يجب ألا يشغلنا، نحن الصحافيين، قرار إبعاد أميناتو حيدر عن دخول المغرب بسبب تنكرها لجنسيتها المغربية، عن قرارات إبعاد جائرة تمت داخل المغرب تحت جنح الظلام وبعيدا عن عدسات الكاميرات. ولعل أخطر قرار إبعاد شهده المغرب في الفترة الأخيرة هو قرار وزارة الصحة إبعاد كل المرضى المصابين بالجدري من الجناح الوحيد المخصص لهم في المغرب بمستشفى عين الشق، وإعادتهم إلى الشوارع حيث كانوا لكي ينشروا عدواهم بحرية أكبر. خطورة قرار الإبعاد الذي أقدمت عليه وزارة الصحة، تكمن في أن مرض الجدري، الذي كاد المغرب يقضي عليه بعد أربعين سنة من علاج المصابين به مجانا داخل مصلحة الاستشفاء بعين الشق، سيعرف عودة مظفرة بسبب إقفال هذه الوحدة العلاجية الوحيدة في المغرب. فلا عائلات المرضى ولا المستشفيات العمومية تقبل باستقبال المصابين بالجدري، خوفا من العدوى، والنتيجة أنهم يتجولون في شوارع المدن مهددين الصحة العامة بعودة مخيفة لهذا المرض الذي انقرض في أغلب دول العالم. قرار إبعاد آخر صدر قبل أشهر قليلة ولم ينتبه إليه أحد، ويتعلق بإبعاد 147 طفلا يتيما من أطفال خيرية عين الشق بالدارالبيضاء نحو مقر نادٍ بالحي الحسني يرأسه نجار، بعد أن أوهمت الجهة المشرفة على الإبعاد الأطفالَ اليتامى بأنهم سيذهبون في رحلة استكشافية، فإذا بهم يكتشفون أن الأمر يتعلق برحلة ترحيل جماعي وليس برحلة استكشافية. قصة ترحيل هؤلاء اليتامى بدأت عندما راجت أخبار عن استغلال بعض المقيمين الكبار في خيرية عين الشق للأطفال القاصرين جنسيا، ووصلت الأمور إلى حد ضبط رجل من المقيمين بالخيرية وهو يستحم مع طفل، فتم اعتقاله وتقديمه إلى العدالة، حيث اعترف باستغلاله الجنسي للطفل وحكم عليه بالحبس ثمانية أشهر. وعوض أن يتم عقد اجتماعات في الولاية لاتخاذ قرار بترحيل حوالي 36 شخصا تتراوح أعمارهم ما بين 30 و50 سنة لازالوا يسكنون بالخيرية، مع أن أغلبهم يستحق أن يكون في دار العجزة وليس في خيرية مع الأطفال، تفتق خيال فوزية إمنصار، عاملة عين الشق، عن فكرة ترحيل 147 طفلا حتى «يرتاح» 36 رجلا لازالوا يقيمون في خيرية الأيتام، مع أن كل قوانين المؤسسات الخيرية في العالم تقول إن السن الأقصى للبقاء في الخيرية لا يجب أن يتعدى ثماني عشرة سنة. ولكي يتم ترحيل هؤلاء الأطفال دون ضجيج، جاءت فكرة الرحلة الاستكشافية. وهكذا، وجد الأطفال اليتامى أنفسهم فجأة في محيط جديد لا تتوفر فيه شروط دفتر التحملات النموذجي المحدد لمؤسسات الرعاية الاجتماعية. هكذا، أصبح الأطفال اليتامى ينامون في غرف تضم 30 طفلا عوض غرف تضم أربعة أطفال كما ينص على ذلك دفتر التحملات. وعوض أن يكون أطفال الابتدائي منفصلين عن أطفال الإعدادي، حصل العكس، فبدأ أطفال السابعة والثامنة من العمر يتعلمون من أطفال في بداية مراهقتهم أشياء لا يسمح بها سنهم. وبعد أن كانت لدى أغلب هؤلاء الأطفال دفاتر توفير يضخ فيها المحسنون تبرعاتهم التي لن يستطيع هؤلاء الأطفال اليتامى التصرف فيها إلا بعد بلوغهم سنة الثامنة عشرة، أصبحوا اليوم يفتقرون إلى دفاتر المدرسة. أما التأطير، فقد عهد به إلى حراس يفتقرون إلى الكفاءة والتجربة. ويكفي أن نعرف أن الوظيفة الأصلية لرئيس المؤسسة التي عهد إليها بالأطفال هي النجارة وليس التربية. النتيجة المباشرة لقرار ترحيل الأطفال اليتامى من خيرية عين الشق هو تعريض حوالي 105 مستخدمين كانوا يسهرون على خدمة هؤلاء الأطفال للبطالة. ماذا وقع لكي تدخل خيرية، سلّطت عليها وسائل الإعلام الأضواء منذ الزيارة التي قام بها الملك لمقرها وإرسال مكتبها السابق إلى المحاكمة والسجن، غياهب النسيان؟ منذ الزيارة الملكية للخيرية، والتي كان السبب فيها رسالة بسيطة وجهها القاطنون إلى الديوان الملكي وليس بسبب الهاروشي أو زليخة نصري كما راج آنذاك، تغير المكتب المسير وحل فاضل السقاط محل الرئيس السابق. وبدأت الخيرية تستعيد عافيتها المالية شيئا فشيئا، خصوصا بعد دخول سيدات مجتمع فاضلات على الخط، مثل عائشة التراب ومدام بنصالح، وضعن وقتهن ومالهن تحت تصرف إدارة الخيرية. وبفضل جهودهن وجهود بديعة التازي، التي كانت تحضر العمارية والنكافات من الرباط على حسابها الخاص، وبفضل محسنين آخرين، تزوجت حوالي 37 بنت من بنات الخيرية، ومنهن من يعشن الآن في كندا وفرنسا رفقة أزواجهن. الآن، وبعد خضوع ماليتها لمراقبة صارمة شبه عسكرية من طرف مسيريها الجدد، أصبحت الجمعية تتعرض لضربات مركزة تأتي من جهات متعددة. فأحد مداخيل الخيرية الأساسية ليس سوى عائدات كراء المباني التي وقفها الحاج السقاط على الخيرية. المشكلة أن الجماعة الحضرية التي تكتري لموظفيها هذه العمارات لا تسدد ما بذمتها للخيرية. وهكذا تراجعت عائدات الكراء التي تحصل عليها الخيرية من 54 مليون إلى مليون في الشهر. أما مداخيل الجمعية من عائدات الضريبة على الذبح التي كانت تصل إلى 600 مليون في السنة، فقد تراجعت إلى 100 مليون، والسبب -حسب عمدة المدينة ساجد- هو انتشار الذبيحة السرية التي لا تخضع للضريبة. واليوم، أصبحت الخيرية، التي توجد داخل وعاء عقاري يصل إلى سبعة هكتارات في قلب الدارالبيضاء، مقرا لحوالي 48 نزيلا لا غير، بعد تسلم 99 نزيلا لمبلغ ثلاثة ملايين سنتيم وقبولهم إخلاء الخيرية مقابل ذلك، وبعد إبعاد أطفال الابتدائي والإعدادي، لم يبق بالخيرية سوى تلاميذ التكوين المهني والمنقطعين عن الدراسة والكبار. هذه السبعة هكتارات التي توجد فوقها خيرية عين الشق، من يملكها يا ترى؟ إنها في ملكية الدولة. وما هو المشكل الكبير اليوم في الدارالبيضاء يا ترى؟ إنه مشكل ندرة الوعاء العقاري. إذن، هل يتعلق الأمر بمجرد رغبة في حماية الأطفال من تحرشات الكبار في خيرية عين الشق، ولذلك تم ترحيلهم نحو نادي «يونيسكو» بالحي الحسني، أم إن الأمر له علاقة بالمشروع الضخم الذي يفكر في إنجازه صندوق الإيداع والتدبير بمعية مستثمرين إماراتيين؟ نطرح هذا السؤال لأن هناك كلاما خلف الكواليس يقول إن الأمين العام للحكومة بصدد البحث عن صيغة قانونية لتفويت هذا الوعاء العقاري إلى الخواص من أجل بناء قطب سياحي وترفيهي وخدماتي. إذا صحت هذه الأخبار، فإن جميع الأطباء والمهندسين والمحامين والسياسيين والوزراء الذين كبروا وترعرعوا في هذه الخيرية مدعوون اليوم إلى الدفاع عن البيت الذي احتضنهم عندما كانوا بحاجة إلى من يرعاهم ويحميهم من الفقر والحاجة. هناك نزلاء سابقون في خيرية عين الشق لم يتنكروا للخبز الذي أكلوه في الخيرية فقط ولكن للبلد بكامله، وأشهرهم عبد العزيز المراكشي، زعيم البوليساريو، الذي كبر في أروقة هذه الخيرية وعندما اشتد ساعده حمل البندقية ودخل حربا ضد المغرب انتهت بسقوط ثلاثين ألف شهيد من الجانب المغربي. أمثال هؤلاء لا أحد ينتظر منهم التفاتة نحو 147 طفلا يتيما تم ترحيلهم من الخيرية. والأمل معلق على كل الضمائر الحية التي ترى في هؤلاء الأطفال الأيتام أطر الغد لكي ترفع أصواتها وتطالب بإرجاعهم حيث كانوا، والعمل على إيجاد حل للرجال والكهول الستة والثلاثين الذين لا يريدون مغادرة الخيرية رغم توفر بعضهم على عمل وعائلة. إذا كان وجود هؤلاء الكبار يشكل خطرا على الأطفال اليتامى، فإن الذي يجب أن يرحل هم الكبار وليس الأطفال. الأطفال اليتامى مكانهم الطبيعي هو الخيرية، أما الكبار فيستطيعون تدبر أمرهم بأنفسهم. أما مرضى الجذام الذين تم إبعادهم من مستشفى عين الشق، فيجب أن تعلم وزيرة الصحة أنها اقترفت جريمة صحة كبرى في حق المغاربة بإخراج هؤلاء المرضى إلى الشوارع. فنحن في المغرب لدينا كل الشروط المطلوبة لكي ينتشر هذا المرض ويتطور. الفقر، انعدام النظافة، سوء التغذية. أضف إلى ذلك أن المرض يدخل في مرحلة كمون يمكن أن تصل إلى عشرين سنة. وعندما يتم اكتشاف الإصابة يكون الوقت قد فات لعلاجها. هذه ببساطة بعض حوادث الإبعاد التي لا يجب أن يشغلنا عنها حادث «إبعاد» أميناتو حيدر من مطار العيون.