناقض. ويتوصل خالد الجامعي، أخيرا، إلى أن اعتقاله لم يكن بسبب صورة الأمير الصغير، بل بسبب اقترابه من شخصين مسجلين خطر: أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي. إن الأسير عندما يسقط بين مخالب هذه الوحوش الضارية، ليس أسيرا عاديا يقضي مدة عقابه ويمضي إلى حال سبيله، بل هو طريدة يظفر بها الظافرون من أجل تجريب أحدث وصفات الموت البطيء عليه. فليس له ما يشفع له غير عفو ملكي إذا نزل، وقلما ينزل على أمثاله من المغضوب عليهم. عفو ملكي يطلى بطلاء القداسة في الأرض تشبها بالعفو الإلهي في السماء. أليس للملك حق الموت والحياة على رعيته كما هو لله عز وجل على سائر خلقه؟ إن دار المقري، وتزممارت، ودرب مولاي الشريف، وقلعة مكونة، وأكدز، والمعتقلات السرية المسماة بالنقط الثابتة 1 و2 و3 ، ليست في الحقيقة سوى نماذج مستنسخة من «حبس قارة». إنها فظاعات خرجت من أخيلة مهووسة غذاها حكم مطلق يرفض الشريك ويزري بمبدأ فصل السلط ولا يقبل عن رأيه المتأله بديلا. إن با حماد، وأفقير، والدليمي، والبصري ما هم في الحقيقة سوى أسماء مختلفة لمسمى واحد يختزل في لفظة «المخزن». هذا بالذات ما يدفعنا إلى القول بأن الممارسات اللا إنسانية التي عرفها المغرب في سنوات الجمر والرصاص ليست لحنا نشازا كما قد يظنها الجاهلون بتاريخ بلادهم، وإنما هي في الواقع قاعدة مترسخة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ المغربي القديم وباقية ما بقي نظام عفا عنه الزمن.
بوشكريط كان الرجل يشارف على الثلاثين من عمره، أدهم البشرة، زنجي القسمات، مفتول العضلات. أدهشتني هيأته حين زج به معي في الزنزانة. ذكرني بطفولتي التي قضيتها في درب السلطان بالدار البيضاء حيث كانت هنالك مجموعة من الصعاليك المشهورة بقلوبها الكبيرة وحميتها الشديدة على سكان الحي. كانوا يدافعون عنا ويحموننا نحن الصغار كلما هوجمنا من عصابات الأحياء المجاورة. فأي رجل من جيلي عاش في درب السلطان لا يستطيع أن ينسى أسماء خالدة مثل «الجابوني»، و«بوشكريط» و«أولاد سميدة» و«سنيورة» و«أحمد الغول»؟ صعاليك كانت لهم فيما بينهم طقوس خاصة وسلوكيات معينة. ورغم أنهم كانوا يزرعون الهلع في أماكن بعيدة، فإنهم كانوا على النقيض من ذلك فرسانا متفانين في خدمة سكان الحي. يحترمونهم، ويساعدونهم عند الاقتضاء، ويدافعون عنهم عند «الغارات الخارجية»، ويحثون أطفالهم على الذهاب إلى المدرسة، ناهين إياهم أن يقتفوا أثرهم، أو أن يكونوا لهم قدوة ومثلا. كان الرجل في محضري مرتبكا خجولا. ربما لعلمه بأنه سيكون رفيقا لمعتقل سياسي. ولكنه مع مرور اللحظات الحرجة الأولى، تلاشى تحفظه تدريجيا فانطلق يحكي لي قصته من ألفها إلى يائها. قال «بوشكريط» ، وهذا هو اسمه الذي لم أعرف لم سمي به: « شربنا الخمر حتى عربدنا وتناولنا الكثير من المخدرات، فسرقنا سيارة واتجهنا صوب مدينة مكناس ونحن مدججون بالأسلحة البيضاء. وفي الطريق، خطر لنا أن نهاجم العديد من محطات البنزين، فكان لنا ذلك، إلى أن ألقي علي القبض، وطبعا، عذبت عذابا شديدا قبل أن يؤتى بي إلى هنا...» اندهشت للهجته الهادئة المطمئنة حين سمعته وهو يحكي لي عن الكيفية الرهيبة التي عذب بها. لقد كان يرى في ذلك أمرا بسيطا جدا إن لم نقل تافها. شيء متوقع يأتي كنتيجة حتمية لعمل معين. التعذيب ينظر إليه في مجتمعنا كممارسة عادية بل وشرعية. هذا ما استنتجته عند معتقلي الحق العام الذين لم يظهر على أحد منهم أنه استنكره أبدا أو حاول الاحتجاج عليه. وهذا ما يبرهن على أن ظاهرة العنف أصبحت بكثرة تعميمها بيننا جزءا لا يتجزأ من ممارساتنا اليومية العادية. أليس طبيعيا عندنا أن يضرب الأب ابنه، وأن تحرق الأم بنتها، وأن يعطي المعلم الفلقة لتلامذته؟ نحن مع الأسف الشديد، لا نرى أي ضير في ذلك ما دامت هذه الممارسات المشينة قد ترسبت في قاع ذهنيتنا وترسخت بفعل تربية ورثناها أبا عن جد حتى أصبح لسان حالنا كحال المتمسكين بضلالهم حين عرض عليهم الهدى فقالوا معاندين: «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون...» وفي هذا السياق، فإن المخزن لا يشذ عن هذه القاعدة ما دام هو أول من يطبقها بإتقان ويؤمن بنجاعتها أشد الايمان. فالرعية بالنسبة له ينبغي أن «تؤدب» لكي تبقى مطيعة خائفة مستسلمة. والتأديب لا يكون طبعا إلا بالتعذيب والضرب والتنكيل. إنها وسائل لا مناص من استخدامها كلما حل مواطن ضيفا على الشرطة أو الدرك، عملا بالمقولة السائدة: «العصا لمن عصى»... وربما أن ذلك هو ما يفسر هذا العنف الحاضر بقوة في مجتمعنا. عنف يجعل علاقاتنا كلها تخضع باستمرار لموازين القوى. الرجل مع المرأة، والوالد مع ولده، والأم مع بنتها، والأخ مع أخته، والحاكم مع المحكوم والمخزن مع سائر رعيته. عنف جسدي وعنف شفوي يقصيان فضيلة الحوار والتسامح وحق الاختلاف والمعارضة. وهي أشياء يفهمها المخزن على أنها تسيب (سيبة) يسعى به أصحابه إلى تفكيك التلاحم الاجتماعي ومن ثمة الإطاحة بالنظام القائم. كان «بوشكريط» رفيقي في الزنزانة، ينتظر المثول بين يدي قاضي التحقيق. ولم يكن يدري بماذا سيجيبه عن الأسئلة العديدة التي سيطرحها عليه. فهو من جهة، لا يمكن أن ينكر المنسوب إليه ما دامت الحجج القائمة عليه دامغة، ومن جهة أخرى، فهو يخشى أن يكون العقاب مبالغا فيه. استشارني حول الوسيلة المثلى «لتحقيق العدالة». فقلت له ناصحا: ما عليك إلا أن تتماثل أمامه بالحمق... فبمجرد حضورك بين يديه، تصرف بكيفية غريبة، كأن ترقص مثلا أو تقفز فوق مكتبه... قال لي شاكرا: ولم لا؟ ليس لي ما أخسره على كل حال... كنت أدرك طبعا سخافة نصيحتي له إن لم أقل إنها لا أخلاقية. ولكني كنت أحاول إنقاذه من حكم قاس قد يحطم حياته تحطيما كاملا، سيما أنه كان عاجزا عن الاستعانة بخدمات محام. في اليوم الموعود، أخذ طمانكو من «المستودع» الهزيل الذي كان الأسرى يؤمنوني عليه ملابس شبه لائقة ثم ذهب لملاقاة قدره. مرت الأيام وهو معي في الزنزانة ينتظر ما ستؤول إليه أحواله. وذات ليلة، استيقظنا فزعين على جلبة وصراخ في ساحة المعتقل. فلما أطللت من «خصاص» الباب، رأيت منظرا يثير التقزز والغثيان: بقايا رجل، هو في الحقيقة حطام آدمي في سكر طافح، يصرخ ويخور كالثور الذي يساق إلى المذبحة بينما شرطي فظ غليظ يجره من رجله وينهال عليه ضربا موجعا لا أثر فيه للرحمة أو الشفقة. قلت لطمانكو معلقا: لا أفهم كيف يقبل الإنسان وضع نفسه في هيئة يصعب فيها التفريق بينه وبين الحيوانات العجماء؟ وجم «بوشكريط» لحظة ثم قال لي برنة فيها شيء من المرارة: يقال إنك تابعت دراستك حتى نهايتها، وإنك إنسان مثقف، وإنك تتعاطى للسياسة، أليس كذلك؟ قلت: وأي ضير في هذا؟ رد علي بحنق ظاهر: من تكون أنت حتى تصدر أحكاما جاهزة على الناس؟ هل تعتقد أن هذا البئيس يرضى أن يراه أولاده «بيلا» (سكر شامل) وهو على هذا الوضع المزري الذي لم يتمكن فيه من إمساك بوله؟ قلت وقد فاجأني سؤاله: طبعا لا... قال متابعا: هل تعرف على الأقل ما هي الدواعي والأسباب التي دفعته إلى التردي في هذا الوادي السحيق؟ صفعتني أسئلته وتيقنت أنه على صواب وأني تسرعت في إطلاق حكمي. لقد كان الدرس قاسيا، لكني ظللت مدينا به لرفيق محنة من الحق العام. تابع «بوشكريط» قائلا: أنا أيضا تابعت دراستي إلى حدود الرابعة ثانوي، لكني كنت ولا زلت أعيش فقرا مدقعا. فخبرني بالله عليك؟ أي مستقبل يمكن أن ينتظره أمثالي من المسحوقين والمستضعفين في هذا البلد؟ أصارحك بأنه في بعض الأحيان، تتملكني رغبة جامحة لحيازة أسلحة نارية والقضاء على جميع هؤلاء المتعفنين الناهبين لخيرات هذا الوطن. في لحظة وجيزة، انقلب «بوشكريط» الصعلوك، «بوشكريط» المذنب، سارق محطات البنزين إلى شخص آخر. بعد مرور سنوات على هذا الحدث، وبينما أنا أقترب من مقر عملي بالجريدة، اعترض طريقي ذات صباح حارس سيارات جمعتني وإياه صداقة قديمة يرجع عهدها إلى «الكوميسيرية» الملعونة، فأخبرني بأن «بوشكريط» يريد أن يراني ولكنه يخشى أن يتسبب لي في إحراج ما نظرا لسوابقه العدلية. التقيت به في زاوية شارع علال بن عبد الله، وبالتحديد، في الزقاق المؤدي إلى سينما «رويال». تعانقنا عناقا حارا وتبادلنا الأخبار، فأحاطني علما بأنه قضى في السجن سنين طويلة، وأنه تزوج مباشرة بعد الإفراج عنه ورزق بأولاد يتمنى أن يدخلهم إلى المدرسة. ثم حدثني عن قطعة أرض ورثها عن والده ويريد استرجاعها من أحد الغاصبين، فأرشدته إلى محام صديق لأجل مساعدته. ترجمة- أحمد المرزوقي