في الوقت الذي ما يزال عدد من مسؤولي خيرية الحي الحسني في الدارالبيضاء يوجَدون رهن الاعتقال الاحتياطيّ في سجن "عكاشة"، في عين السبع، بسبب التّهم المنسوبة إليهم، وعلى رأسها الضرب والتجويع، يعيش نزلاء الخيرية ذاتها ظروفا عصيبة ومشاكلَ في التموين، يقتاتون على ما تمدّه لهم أيادي المحسنين من مساعدات عينية مكنتهم من تجاوز شهرا من الأزمة، ولكن المؤونة في طريقها نحو النفاد والعاملون بدون أجور منذ أكثرَ من ثلاثة أشهر، رغم أن مدير المؤسسة راسل جميع الجهات المختصة، وعلى رأسها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، بغية إيجاد حلّ لما يعانيه النزلاء من حرمان، لانعدام مصادر التموين. في أكتوبر الماضي قررت منشطة مسرحية تدعى «سعيدة أ. ب.» أن تعرض فصول مسرحية واقعية على أنظار المحكمة. بدأت الحكاية على «فايسبوك» عندما قرأت «سعيدة أ. ب.» إعلانا لجمع تبرعات لفائدة نزلاء مؤسسة الرعاية الاجتماعية -الحي الحسني في الدارالبيضاء، وبما أنها لا تملك غير «ثروة» فنية فقد وضعتها رهن إشارة المؤسسة. تطوعت «سعيدة أ. ب.» لتلقين أطفال «الخيرية» مبادئ المسرح، وكم كانت صدمتها كبيرة عندما رأت مَشاهد صادمة من مسرحية تراجيدية موضوعها «الاختلاس وضرب أطفال دون سن الخامسة عشرة وإطعامهم مواد منتهية الصلاحية»، أما أبطال المسرحية فهم الرئيس، المسؤول عن لجنة التدبير، والحارسة العامة والمسؤولة المالية ومؤطر تربوي ومسؤول عن التخزين.. أمرت محكمة القطب الجنحي في عين السبع في الدارالبيضاء بإيداع هؤلاء المسؤولين سجن «عكاشة».. صفق الجمهور المتتبع للنهاية التي انتهت بها المسرحية والجزاء الذي ناله أبطالها، لكنهم فوجئوا بالستارة تُرفَع على مشهد آخر لا يقلّ مأساوية عن سابقه.. الفصل الثاني من المسرحية: بعد اعتقال الرئيس ومعاونيه، اكتشف مدير خيرية الحي الحسني أنه أمام محنة حقيقية: مصادر التموين منعدمة، صلاحيات الحساب البنكيّ للمؤسسة في يد الرئيس، العاملون بدون أجور، ونزلاء الخيرية يعيشون على ما تتكرّم به يد المحسنين، رغم أنّ مدير المؤسسة حصل -حسب مصادر موثوقة- على هِبة ملكية قدْرها 5 ملايين سنتيم مازال لم يصرفها بعد بسبب ما اعتبرته المصادر ذاتها تباطؤ الجهات المختصة في تحديد الجهة المكلفة بصرفها. أزمة بطعم الفرح رغم الأزمة المالية التي تعيشها خيرية الحي الحسني، لأن الصلاحيات المتعلقة بصرف الأجور في يد رئيس الجمعية، المعتقل على ذمة التحقيق، فإن النزلاء يعيشون متضامنين في ما بينهم، فرحين بقرار اعتقاله، كيف لا وهم من شهدوا أنه كان يعنفهم ويضربهم ويتعسّف إزاء أبسط مطالبهم. عند دخولنا من الباب الرئيسي للمؤسسة وجدنا النزلاء من الأطفال يساعدون إحدى المؤطرات في ترتيب غرف نومهم، غير مكثرين بالأوضاع، وقد استنشقوا طعم الحرية، بعدما صرّحوا باستعادة أجسامهم قوتها واختفاء تلك الكدمات التي كان يُخلّفها تعنيفهم بالعصا.. يتحركون داخل أرجاء المؤسسة بكل أريحية ودون خوف من المراقبة، فحسب المشرفات على الدار، فقد استعاد النزلاء الثقة في أنفسهم وفي دراستهم وأصبحوا يعيشون في جو عائليّ، مدركين طبيعة الأزمة بسبب قلة المؤونة. «أنا شهدتْ بأنه كان تَيْضرْبنا».. يقول يوسف، الذي يتابع دراسته في المستوى الخامس ابتدائي، والذي كان من ضمن الأطفال الذين تم الاستماع إليهم من قبل شرطة