دشن الاقتصاديُّ البنغالي محمد يونس تجربة جديدة في علاقة الأبناك بالفقراء، من خلال تجربة (بنك جرامين Grameen Bank، أو بنك الفقراء). فقد حاول إقناع الأبناك التجارية في بلاده (البنغلاديش) بضرورة وضع نظام لاقتراض الفقراء دون ضمانات، مما عرضه للسخرية على أساس أن الفقراء ليسوا أهلا للاقتراض، في غياب رهون عقارية أو مالية كضمانات. لكن إرادته الحديدية وحبه للفقراء جعله يتحدى هذه الأفكار المعادية للفقراء، فأسس بنك جرامين سنة 1979 في بنغلاديش لإقراض الفقراء بنظام قروض متناهية الصغر، مما يساعدهم على بناء مشاريع صغيرة مدرة لدخل معقول؛ وبذلك حصل على جائزة نوبل سنة 2006م، وأصبح سنة 2008 ثاني شخصية مؤثرة في العالم الإسلامي، بعد الفيلسوف الأخلاقي التركي فتح الله كولن، في استطلاع أجرته مجلتا «فورين بروكسي» الأمريكية و«بروسبكت» البريطانية. وتقوم تجربة «بنك الفقراء» على تقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات منزلية تقوم بها النساء. وتصل نسبة تسديد القروض في البنك إلى حوالي 99 في المائة. وقد قدم ما يزيد على 11 مليون قرض منذ تأسيسه؛ كما استطاع البنك تجاوز كل الإكراهات العملية والتنظيمية. وتقوم فلسفة البنك على أن الائتمان حق من حقوق الإنسان، إذ إن الشخص الذي لا يملك شيئا هو صاحب الأولوية في الحصول على القرض؛ فالبنك يعيد الاعتبار إلى الرأسمال البشري وإلى قيمة الإنسان ودافعيته وقدرته الذاتية على العطاء بفعالية وبموهبة وتفان. ويعطي البنك الأولوية للنساء بإعطائهن الفرصة للتملك، خصوصا في الأرياف والأماكن النائية؛ لذلك فالبنك هو الذي يذهب إلى الفقير، أي بنك القرب. وبفضل هذه الفلسفة المالية الأخلاقية، يعمل البنك على تدوير المال واستثماره بإقراضه لعملائه الفقراء؛ كما يعمل على استعادة المال بناء على نظام مالي وإداري صارم، يقوم على ضمان الجماعة المحلية ورقابة البنك عبر موظفيه. وتتنوع القروض التي يقدمها البنك بين القروض العامة والموسمية والأسرية وقروض الإسكان. وأبرز البنك فعاليته وأخلاقيته وقربه من الفقراء بتقديم قروض جديدة واستثنائية لمشاريع مدرة للدخل سنة 1998 لما ضرب فيضانٌ عنيف البنغلاديش، وبقي الناس الفقراء وسط الماء عشرة أسابيع كاملة، وفقدوا ممتلكاتهم ومنازلهم؛ فتدخل البنك في إطار عملية ضخمة لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة، في إطار شعار «الطريق السريع للقروضِ متناهيةِ الصغر». ويقبل «بنك الفقراء» هذا، الالتحاقَ به دون عضوية وبلا ادخار ولا سداد أسبوعي أو شهري، بل يدفع البنك موظفيه إلى تحفيز الأسرة المعدمة وإعادة الثقة في نفسها إليها وتبديد مخاوفها وتدريبها على مهارات الأعمال المطلوبة والقيام، بشجاعة، بنشاط صغير ومدر للدخل؛ أي استثارة الكفاءات الذاتية المطمورة في النفوس، والتي غطاها الخوف والإحباط والحكومات الفاسدة. وقد أثبتت الدراسات أن المتعاملين مع «بنك الفقراء» يتحركون بثبات إلى خارج دوائر الفقر والإقصاء والتهميش، بمعدل 5 في المائة من المقترضين سنويا، من خلال تحسن نوعية الحياة وشروطها، في السكن والصحة الأسرية والزراعة والمرافق الصحية والماء النظيف والتعليم، (من خلال تمويل الطلبة المحتاجين بالمنح) والوعي الاجتماعي والإحساس بالآخرين وترسيخ الوعي بدور الفقير نفسه، بل وقدرته على حل مشاكله ومحاربة الفقر الذي ليس قدرا واحدا ووحيدا ومشكلا لا حل له! لذلك يدعم البنك المغازل والنساجين بتوفير المواد وتقديم خدمات التسويق ومتابعة الجودة وأعمال التصدير الخارجي... كما يشتغل البنك في مجال الأسماك والرفاهية الريفية وثورة المعلومات الريفية والطاقة الريفية وتوفير الطاقة المتجددة للقرى المحرومة من الكهرباء؛ فأعمال البنك ومشاريعه الاجتماعية تستهدف القرية، واسم البنك مشتق منها، أي (بنك جرامين)، وكلمة «جرام» في اللغة البنغالية تعني القرية، أي (بنك القرية). فهل يمكن تكرار هذه التجربة في المغرب؟ تراءت لي هذه الملاحظات، وقد سبق لي أن اطلعت على كتاب «بنك الفقراء»، وأنا بصدد متابعة الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي 2012 – 2013، الذي شهدته رحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بأكادير يوم الأربعاء 28 نونبر 2012، وكان عنوانه: «المالية الأخلاقية والتضامنية، دور الأبناك في محاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي»، من تقديم الدكتور البشير حمادي، رئيس مجموعة البنك الشعبي بالجنوب. وقد تابع المحاضرة جمع غفير من الطلبة والأساتذة والمهتمين، اختتم بنقاش حيوي وغني من لدن الطلبة، مما يعني أن الموضوع كان مستفزا إلى حد كبير، وكان المحاضر ذكيا في مقاربة الموضوع، من خلال الحديث عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمقاولة RSE والتي تعني، في نظره، احترام القانون وتوفير الشروط الصحية والاجتماعية اللازمة للمشغلين، وظروف العمل وغيره..، كما دافع المحاضر عن التوجه الأخلاقي الجديد الذي يسود البنوك، للاقتراب من الفقراء وتوسيع وعاء الزبناء الفقراء، والمساهمة في المشاريع الاجتماعية الهادفة إلى محاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي. وأشاد المحاضر بالتجربة البلجيكية في هذا المجال، وبتجربة الاقتصادي الدكتور محمد يونس، في البنغلاديش، التي ذكرناها سالفا، لكن دون الحديث عن شروط تنزيل هذه التجربة في المغرب، أمام فشل تجربة القروض الصغرى وتعميقها لمشاكل الفقراء، بل وتسببها في إشكالات اجتماعية معقدة. فهل المشكل في التجربة أم في التطبيق أم في الفلسفة والرؤية؟ وهو ما كان واضحا في التصور الفكري لمحمد يونس، وفي تجربته في تأسيس بنك الفقراء، خصوصا وأن تجربة «بنك الفقراء» نجحت في دول عربية مثل اليمن التي يعتبر قطاعها المصرفي عائليا بامتياز ومحدودا، كما أن 70 في المائة من سكانها يعيشون في الريف، ويمثل الشباب فيها 70 في المائة، والنساء 53 في المائة. وقد حصل «بنك الفقراء» في اليمن سنة 2010 على جائزة الإبداع والابتكار في الوطن العربي، كما نال جائزة عالمية بفضل منتوجه الجديد: «نظام الإجارة المنتهية بالتمليك للفقراء»؛ كما تقوم تجارب كثيرة لإنشاء «بنك الفقراء» في مصر والسودان. على أي حال، كان هذا الدرس الافتتاحي فرصة لإثارة نقاش اقتصادي ومالي تحت عنوان أخلاقي واجتماعي، بما يبرز دور القيم في توجيه الاقتصاد وتغيير صورة البنك والمؤسسات المالية والتمويلية في أذهان عموم الناس، وبما يفتح جسور التواصل بين التخصصات الاقتصادية والمالية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية والدينية. إن «بنك الفقراء» يتجاوز فكرة الإحسان وتأبيد الفقر والحرمان، وينطلق من مبدأ «ساعد الناس كي يساعدوا أنفسهم»، أي إشعار الإنسان الفقير بقيمته وقدرته وكفاءته؛ والمؤسسات البنكية تملك، اليوم، من المقومات والإمكانيات ما يؤهلها للقيام أدوار أخلاقية وتنموية نبيلة كهذه.