«القروض الصغرى»، اعتُبرت ولازال يعتبرها البعض «وصفة سحرية لاجتثاث الفقر»، بينما يرى آخرون أن سعي الأسر المغربية إلى القروض الصغرى، ك»المستجير من الرمضاء بالنار». المعطيات الرسمية والجهات الوصية على القطاع، تعتبر أن «المغرب رائد في مجال القروض الصغرى»، وتقدم معطيات وحصيلة نشاط جمعيات السلفات الصغرى، انطلاقا من مؤشرات تعتبرها إيجابية، منها المبلغ الإجمالي للقروض حتى نهاية سنة 2011، وعدد المستفيدين من السلفات الصغرى والمستخدمين الذين يستقطبهم القطاع ونسبة استرداد السلفات الصغرى، بينما الوجه الآخر للقروض الصغرى يميط اللثام عن ضريبة اجتماعية ثقيلة، وعن معاناة حقيقة للمستفيدين من السلفات، من خلال مؤشرات اجتماعية حقيقية وواقعية. بالتزامن مع مصادقة لجنة المالية بمجلس النواب على مشروع قانون لتعديل قانون السلفات الصغرى، وهو المشروع الذي اعتبره البعض شمل تعديلات سطحية لم تلامس الإشكالات الحقيقية للقطاع، تعيد «التجديد» فتح «ملف القروض الصغرى بالمغرب»، التشخيص والتحديات، وأوجه المعاناة الاجتماعية للفآت المفترض استفادتها من الأهداف النبيلة للقروض، التي يجمع عدد من الخبراء على وجود «انحراف في استعمالها» و»تملص الجهات الوصية على القطاع من دورها الرقابي على التسيير والتدبير»، ومتابعة مراحل إقراض «الأشخاص القادرين على الإنتاج والذين لا يمكنهم الحصول على القروض من طرف مؤسسات الائتمان». «التجديد» تستقرئ آراء عدد من الخبراء، لتكشف «الوجه الآخر للقروض الصغرى بالمغرب». مقهورون بالفوائد أم مريم ومحمد وحسن ونهيلة، زوجها عاطل عن العمل، أنهكها العمل في شركات النسيج، فقررت فتح محل تجاري للخياطة، يضمن لها بدأ مشروعها الذي اعتقدت أنه سيخرجها من براثين الفقر، لم تمر سنة على بدأ اشتغال المحل التجاري، حتى بدأت ملامح فشل المشروع تلوح في الأفق، وتجلت بوادر الإفلاس، أم مريم عجزت عن أداء واجب كراء المحل التجاري، نظرا لهزالة مداخيل المشروع، تراكمت سومة الكراء، إلى أن وصل عجز الأداء إلى أربع أشهر، لتضطر المسكينة إلى إغلاق محلها التجاري قبل أن يطفئ شمعته الأولى، لكنها اضطرت إلى تسديد ثمن الكراء عن طريق اقتراض مبلغ مالي من مؤسسة للسلفات الصغرى، لتلجأ المتشبثة بأمل النجاح في مشروع جديد، إلى تصنيع ملابس جاهزة، مع لااعتماد دائما على سلفات القروض الصغرى، وتلجأ إلى توزيع الملابس الجاهزة على أصحاب المحلات التجارية للملابس التقليدية. لكنها اليوم تحس بعد خمس سنوات من الاشتغال، بأن عرق جبينها تستفيد منه أكثر المؤسسة التي تعمل في إطار القروض الصغرى، بسبب ارتفاع فائدة القروض، فالقسط الأكبر من الأرباح تحظى به المؤسسة. نسبة الفوائد إذا تثقل كاهل الفقراء، وترتفع أحيانا لتتجاوزا ثلاثون بالمائة، ومع ارتفاع معدل الأمية في صفوف الفقراء، يوقع المستفيدون على عقود القروض دون معرفة نسبة الفائدة، ليتفاجؤوا بعد ذلك بارتفاعها المهول، مما يعمق من صعوبة السداد، لتستمر عملية شد وجذب مع المؤسسة، مما يهدد القدرة الشرائية للمستفيدين. خديجة، اعتادت أن تتوجه بداية كل أسبوع إلى إحدى مؤسسات السلفات الصغرى بمدينة الدارالبيضاء وذلك منذ أربع سنوات، تقترض ثم تقترض مجددا لتسدد ما بذمتها من قروض، تقول المقترضة، “للمرة السادسة أقدم على اقتراض مبلغ مالي"، التي تعتقد أن القروض الصغرى حسنت نوعا منا من وضعيتها الاجتماعية، لتستدرك وتقول، “في الحقيقة لا أعرف، ولا أحس بأي تحسن ملموس وحقيقي، من يعيش مثلي لا يمكنه أبدا أن يحس