بناء على النصوص القانونية ومنها الدستور السابق، وبغض النظر عن الملاحظات الموضوعية التي استند إليها مقاطعو الاستفتاء على الدستور الحالي، وباستبعاد كل الملاحظات على المنهجية التي اعتمدت في مسطرة إنتاج الدستور السادس، فإن دستور 2011 لم يحترم الدستور ولا القانون في الكثير من المحطات، وتبيان ذلك من خلال الوقائع التالية: أولا: بناء على الظهير المؤرخ في 14 رجب 1432 (17 يونيو 2011) والمنشور في نفس التاريخ بالجريدة الرسمية عدد 5952 مكرر والذي حدد تاريخ إجراء الاستفتاء حول مشروع الدستور في فاتح يوليوز 2011، وبموجب المادتين 109 و44 من قانون مدونة الانتخابات، يتم تحديد تاريخ الاستفتاء ومدة الحملة وتاريخ بدايتها ونهايتها، عبر مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء طبقا للفصل 66 من الدستور السابق. بناء على كل ذلك، يتضح، بما لا يدع مجالا للشك، أن الاستفتاء على الدستور لم يكن قانونيا، فهو لم يصدر عن المجلس الوزاري كما لم ينشر المرسوم الداعي إليه في الجريدة الرسمية وهو ما يعتبر تجاوزا صريحا لنصوص القانون، الشيء الذي، لو توافرت معه محكمة دستورية حقيقية وغير مسيسة، لكان في حكم العدم؛ ثانيا: أما في ما يتعلق بالحملة التي واكبت الاستفتاء فإن المادة 49 من القانون رقم 11-57 تنص على ما يلي: «لا يجوز أن يشارك في الاستفتاء على الدستور إلا الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية بصفة قانونية في التاريخ المقرر لبداية الحملة الانتخابية». إلا أن هذه المادة لم تحترم بدورها، وإنما عرفت مجموعة من الانتهاكات الصريحة، إذ إن مضمون المادة يمنع على غير الأحزاب والنقابات القانونية المشاركة في الاستفتاء، لكن مجموعة من الوزارات، كما رصدت ذلك المنظمات الحقوقية، شاركت في الدعاية للدستور، وخاصة وزارة الأوقاف التي دعت، من خلال خطباء المساجد وفي خطبة موحدة، إلى التصويت ب«نعم» على الدستور وطاعة ولي الأمر، وهو ما يشكل استغلالا واضحا للدين في الشأن السياسي، يتجاوز مسألة وضع صومعة ضمن منشور حزبي والتي بموجبها ألغيت مقاعد بعض البرلمانيين. أما الأمر الثاني الذي لم تحترم فيه هذه المادة فيتعلق بتاريخ بداية الحملة، فكما تتبع الجميع، وكما هو مسجل، انتهى الخطاب الملكي الداعي إلى الاستفتاء، الذي سبق الحملة بأكثر من 12 ساعة، بدعوة صريحة إلى التصويت ب«نعم» للدستور قبل بداية الحملة بشكل قانوني؛ ثالثا: إذا كانت الملاحظات التي تطرقنا لها سلفا تمس الجانب الشكلي للدستور والإجراءات القانونية التي صاحبت ما قبل تنزيل الدستور، فإن ما سنتناوله في الفقرات القادمة له علاقة بمضمون الدستور المطبق اليوم في المغرب، وبالأخص ما يهم تمايز واختلاف نسخ الدستور، سواء اختلاف النسخة التي تقدمت بها لجنة المنوني إلى الملك عن المسودة التي تم التقدم بها إلى الاستفتاء، أو تباين النسخة التي استفتي حولها الشعب المغربي عن النسخة المعتمدة اليوم، واستجلاء ذلك على النحو التالي: 1 لقد صرح أكثر من شخص من الذين شاركوا في إعداد الدستور من خلال اللجنة التي ترأسها المنوني، بأن النسخة التي أجمعوا عليها لم تكن هي نفسها النسخة التي حُضرت للاستفتاء، وأبرز من كان صريحا في هذا المسعى هو الأستاذ محمد الطوزي الذي قال إن النسخة التي قدمت للاستفتاء ليست هي ما أفرزته لجنة