الحي الحسني وولاية الأمن في الدارالبيضاء. لم يفارقنا يوسف طيلة تجوّلنا في مرافق الخيرية، التي هي في حاجة ماسّة إلى كثير من الإصلاحات، وخاصة الغرف، التي كُسر زجاجها فلم تعد تقي الأطفال البردَ والأمطار. توجهنا نحو غرف النزلاء، الذين يتراوح أعمارهم ما بين 10 و18 سنة، والتي يقول المشرفون على الجمعية إنها تغيرت كثيرا عما سبق، فقد كان النزلاء «يتكدّسون» في غرف قليلة، لتظل غرف كثيرة فارغة، لكنْ بعد غياب الرئيس عن الأنظار تغيّر حال الدار وتنفس النزلاء الصعداء وأصبحت كل غرفة تضمّ عددا مناسبا من النزلاء، يقومون بتنظيفها والاهتمام بتزيينها بالصور والألعاب.. سمير التوزاني هو طالب في السلك الثانوي، ازداد هو وأخ له في إسبانيا من أم مغربية وأب ألماني، غير أن الأقدار حكمت على أسرتهما بالتشتت بعد افتراق الأم عن الأب، فعادت الأم إلى المغرب وتركتهما لدى جدتهما في المدينة القديمة في الدارالبيضاء، لتعود أدراجها للعمل في إسبانيا، حيث تزوجت مجدّدا وأنجبت، ليجدا نفسَيهما أطفالا في الخيرية سنة 2004 بعد وفاة جدتهما. يعمل سمير، الذي ينوه الجميع بأخلاقه في الخيرية، على مساعدة مدير المؤسسة في تأطير النزلاء، بالنظر إلى النقص في عدد المؤطرين. طرقنا باب الغرفة التي يقطنها ففتح الباب مبتسما. تحدث بكل أسى عن مرارة الظلم الذي كان يشعر به برفقة النزلاء وهم يُنعتون من طرف الرئيس بأقبح الصفات. سألته كيف كان الرئيس المعتقل يعاملهم، فأجاب «كان يعاملنا على أساس أننا حيوانات.. لا يقيم لنا وزنا ويحاول، دائما، تشويه سمعتنا بجميع الطرق». فحسب سمير لم يتقبل الرئيس فكرة تواجدهم في المؤسسة منذ البداية، وتابع سمير قائلا: «كان يتصيد الفرص للإيقاع بنا.. كان يضرب الأولاد، صغارا وكبارا، وفي حالات أخرى كان يُهدّدنا بالسجن، ومن النزلاء من ناموا في الشارع بعد أن طردهم من الخيرية.. وكان النزلاء يقابلون هذا التعنيف بالصمت».. للأزمة التي تعيشها مؤسسة الحي الحسني حاليا، حسب التوزاني، مبرراتها، وهي انعدام مورد ماليّ يمكن المدير من الإنفاق على النزلاء، ولكن الجوع والحرمان اللذين كانوا يعانونه في العهد السابق ليس له ما يبرره، وفق المتحدّث نفسه. وتابع التوزاني قائلا إنّ الوضع الحاليّ أرحم من الوضع في السابق، على الأقل أنت تشعر براحة نفسية وبأمان داخليّ لأنه لا أحد سيضربك أو يطردك.. نتقاسم الصبر حتى يجيب الله الفرج.. نفسيا، شي حاجة تبدّلاتْ، مْشى الترهيبْ والوعيد والتهديد.. من ناحية التمويل هناك صعوبات من حيث المأكل والملبس.. ربما إلى خرجاتْ الفلوس الأوضاع غتبدّل». وحسب سمير لا يتوقف التقصير عند الجانب الخيريّ فقط، بل في جميع القطاعات، «ولكنّ ما يؤسَف له ليس الظروف والأقدار التي حكمت على هؤلاء الأطفال بأن يعيشوا في الخيريات، ولكني ألوم من يتحملون مسؤولية تشردهم وانحرافهم وإدمانهم».. إحسان مات غرقا من القصص المؤثرة التي رواها نزلاء خيرية الحي الحسني ل«المساء» قصة إحسان نصيف، ذلك الشاب البالغ 16 سنة، والذي كان دائما في نزاع مع الرئيس، وأراد أن يبحث عن مستقبل يضمن له الكرامة والإنسانية في بلاد أوربا فمات غرقا.. يحكي أخوه عبد النور، الذي عاد إلى الخيرية بعد اعتقال رئيس الجمعية: «طرد الرئيس إحسان من المؤسسة وهو يْمشي لخيرية عين الشق.. وفي كل مرة كنتْ تنمشي لعندو كان