افتتح مهرجان مراكش السينمائي مسابقته الرسمية في دورته الثانية عشرة بالفيلم التايواني الدرامي «لمسة نور»، وهو أول عمل مطول من إخراج «تشانغ تشي جونغ». والفيلم في حد ذاته رقيق على القلب تتخلله مقاطع موسيقى بيانو عذبة تأخذك إلى عالم آخَر، يصاحبها الرقص والاندفاعات الرومانسية اللطيفة. يحكي «لمسة نور» قصة «سيانغ»، الشاب الضرير الذي انتقل من قريته الصغيرة إلى المدينة الكبيرة لدراسة الموسيقى في جامعة «تايبي». ويبدأ الشاب «سيانغ» عملية التكيف مع البيئة الجديدة ومغالبة الصعاب في الكلية التي يدرس فيها، كالرفض والاحتقار اللذين يتعرض لهما من طرف طالبَين، إلا أنه لن يفسح المجال لذلك لكي يؤثر على عزيمته وإرادته وحلمه بأن يصبح يوما ما عازفَ بيانو شهير.. وسريعا ما يتعرف على «تشينغ»، مترهل الجسد والمَرِح والبهلوانيّ، المتخصص في آلة الكمان وشريكه في حجرة السكن داخل الحي الجامعي. ويتعثر الفيلم في النصف الأول، لكنه يعثر على وتيرته ويستقر على إيقاعه بدخول «جي» الصورة، وهي فتاة جميلة تشتغل في بيع مشروب العصير والشاي قرب الحرم الجامعي. وفي الوقت الذي يكافح «سيانغ» للتأقلم مع المحيط الجديد وكسر العزلة، تتشابك خيوط حياته مع حياة «جي»، التي قدّمت له في يوم من الأيام يد المساعدة لاجتياز الطريق المزدحم بالسيارات، وتنجم عن هذا الفعل صداقة بينهما.. ويكتشف «سيانغ»، لاحقا، أن «جي» تحلم كذلك بأن تصبح راقصة محترفة. وتتطور العلاقة وتزور «جي» عائلة «سيانغ» وتلتقي بأخته الصغيرة، التي تسرق قلوب المشاهدين وتستحوذ على أرواحهم بأدائها التلقائيّ والساحر وفضول أسألتها المباشرة والساذجة، كمحاولة اكتشاف إن كانت «جي» حبيبة أخيها..وتتفتح الصداقة كباقة من زهور بين «سيانغ» و»جي»، وتزدهر كملحمة عفيفة حسنة الذوق في كل تفاصيل الفيلم ووقع أحداثه. وتضع «جي» يدها على مجموعة من أشرطة كاسيت كان «سيانغ» قد استخدمها لتسجيل الأصوات منذ الطفولة، ما يرفع من عزمها ويزكي إلهامها، قبل الامتثال أمام اختبار رقص هامّ. من جانبه، تتقوى معنويات «سيانغ» الروحية جراء بث الأمل من طرف هذه الفتاة التي تهَبُه قلبها ونفسها خدمة للفن وتقود خطواته الأولى في الرقص. وتأتي فرصة التألق عندما يصل «سيانغ» إلى خط النهاية في مسابقة عزف البيانو، الذي وجد في أحاسيس «جي» صدى عاطفيا كبيرا يعزز ثقتها في النفس ويلهمها على الاقتراب من هدفها باجتياز امتحان الدورة الكبرى وتحقيق حلمها كراقصة. ويلعب «الفلاش باك» في قلب التجاذبات الذي جلب بقوة على حياة تؤثر على ذاكرة طفولة «سيانغ»، حيث يلازمه ضيق سماع كلام طفل يذكره على الدوام بعاهته، التي تجلب العطف على نجاحاته. وتتخلل الفيلمَ آفاق مشرقة وجذابة، تُظهر الهوية الإقليمية، أداها بإتقان كل الممثلين، لاسيما «سيانغ»، الذي يختطفك من مكانك أثناء مشاهدة الفيلم وأدائه دوره ببراعة مذهلة وبكل عفوية وبراءة واقتدار تستحق كل الاحترام والامتنان، مع إيصال الرسالة في أرقى تجلياتها النفسية التي تغوص في الجاذبية الحسيه وجمال طبيعة الشباب الموهوب واختبار الإرادة والعزم والمثابرة على شق الطريق داخل المجتمع القاسي. ويتميز الفيلم ببصمة آسيوية سينمائية فريدة لم نعتدها من قبلُ وبعيدة كل البعد عن التقليد والنسخ الذي يميل إليه مخرجونا المغاربة. ويكمن علو شأن الفيلم في قيمة التعبير في الصورة وفي مدى ما تنطوي عليه من رموز ودلالات يرغب المخرج في بلورتها داخل اللقطة، كي تفرز إثارة تخيلية ذات أبعاد معينة في نسق الفيلم. وهناك الكثير من الدوافع التي لجأ إليها المخرج في تعامله مع مصادر الضوء المختلفة ولقطات الفيلم، التي تتكون أساسا من اللقطات المتوسطة والقريبة، ليصل إلى عمق ضحل من المجالات، يتفاعل معها الجمهور لتشخيص الوقع النفسيّ لدى «سيانغ» وما يدور في دواخله. وهناك سبب آخر مُحتمَل يريد من خلاله المخرج إيصال رسالة إلى المشاهدين هي أن «سيانغ»، مع اقتراب نهاية الفيلم، لم يعد بالأعمى وهو يعزف البيانو في المسابقة الأخيرة ويهتز ابتهاجا ويبتسم ابتسامة بريئة يتلاشى معها عالمه المظلم ويكشف لنا سعادة امتلأت معها جيوب القاعة المظلمة، ليشرح لنا المخرج عنوان فيلمه «لمسة نور». إنه فيلم بلحظات عاطفية عميقة ومؤثرة يشارك فيها المُشاهد هبوط وصعود شخصيات الفيلم.