ولو للحظة واحدة بالاستقرار الاجتماعي، كابوس الديون المتراكمة يهددني دائما ويطوق عنقي"، وهل تستطيعين أن تعيشي بدون قروض، تجيب البائعة المتجولة بشوارع العاصمة الاقتصادية، “لا لا أبدا، من دون قروض سأشرد عائلتي، بناتي لن يستطعن متابعة الدراسة، أعرف أن الديون المتراكمة تشكل مصدر قلق لي ولمستقبل أسرتي، لكن لا يمكنني أن أتخلى عنها على الآقل الآن". انحراف ونتائج غامضة.. في شتنبر1983 أسس محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2006، بنك غرامين (بنك القرى) لمساعدة الفقراء على خلق مشاريع مدرة للدخل. وتوصل هذا الاقتصادي قبل ذلك بسنوات إلى أن بإمكان الفقراء أيضا أن يديروا مشاريعهم الخاصة، وأن ما يحتاجونه فقط هو دعمهم لبدء هذه المشاريع، فشرع في منحهم قروضا صغرى جماعية. بعد 30 سنة عن هذه التجربة، التي صارت عالمية واستوردتها العديد من الدول، ما تزال القروض الصغرى تثير النقاش بين من يعتقد بأنها وسيلة فعالة لمحاربة الفقر، و من يشكك في ذلك ويرى بأنها لم تجتث الجذور الحقيقية للفقر، و بالتالي كان تأثيرها ضعيفا أو منعدما. ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، عرف المغرب بداية تقديم تجربة السلفات الصغرى، لتحسين «ظروف عيش الفئات الفقيرة والهشة اجتماعيا»، تجربة يرى القائمون عليها أنها شهدت في بدايتها الأولى نجاحا مقدرا لتشهد بعد ذلك أزمة بدأت بوادرها في الظهور أواخر 2007. الفاعلون والخبراء يرون أن أسباب الأزمة تعود إلى وجود انحرافات في فلسفة السلفات الصغرى، ضحيتها الأولى هم الزبناء، لتدخل مؤسسات القروض في منافسة شرسة لجلب الزبناء، لتنتشر بعد ذلك موجة الاقتراض المتعدد أو المتداخل، التي أثر على مردودية الجمعيات وصورتها، وحولت حياة المستفيدين إلى جحيم، دفع عددا منهم إلى بيع أثاث منزلهم في أحسن الأحول. تجربة مغربية غامضة منذ انطلاق تجربة القروض الصغرى بالمغرب، وبعد ما يقرب من عقدين من الزمن، وإلى حدود اليوم، لا يعرف أحد الأثر الحقيقي للسلفات الصغرى على فقراء المغرب، نعم المعطيات الرسمية تشير إلى ارتفاع نسبة المستفيدين وحجم الأموال المتداولة وغيرها من الأرقام المشرقة والمشرفة حسب القائمين على قطاع السلفات الصغرى، لكن إلى حدود الآن لا توجد دراسة واحدة تكشف عن معطيات مرتبطة بعدد الذين أخرجتهم القروض الصغرى من دائرة الفقر وحسنت أوضاعهم الاجتماعية، أو حول وضعية المستفيدين ونسبة الذين تحسنت مداخيلهم وشروط حياتهم، وكم منهم استدامت مشاريعهم دون تعثر، وكم نسبة من فشلت مشاريعهم، فغياب دراسات الأثر بالمغرب، تجعل من الصعب معرفة ما إذا كانت الأهداف الحقيقية للسلفات الصغرى، المتمثلة أساسا في «محاربة الفقر وتحسين شروط عيش الفئات المهمشة»، تحققت فعلا على أرض الواقع. بالمقابل هناك مؤشرات مقلقة تدق ناقوس الخطر، وتعري الكلفة الاجتماعية الباهظة للسلفات الصغرى على فقراء المغرب. اقتصاد الفقراء يرى عبد العزيز الرماني، أحد مؤسسي قطاع القروض الصغرى بالمغرب، والكاتب العام لجمعية نماء للقروض الصغرى، أن المطلوب اليوم «إعادة النظر في آليات التدبير والحكامة من أجل إعادة الهدف النبيل الذي أنشأت من أجله السلفات الصغرى»، واعتبر الرماني في حديث ل»التجديد»، أن «القروض الصغرى أصبحت تسيل لعاب بعض الأبناك، والتي أقدمت على إحداث مؤسسات للقروض الصغرى»، وأضاف المتحدث قائلا، «إذا كانت البنوك لها فوائد الاقتراض الخاصة بالسكن بين 5 و16 بالمائة، فإن قروض الفقراء أصبحت أكثر إغراء