صياغة الدستور. بناء على ذلك، فإن الدستور الحالي ليس هو بالقطع ما أنتج داخل اللجنة التي عينها الملك والتي اعترضت عليها كثير من المنظمات المدنية والفعاليات المجتمعية، كما أن النسخة التي تم تقديمها للاستفتاء ليست هي النسخة المعمول بها اليوم، فالنسخة التي استفتي الشعب بخصوصها طالها تعديل، ليس في آخر لحظة وإنما بعد تقديم المشروع إلى الشعب لكي يقول كلمته فيه، مما يعني أنه كان من الواجب ألا يتم أي تعديل، كيفما كان مستواه، على النسخة المقدمة، خاصة بعض نشرها بالجريدة الرسمية. ربما يُستدرك علينا بأن التعديلات التي طالت المسودة كانت تصحيحات لغوية أو تقنية؛ ومع تسليمنا بأن هذا الأمر نفسه غير مشروع، فإننا سنبين في الأسطر الآتية أن التعديلات طالت أمورا جوهرية في الدستور. تسود في العلوم السياسية النظرية القائلة بأن تشكيل المحكمة الدستورية يعد أحد العناصر التي تمكن من الحكم على ديمقراطية أي دستور. وكلما كانت لممثلي المؤسسات المنتخبة كلمة في اختيار أعضاء هذه المؤسسة كان الدستور أكثر ديمقراطية. غير أن الدستور الحالي، وعلى الرغم من أنه يمنح الملك حق تعيين نصف الأعضاء الذين تتكون منهم المحكمة الدستورية، بمن فيهم الرئيس، فإن نسخة الدستور المعتمدة اليوم منعت رئيس الحكومة من -على الأقل- التوقيع بالعطف على تعيين رئيس المحكمة، فالنص الأول المنشور يوم 17 يونيو شهد تغييرا، يوم 30 يونيو 2011 أي عشية يوم الاستفتاء والصادر بالجريدة الرسمية عدد 5952 مكرر، وخصوصا الفصل 42 الفقرة الرابعة (ص2947) ينص على أن رئيس المحكمة الدستورية يعين من قبل الملك ويوقع ظهير التعيين من طرف رئيس الحكومة بالعطف؛ بينما التعديل الذي طال الدستور (ف 42) بعد عرضه على الشعب حذف حق رئيس الحكومة في توقيع ظهير التعيين بالعطف، مما يفيد بأن رئيس الحكومة أصبح محروما من حق المشاركة في تعيين رئيس المحكمة الدستورية. أما التعديل الثاني الجوهري، الذي يمكن الاستشهاد به في هذا الصدد، فهو الذي مس الفصل 132 في الفقرة الثالثة، حيث جاء في النسخة التي صادق عليها الشعب المغربي: «يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، وخُمس أعضاء مجلس النواب، وأربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين، أن يحيلوا القوانين أو الاتفاقيات الدولية، قبل إصدار الأمر بتنفيذها أو قبل المصادقة عليها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور»، لكن النسخة التي طالت النص المستفتى حوله والتي لم يوافق عليها الشعب والمعتمدة اليوم اكتفت بما يلي: «يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، وخُمس أعضاء مجلس النواب، وأربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين،أن يحيلوا القوانين، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور»، حيث يتضح من خلال المقارنة أن إحالة الاتفاقيات الدولية على المحكمة الدستورية لتبت في مدى مطابقتها للدستور قبل عملية المصادقة، لم تعد واردة في الصيغة الجديدة للدستور، وتم الاقتصار على إحالة القوانين فقط، وهو تغيير جوهري يفقد النسخة المعتمدة اليوم شرعيتها ومشروعيتها (هذه النقطة تطرق إليها الأستاذان عبد العزيز النويضي وعبد العالي حامي الدين في دراسات منشورة). لا يتسع المجال للاستفاضة في عقد المزيد من المقارنات (هناك تعديلات أخرى طالت الفصول: 55، 130...)