الرئيس يهدّدني ويمنعني من الدخول، وفي إحدى المرات جابْ ليّ البوليس ودّاوني للدار الحمرة، ومن تم مشيت لإصلاحية بنسليمان لمدّة عام». عندما غادرتُ الإصلاحية، يتابع عبد النور، التحقتُ بأخي في عين الشق، فنصحني بالهجرة السرية معه إلى الخارج والبحث عن خيرية أحسن تأوينا.. «مْشينا للمرسى وقال لي إحسان غنمشيوْ نعومو حتى نوصلو للباطو.. قلت ليه غتموت، ما سمعنيشْ.. تلاحينا بزوج أنا وصلت وسبقتو،- قلبت عليه ما لقيتوش.. عرفتْ بأنه غرق.. وأنا عتقوني غير البحارة.. وبعد أيام قال لي أحد النزلاء: لقاو إحسان، أنا فرحتْ، وهو يزيد لقاوْه مِيّتْ». يتناول النزلاء قصة إحسان بأسى وحزن عميقين، خاصة أنهم أكدوا أن الرئيس كان ينظم الولائم لأصدقائه في الخيرية ولم ينظم أيَّ عزاء للشاب المتوفى، وحتى القبر الذي دُفِن فيه إحسان لم يبذل جهدا ليعرفه أخوه الصغير، الذي يتحدث عن الموت وكأنه حياة أخرى ستكون رحيمة على إحسان من المعاملة التي قوبل بها من طرف الرئيس. ثورة النزلاء عددهم لا يتجاوز 51 نزيلا. استطاعوا أن يثوروا على الوضع الذي عاشوه لسنوات داخل الخيرية بصبر وأمل، يعيشون حالة من الترقب، ينتظرون ما ستقوله هيئة المحكمة في قضية رئيس جمعية «نادي اليونيسكو»، المشرفة على المؤسسة، والتي أكدوا أنْ لا أحدَ من أعضائها زارهم أو سأل عن حالهم منذ اعتقال الرئيس.. «وهذا يدل على أنّ «الرئيس هو «كلشي في هاد الجمعية»، يقول جعفر، ومع ذلك يقول النزلاء «عايشينْ بخيرْ، حامدينْ الله وشاكرينو».. فالمهم لديهم هو ألا تعود سنوات القهر والضرب والحرمان. بدأت شرارة «الثورة» مع مؤطرة تربوية ومساعدة اجتماعية قامتا برفع شكايات بخصوص ما تعرّضَ النزلاء من تعنيف جسديّ، شكايات معززة بصور وشهادات للضحايا، وجدت طريقها إلى رئيس محكمة عين السبع، الذي أمر بفتح تحقيق في الموضوع. وكانت هذه الشكايات والشهادات كفيلة بأن تُفيض كأس الألم الذي تجرّعَه النزلاء مُرا منذ دخولهم الخيرية. قال جعفر: «عندما وطأت أقدامنا الخيرية تفاءلنا خيرا، كنا نعتقد أننا سنستمع بحياة كريمة، نحن الذين حَرَمنا القدَر من الدفء الأسريّ، غير أننا اكتشفنا أن الواقع أكثر ألما مما سبق وعشناه في خيرية عين الشق.. ضرب وجوع وقمع وتنكيل وتهديد بالسجن».. هي ملامح الحياة في الخيرية في عهد الرئيس المعتقل. وقال ممرض الخيرية، الذي مازال لم يتلق أجرة ثلاثة شهور، إن ما يعيشونه يفوق الأزمة، «لولا تبرعات المحسنين الذين منحوا النزلاء اللوازم المدرسية ومواد الغذائية، أمّا حْنا فلينا اللهْ». خيرية بدون مؤونة عزا مدير المؤسسة، في حديث مع «المساء»، السبب الأساسيّ للمشكل إلى سوء التدبير وطريقة التسيير التي كانت في العهد السابق، والتي وصفها بالعشوائية، حيث تسببت في نظره في انقسامات داخل الخيرية، بين مؤيد ومعارض لتصرفات الرئيس، وهي التي أفرزت -حسب قوله- اعتقال الرئيس ومن معه، ويتعلق الأمر بالمسؤولة المالية والحارسة العامة وبمؤطر سابق وبالخازن، الذين يتابَعون بتُهم ضرب أطفال دون سن الخامسة عشرة وتقديم مواد منتهية الصلاحية والاختلاس.. وقال سعيد كوكبي، الذي اشتغل في بداياته كحارس عام، إنه عين مديرا بدون صلاحيات وكان دائما في صراع مع الرئيس. المشاكل التي تعيشها خيرية الحي الحسني لا حصر لها، بداية من ضعف التمويل وعدم تمكنهم من الاقتراب من الحساب البنكي للمؤسسة، وبالتالي فالمحسنون، حسب المدير، هم الذين استطاعوا الوقوف إلى جانبه في هذه المحنة الصعبة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل غياب الموارد المالية، رغم المراسلات التي وجّهها للوزارة الوصية وللمصالح المختصة، والتي ظلت بدون جواب.. ولج خيرية الحي الحسني، في البداية، حوالي 139 نزيلا، قادمين إليها من خيرية عين الشق في الدارالبيضاء، التي لا تقل بؤسا عنها، ظل منهم 50 نزيلا. من الناحية المدرسية، يقول مدير المؤسسة، كان الدخول متأخرا، لأنّ الرئيس لم يشتر الأدوات للمتمدرسين من النزلاء، لولا تدخل نيابة الحي الحسني وبعض المحسنين.. كما طُرح مشكل التأطير، الذي ما يزال قائما في الخيرية، التي تعاني من نقص في المؤطرين. وحتى العاملين فيها الآن لم يتلقوا أجورهم منذ أكثرَ من ثلاثة أشهر، ومنهم من غادروا، في ظل الأوضاع المتأزمة التي تعيشها هذه المؤسسة.. فمشاكل التجويع والتعنيف التي عاشها النزلاء في عهد الرئيس أنستهم الإحساس بمذاق الأزمة التي يعيشونها اليوم، حيث قال سعيد إنهم يعيشون حياتهم بشكلها الطبيعيّ. كان مدير المؤسسة من ضمن المعارضين لطريقة تسيير الرئيس، وشهد أمام رجال الأمن بالتعسفات التي كان يقترفها في حق النزلاء، والتي تتناقض مع الطرق التربوية، وقال إن اغلب من غادروا المؤسسة فعلوا بطرق قانونية، فمنهم من تم ترحيلهم إلى مركز تيط مليل ومنهم من استعادهم آباؤهم في إطار ما يسمى الإدماج الأسري. كما شرح وضعية النزلاء القادمين من خيرية عين الشق، والذين كانوا متأخرين كثيرا في التحصيل الدراسي، ما أعاق عملية تسريع تكوينهم، معتبرا أن «الأطفال مسؤولية يجب احترامها». كما تحدث عن حالة مريض بالصرع والسكري تتكلف المؤسسة بعلاجه، في ظل غلاء الدواء. وقد أضحت المؤسسة تُدبَّر الآن -حسب المشرفين عليها- تدبيرا منزليا، ومع ذلك يقولون إنها استطاعت أن تدبر الميزانية لمدة شهر كامل، وتساءلوا عن مصير الميزانية التي كانت تُصرَف في عهد الرئيس، والتي تتراوح بين 4 و5 ملايين سنتيم.. «حْنا ماخدينا والو واستاطعنا ندبّرو شهر من التموين، وربما أصبح النزلاء يأكلون ويلبسون أحسن من ذي قبل».. واعتبر بعض أطر المؤسسة أن الأزمة في صالح النزلاء، ففي ما سبق كانوا يطالبون بحقهم على الأقلّ.. دابا ما كاينش الفلوسْ». وتأسف أطر المؤسسة لكون أعضاء الجمعية المسيرة لم يزوروا النزلاء للاطمئنان عليهم منذ اعتقال الرئيس، ومع ذلك استطاعوا في عيد الأضحى ذبح 27 أضحية، بفضل تبرعات المحسنين. وما زاد الطين بلة هو الأمهات اللواتي يأتين للجمعية طمعا في المساعدة، وهنّ الأمهات اللواتي أقنعهن الرئيس يأخذ أبنائهم، واعدا إياهم بتحمل مصاريفهم المدرسية، وفي ظل خطة الإدماج الأسريّ لم تجد والدليل أن أغلبهم أصبحوا منحرفين ومشردين في الشارع. وقد راسل مدير المؤسسة وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، يطالبها بالتدخل من أجل حلّ مشكل التموين وصرف أجور العاملين بعد الأحداث الأخيرة، شارحا -في مراسلة تتوفر «المساء» على نسخة منها- العمل على تهيئة الأجواء وعلى إخراجهم من دوامة المشاكل التي تسبب فيها الرئيس ومُعاونوه، بعد أن تخلوا عن شراء الأدوات المدرسية للنزلاء، مما تسبب في التحاقهم متأخرا بالمؤسسات التعليمية، مطالبا بضمان استمرارية المؤسسة.