وجاذبية، لأنها تدر أموالا مهمة وأصبحت تستقطب الأبناك». وأفاد الرماني بأن الجمعيات كانت تمول إما عن طريق الشراكات أو القروض أو الهبات، مشيرا أنه حين كانت الجمعيات تستفيد من الهبات الوطنية أو الدولية، «كان من المفروض أن تكون القروض بصفر بالمائة، لكن ومع وجود مصاريف للجمعيات وتوقف الهبات، قلنا أن هناك حاجة لرفع نسبة الفائدة إلى خمسة بالمائة فقط، لأن الجمعية تلجأ إلى القرض، وتتراوح فوائده بين 8 بالمائة و12 بالمائة بالنسبة للجمعيات التي تقترض من الأبناك»، ويقر الرماني بأن نسبة 16 بالمائة تكون كافية، يضيف المتحدث، «والدولة عليها أن تتدخل وتحدد سعر الفائدة وتسهر على المراقبة». ويشير الرماني أيضا إلى أن «الجمعيات القوية بدأت تفكر في التحول إلى بنوك، أي مؤسسات تموينية، وبدأت توظف بحجم مهم، ومدراؤها أصبحت لهم أجرة تفوق أحيانا أجرة كاتب الدولة في الحكومة المغربية»، ليؤكد أن الجمعيات يجب أن تظل وفية للأهداف النبيلة التي أحدثت من أجلها، «أهداف إنسانية اجتماعية تخدم الفقراء ولا تفقر المستفيدين من القروض»، يقول الرماني. القروض تنحرف «القروض الصغرى لم تحقق أهدافها»، يضيف الرماني، والكاتب العام لجمعية نماء للقروض الصغرى، «بل ساهمت في تعميق أزمة شريحة كبيرة من ذوي الدخل المحدود»، ويرى عدد من الفاعلين أن «ميثاق الشرف وأخلاقيات المهنة لم يفعل»، وينص هذا الميثاق الأخلاقي على أن تحترم الجمعيات منطق مساعدة الأفراد وليس التنافس فيما بينها. إذ انحرفت القروض الصغرى عن الأهداف التي تروم مساعدة الأفراد في الإنتاجية ومحاربة الفقر. ويشير الرماني إلى «وقوع انحراف عن روح وفلسفة تلك القروض في جزء لا يستهان به من القروض الصغرى الممنوحة، وصارت القروض تزيد الفقراء فقراً في عدد من الحالات، وليس مساعدتهم للخروج من دائرة الفقر بتمويل مشاريع مدرة للدخل وفق شروط سداد ميسرة»، ومن مظاهر الانحراف أن تلك القروض تمنح بفوائد فاحشة جدا، أكبر من تلك المطبقة لدى الأبناك، قد تصل إلى 30 في المائة، في حين تحصل هي على القروض من الأبناك بنسبة 9 إلى 11 في المائة. ويلفت المتحدث الانتباه إلى أن «القروض الصغرى أصبحت تستخدم لأغراض استهلاكية كشراء الأضحية مثلا أو لتسديد متطلبات الدخول المدرسي وتجهيز الأعراس». كما أصبحت جمعيات القروض الصغرى تنظر إلى هؤلاء الفقراء كزبائن فقط، يضخون الأرباح في صناديقها، رغم أن الوضع القانوني لهذه الجمعيات يشير إلى أن هدفها ليس ربحيا. الخروج من الأزمة للخروج من الأزمة، يقترح عبد العزيز الرماني، أحد مؤسسي القروض الصغرى بالمغرب، عودة الدولة لممارسة تأطيرها ورقابتها على القطاع، وتحديدها لسعر الفوائد حتى تساهم هذه القروض في التخفيف من معاناة الفقير، يضيف المتحدث، “كما يجب وقف التسيب المرتبط بتحديد المستفيدين من القروض، حيث تستفيد اليوم فآت غير معنية، منها مثلا حسب معطيات دقيقة، فئة موظفي الجماعات المحلية في بعض الأقاليم"، كما يقترح المتحدث تعزيز آليات المواكبة، مؤكدا أن على الجمعيات الحرص على متابعة المستفيدين للتأكد من سلامة استعمال الأموال المقترضة. من جهة أخرى يشدد الرماني على أن استرجاع الديون لا يمكن أن تتم إلا عن طريق التوعية، لأن اللجوء إلى المحاكم يتعارض مع الأهداف النبيلة لهذه السلفات. ويرى المتحدث أيضا أن الجمعيات عليها إدخال الحكامة لهذا المجال والتخفيف من التكاليف، ووقف “السفريات التي تتم على حساب الفقراء من طرف مدراء عدد من المؤسسات النشيطة في هذا المجال".