، كما أن ما أوردناه يكفي للتدليل على لادستورية الدستور الحالي، ومن ثم ضرورة الإسراع بسحبه وتطبيق دستور جديد يحترم الأسس الضرورية لاكتساب الشرعية والمشروعية، وإلا فإن الناس لا تفسد بممارسة السلطة ولا تفسد بالخضوع للسلطة، وإنما تفسد بممارسة سلطة غير شرعية وبالخضوع لسلطة غير شرعية، كما عبر عن ذلك المفكر الفرنسي أليكسس دي توكفيل منذ أكثر من 200 سنة. يمكن القول في كلمات قليلة: إن المتتبع للمشهد السياسي المغربي، وخاصة بعد 20 فبراير 2011، لا يسعه إلا أن يستغرب مسلسل التراجعات التي حدثت على مستوى «الإصلاح السياسي والدستوري»، فحتى خطاب 9 مارس الذي اعتبره البعض «سقفا يعلو جميع السقوف»، بينما لم يرَ فيه البعض الآخر إلا «التفافا على المطالب»، تم التراجع عنه من خلال الطريقة التي اعتمدت في تأليف لجنة صياغة الدستور، سواء من حيث الشكل، الذي لم يراع الشروط الديمقراطية في وضع الدساتير، أو من حيث المضمون، ذلك أن اللجنة خلت من الوجوه المعارضة أو التي ناضلت من أجل تحقيق الإصلاح الدستوري. غير أن مسلسل التراجع لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما مس ما أنتجته لجنة المنوني نفسها، فحسب محمد الطوزي فإن الدستور الذي عرض على الشعب ليس هو نفسه الذي أعدته اللجنة. وكان أغرب ارتداد حصل في هذا الإطار هو الاختلاف الجوهري بين نسخة الدستور التي وافق عليها جزء من الشعب عن النسخة المطبقة اليوم. وربما تفيدنا بعض المقولات في تفسير بعض أسباب هذا الارتداد. المقولة الأولى نقتبسها من مقال كتبه عبد الله ساعف، عضو لجنة صياغة الدستور، والمنشور بأحد أعداد جريدة «المساء»، حيث يقول بالحرف: «لم يستطع الملك، في أي لحظة من اللحظات، التراجع إلى الوراء أمام الحركة الاحتجاجية التي تشبثت بشعار ملكية برلمانية، إلا أن المحتجين لم يمثلوا القوى اللازمة ليتم الأخذ بعين الاعتبار مطالبهم في هذا الاتجاه»، مما يفيد بأن الدستور خلال مراحل إعداده كان خاضعا لمقياس قوة المجتمع المدني وفاعليته، حيث تأثر مضمونه، سلبا وإيجابا، بدرجة يقظة وضغط الشارع المطالب بالإصلاح؛ أما المقولة الثانية فنقتبسها من مقال لإدريس بن علي، حيث أورد على لسان سياسي شهير «يجب اتباع الجماهير من أجل قيادتها، وترك كل شيء لها من أجل سلبها كل شيء»، إذ يبدو أن النظام السياسي المغربي ساير الشعب في طروحاته عندما كان في أوجه قوته، ثم ما لبث أن تراجع عما وعد به هذا الشعب بعد انقشاع سحابة الغضب وعودة المحارب إلى سباته. وقد تم هذا بالفعل، ليس فقط عبر ما تطرقنا له في عرضنا، وإنما أيضا من خلال مضمون الدستور نفسه، والذي نعتبره غير دستوري؛ فما سمحت بمروره مراحل إعداد الدستور المتعاقبة شرعت الممارسة السياسية والقوانين التنظيمية في قطفه حتى أضحى هذا الدستور عبارة عن هيكل أجوفَ المضمون. فهل يمكن أن نتحدث عن دولة القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة حين تكون السلطة العسكرية، السلطة الدينية، رئاسة المجلس الدستوري، المجلس الأعلى للقضاء، المجلس الأعلى للحسابات، رؤساء أكثر من 10 مؤسسات للحكامة وأكثر من 37 مؤسسة استراتيجية... من اختصاصات رئيس الدولة غير الخاضع لأي مراقبة أو تقييم؟ باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة