في مذكراته «متهم حتى تثبت إدانته»، يحكي الصحافي خالد الجامعي كيف ارتمى في عالم الصحافة تاركا جَمل وزارة الثقافة، التي كان يشتغل في ديوان وزيرها، بما حَمل، متنازلا عن السيارة والتحية العسكرية التي كانت «تُقرقب» له كل صباح. ذات صباح من ماي 1973 سيقتاد الجامعي معصب العينين من مقر «لوبينيون» نحو المجهول، والتهمة: نشر صورة لطفل، لم يكن غير الأمير مولاي رشيد، إلى جانب بدويات يفترشن الأرض. في «متهم حتى تثبت إدانته»، التي تنشرها «المساء» على حلقات، فصول مشوقة حتى الإيلام لصنوف من التعذيب، ومفارقات بالجملة لوجوه كانت تعبر زنزانة خالد الجامعي، طيلة ستة أشهر من اختطافه، فيما هو ينتظر الذي يأتي: الجلادون، والذي لا يأتي: الفرج. وبين كل «علقة» وأخرى يردد ما أوصاه به والده بوشتى الجامعي: «إذا اعتقلوك يا بني فتماسك، واحذر أن تتخاذل أبدا». في «متهم حتى تثبت إدانته» نتعرف على شخصية خالد الجامعي التي تجمع بين كارل ماركس وعلال الفاسي، على ما بينهما من تناقض. ويتوصل خالد الجامعي، أخيرا، إلى أن اعتقاله لم يكن بسبب صورة الأمير الصغير، بل بسبب اقترابه من شخصين مسجلين خطر: أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي. بقدرة قادر أصبحت إنسانا يعاشر. أخذ العديد من المعتقلين يمرون تباعا على زنزانتي لسبب أو لآخر. كان كل واحد منهم يجر وراءه مأساة من تلك المآسي الاجتماعية، التي تنتهي دائما برمي أصحابها في غيابات الجب. لم يكن هؤلاء كلهم مغاربة، بل كان بعضهم ينتمي إلى دول عربية وإفريقية كالجزائر ومصر والسنغال، ما جعل المكان يعج بخليط من اللهجات كلما تعالت الأصوات متحدثة فيما بينها. وقد كان من بينهم كما في جميع المجتمعات البشرية، شجعان كرام وأوغاد لئام. وذات يوم، أدخل الحراس علي شابا في العقد الثالث من عمره، يميزه وجه وسيم وبشرة بيضاء صافية. ومن خلال جمله الأولى تبين لي من لهجته أنه جزائري الأصل. ظل في الأول متحفظا حذرا لا يتكلم إلا لماما، ولكن مع وحشة المكان وضغط العزلة، انتهى به المطاف إلى البوح بقصته، فحكاها لي على حلقات. كان الشاب واحدا من الأتباع المخلصين للرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة. ولما أطاح به وزيره في الدفاع هواري بومدين، ألقي القبض على الشاب وحكم عليه بالسجن مدى الحياة بعد أن تعرض لتعذيب فظيع من طرف المخابرات العسكرية الجزائرية. وهذا ما أكد لي أن للمغرب العربي الكبير قواسم مشتركة في مجال ما على الأقل، قواسم مشتركة في ألوان التعذيب يمكن أن تنطلق منها الوحدة المباركة... في سجنه بالعاصمة الجزائرية، ربى حمامة آنسته في وحشته قبل أن يرسم خطة محكمة للفرار. تأتى له ذلك حين استطاع أن يتخطى الحدود الجزائرية ويلتحق بمدينة وجدة حيث سلم نفسه للبوليس المغربي. لكن روايته لم يقتنع بها الساهرون على أمننا، فاعتبروه جاسوسا أرسل إلى المغرب من طرف المخابرات الجزائرية. وبهذه الصفة، أخضع لاستنطاقات مطولة ثم أرسل بعد ذلك إلى الرباط حيث تكفلت به فرقة من الشرطة الخاصة سامته سوء العذاب إلى أن تحققت من صدق روايته عبر تحقيق قام به عملاؤها في الجزائر. على ضوء ذلك، قدموا له اعتذارا ثم نقلوه إلى كوميسيريتنا في انتظار تدبر أمره وإطلاق سراحه. غير أن انتظاره طال وتمدد مما رسخ في ذهنه أنهم نسوه. فكر في إيجاد وسيلة ناجعة لتذكيرهم بوجوده بعدما لم يتجرأ أحد من الحراس أو من الرؤساء أن يتكلم في شأنه. فكان كلما طالبهم بذلك، ردوا عليه بلهجة واثقة: هؤلاء الناس يعرفون ما يصنعون... وفعلا، فإن «أولئك الناس» لم يكن لهم في نفوس مرؤوسيهم من الحراس سوى الرعب المشوب بشيء من الإعجاب نظرا لنفوذهم الكبير وسلطتهم الواسعة. فما السبيل إذن للفت أنظار هؤلاء الفضلاء؟ قلت له ذات يوم مقترحا: ماذا لو تظاهرت بمحاولة انتحار؟ فاجأه اقتراحي في البداية، ثم ما لبث أن استحسنه واقتنع به، ولم يبق بعد ذلك سوى إيجاد الطريقة المثلى لتنفيذه. لكن تحقيق ذلك لم يكن بالشيء الهين في غياب أي آلة حادة. لك أسنانك يا هذا... قال مندهشا: أسناني؟... أجل، يمكنك فتح وريدك بأسنانك... كان الشاب محظوظا نوعا ما نظرا لبروز عروق معصمه. وعلى الشاكلة التي يحقن بها الممرض يد المريض، شددت يده بخرقة بالية مباشرة فوق المرفق. ازداد بروز وريده ما جعله في متناول أسنانه. بدأ محاولا حزه، لكن رغم مجهوداته الجبارة، ذهبت جميع محاولاته سدى بسبب انزلاق العرق من بين أسنانه. أعاد الكرة ثانية وثالثة لتدوم بذلك المجزرة ردحا من الزمن. وأخيرا ..انبجس الدم فتنفس الشاب الصعداء وأنا أرى فمه ملطخا بدمائه مع بعض شذرات من لحمه. بيد أن الحزة سرعان ما انسدت فاستعنا بعود ثقاب عالجناها به، بقينا نفعل كذلك كلما هددت بالانغلاق، فكان الدم ينزف مجددا والرجل يفرغ تدريجيا من الحياة. تريثنا لحظة قبل أن أطلب النجدة، شحب الأسير شحوبا مهولا وهو يزداد ضعفا ووهنا. فجأة، انتصب وقد أخذ الهلع منه مأخذه .طلب مني أن أعصب يده قبل أن تزهق روحه. لكني امتنعت وقلت له مشجعا: إن فعلنا ذلك فسوف يفطنون للخدعة... وما هي إلا لحظة حتى كان الغطاء الذي أهدانا إياه أحد السجناء قد تسربل كله دما. انطلقت أصرخ ملء حنجرتي طالبا النجدة. قدم حارس وسأل منزعجا: ماذا دهاك؟ رفيقي ينتحر... خيم صمت ثقيل... أطل بعده الحارس من «خصاص» الباب، فأدار المفتاح في القفل ثم شق الباب ربع شقة وألقى نظرة مستطلعة طال أمدها قبل أن يعلق قائلا: سيطلي هذا الحمار غطاءه كله بالدم ... أغلق الباب وانصرف، بقينا نترقب ماذا سيحدث. بعد هنيهة، سمعنا جلبة في ساحة المعتقل، فتح الباب من جديد فإذا بأشخاص بزي مدني يداهمون زنزانتنا وبأحدهم يهتف في صاحبي: أما زلت أنت هنا؟ غريب أمرك ...لقد أمرناهم بإطلاق سراحك...تعال... خرج الشاب وتبعه فكري مستفهما حول مصيره. هل سينعم أخيرا بالخلاص أم أنه سيعود إلي مدمى القدمين «بالفلقة» كما عاد من قبله الشرطي البئيس؟ في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم، رجع الشاب إلى زنزانتي يطير فرحا لتوديعي وشكري بعد أن من الله عليه بالفرج. أخبرني بأنهم ساقوه إلى المستشفى وأسعفوه ببعض الأدوية قبل أن يحيطوه علما بالنبأ العظيم الذي كان يتحرق شوقا لسماعه. ومن شدة امتنانه حمل لي معه بعض «الهلاليات» وتطوع بنقل خطاب مني إلى أسرتي. علمت بعد الإفراج عني أنه بر بوعده وأن زوجتي ساعدته بقدر من المال مع بعض ثيابي. وشاءت الأقدار أن التقي به سنين بعد ذلك، فحكى لي قصة رجوعه مستخفيا إلى الجزائر لزيارة أمه، ثم عودته إلى المغرب حيث حصل على أوراق رسمية تخول له الإقامة فيه بصفة «عديم الجنسية»، ثم عرج في حديثه على كيفية تدبره للقمة عيشه بعد أن زاول حرفة إصلاح الأقفال التي كان يمارسها في بلده الأصلي. لقد كان المواطنون في تلك السنوات الرصاصية الرهيبة عبارة عن بضاعة كاسدة ترمى في مستودع متعفن، يطويها النسيان أمدا طويلا قد يصل أحيانا إلى سنوات كاملة، إلى أن يأتي يوم يتذكرها فيه أحدهم بالصدفة فيرمي بها إلى الشارع كما ترمى القمامة... لم تكن هذه الممارسات الوحشية جديدة على مجتمعنا كما قد يعتقد البعض، بل هي فظاعات قديمة كانت شائعة في عهد المولى إسماعيل، بل ولربما قبله بكثير... كانت السجون آنذاك أشبه شيء بالمقابر المروعة، خصوصا بالنسبة للمعتقلين السياسيين الذين كان جلادوهم ينكلون بهم ويسومونهم عذاب القبر قبل الأوان، وكأنهم يحاكون بذلك ما يفعله منكر ونكير في القبر بكل كافر أثيم. وخير شاهد حفظه لنا التاريخ هو المعتقل الجهنمي «حبس قارة» المتواجد في مدينة مكناس، حيث لا زالت سراديبه المظلمة وأكباله المثبتة على حيطانه الرطبة تصرخ منها أرواح العشرات من الآلاف الذين فاضت أرواحهم وهم مقيدون في السلاسل والأصفاد. في تلك المعتقلات الغابرة كما في هذه الحديثة، يجرد الأسير من إنسانيته تجريدا مطلقا لينقلب إلى مجرد فريسة مرتجفة ترمى إلى ضباع هائجة طبع الله على قلوبها بالكفر والقسوة، وابتلاها بكل أشكال العقد النفسية والانحرافات العقلية. ترجمة- أحمد المرزوقي