من خلال التقارير سالفة الذكر يظهر أن المغاربة من ضمن أكثر الجنسيات نشاطا في تهريب وتبييض الأموال. تتم عمليات التبييض هاته في إطار أنشطة محظورة وذاتِ بعد دولي. هكذا يلجأ مغاربة إلى تبييض ملايين الدراهم سنويا في أنشطة غيرِ شرعية وبتنسيق مع مافيات دولية. «المساء» حصلت على ملف كامل يضمّ وثائق ومعطيات دقيقة حول شبكة مغربية دولية تشتغل في أخطر مجالات التهريب والتبييض، «أخطر» لأنها تلعب بالملايير دون أن تطولها متابعة، «أخطر»، لأنّ مجال تهريبها يمسّ قُوت آلاف المغاربة، و»أخطر» كذلك لأن ضمنها أشخاصا نافذين، وهو ما يفسر كونَها ما زالت تنشط إلى حد الساعة. كيف ذلك؟.. إليكم التفاصيل. قبل أعوام التقى مغاربة يتحدّرون من منطقة بني ملالوالفقيه بنصالح في شمال إيطاليا. يتزعم شخص شاب ذكيّ، طامح إلى الثراء -نستعير له ضمن هذا التحقيق اسم «هشام»- الذي انخرط في أعمال مشبوهة وأسس شركات تحترف النصب والتزوير وتيسير تبييض الأموال وتهريبها. ألقيّ القبض على «هشام» مرارا في قضايا اتجار غيرِ قانونيّ في العملة. كان هشام قد أسس قرابة 12 شركة في إيطاليا، تم إغلاقها بقرارات قضائية بسبب ضلوعه في أعمال غير قانونية. في «مودينا» الإيطالية، وتحديدا في مدينة «ساسولو»، التقى هشام برجل مافيا قويّ في المنطقة وهو إيطالي الجنسية ويدعى «مارتيني». لهشام أموال غير مغسولة مُتحصَّلة من أنشطة غير شرعية ول«مارتيني» شبكة علاقات يستمدها من نفوذه المافيوزيّ.. عاملا توفر الأموال والحماية سمحا للرجلين بتنفيذ خطة جهنمية لغسل الأموال، بل ومراكمة الثروات عن طريق أنشطة غير شرعية. تجلى ذلك في تزوير ماركات غذائية معروفة، أغلبها تعود لمنتوجات مغربية تحظى بإقبال أفراد الجالية العربية، والمغربية على وجه خاص، في جميع أصقاع أوربا. هذه بداية الحكاية، إذن، وهكذا ستتطور فصولها. خطة مافيوزية انطلقت الخطة بتزوير منتوج مغربي معروف ل«الكسكس». بدأ المنتوج المزور يُوزَّع على نطاق واسع في جميع أرجاء أوربا. استشعر مستهلكون مغاربة خطبا ما في المنتوج فأعلموا السلطات المعنية، التي أوقفت بعض موزّعي هذا المنتوج. مرت الأيام وعاد هشام و»مارتيني» بخطة أكثرَ إحكاما هذه المرة، بعد تشكيل شبكة دولية تضمّ مهاجرين مغاربة في إيطاليا، وكانت «الضحية» هذه المرة ماركة معروفة ل«الكسكس» المغربيّ. وظف أفراد هذه الشبكة أموالهم «المتّسخة» لتصنيع كميات من الكسكس رديء الجودة وغيرِ خاضع للمراقبة الصحية. كان مقر التصنيع مخبأ في قلب إيطاليا، خاضع لحماية المافيا. كانت التعبئة تتم في أكياس مماثلة للماركة المغربية المعروفة.. تعبَّأ كميات كبيرة من المنتوج وتتكلف شركة تم تأسيسها في إيطاليا من طرف أفراد الشبكة بتوزيعها في جميع أنحاء أوربا على أنها المنتوج الحقيقيّ. كشف مصدر مقرب جدا من التحقيق في هذا الملف إمكانية استعمال مواد مسرطنة وأخرى متحصّلة من لحوم الخنزير لصناعة هذا المنتج الرديء. لكنْ تبقى هناك ثغرة: ما العمل إذا علمت الشركة المغربية التي تصنع وتوزع المنتوج الحقيقيّ؟ كان الجواب عن هذا السؤال في ذهن هذه الشبكة قبل قيامها بتنفيذ خطتها الجديدة، وهي ليّ ذراع الشركة كي تصبح هي أولَ جهة تتكتم عن عملية تزوير منتجوها وتوزيعه بطريقة غيرِ قانونية وأولَ من يدفع في اتجاه إقبار أيّ تحقيق قضائيّ في الأمر.. كيف ذلك؟ ربط أفراد الشبكة، كما تؤكد وثائق ومعطيات حصلت عليها «المساء»، علاقات مع مسؤولين نافذين في الجمارك والأمن في المغرب، كما ربطت علاقة بمسؤول عن الشركة الكبرى لتصنيع المواد الغذائية، وضمنها الكسكس في المغرب، وهذا المسؤول موريتانيّ الجنسية. من خلال نسج هذه العلاقات حصلت هذه الشركة على وثائق ومعلومات دقيقة تكشف تورط الشركة المغربية المصنعة للكسكس في تهرب ضريبيّ وخروقات فاضحة تهمّ الاستفادة من استيراد القمح المستعمَل في إنتاج المواد الغذائية التي تبيعها الشركة وفق تسهيلات ضريبية غير واضحة. شكلت هذه المعلومات أوراق ضغط في يد المافيا للضغط على الشركة المغربية. هذا ما وقع، وهو ما يفسر توقف التحقيق في الموضوع وإقباره بمجرد بدايته.. الحلقة المفقودة الساعة تشير إلى الواحدة من زوال يوم الخميس، 27 أكتوبر 2011. المكان: منطقة «كامبوباسو» في مدينة «مودينا»، وتحديدا في مقر شركة تقوم بترويج المنتج الغذائيّ المذكور. حل ضابطان من فرقة محاربة الغش في كامبوباسو بالشركة، بناء على طلب من فرقة محاربة الغش في مدينة بارما الإيطالية. تم استفسار مسؤول عن الشركة المغربية في إيطاليا وأشار إلى أنه تم تسجيل تقلص كبير في كمية المنتج في أوربا في ظرف ثلاثة أشهر، كما أكد وقوع عملية تزوير للمنتج على نطاق واسع، علما أنه علامة مسجلة في المنظمة العالمية للملكية الفكرية. في محضر فرقة محاربة الغش الإيطالية، والذي تتوفر «المساء» على نسخة منه، تم جرد أدلة تقنية تكشف أن المنتوج مزوَّر، ليتم اتهام مغربي مهاجر في إيطاليا -نستعير له اسم «عبد الرحيم»- وتمت كذلك مباشرة مسطرة الحجز التحفظيّ لمقر الشركة التي كانت الشبكية المافيوزية تدير منه أنشطتها المحظورة، بتاريخ 21 نونبر 2011، حيث تم العثور على 23 ألفا و275 علبة كسكس من وزن كيلوغرام واحد للعلبة، أي أزيد على 23 طنا، في مقر الشركة. اتُّهِم عبد الرحيم وهشام بالتزوير، لأنهما هما من يديران «الشركة» المشار إليها وانطلقت مراحل المتابعة. كان عبد الرحيم حينها، وتحديدا ابتداء من 26 أكتوبر 2011، أي يوما واحدا قبل فتح تحقيق في الملف بإيطاليا، قد حل بالمغرب وبالضبط بمسقط رأسه، في منطقة الفقيه بنصالح، في إطار زيارة عائلية. وبناء على مخابرة من المصالح الإيطالية تم استدعاء عبد الرحيم من طرف الفرقة الجنائية الولائية للشرطة القضائية في بني ملال بتاريخ 21 دجنبر 2011. أنكر عبد الرحيم معرفته بالمنتوجات المحجوزة المزورة التي تم ضبطها وألقى بالمسؤولية على كاهل شريكه هشام. تمت مباشرة مراحل الدعوى التي رفعتها الشركة المتضررة، لكنْ فجأة، توقف كل شيء، رغم أن التحقيق أظهر أن هذه الشبكة تزور منتوجات كثيرة أخرى وتبيّض الأموال المتحصلة عن نشاطها في مجالات غير شرعية. حتى الشركة المتضررة لم تعد تدفع باتجاه متابعة الملف، كما أن مصالح السفارة المغربية في إيطاليا لم تثر الموضوع ولم تراسل المصالح المغربية المعنية، وبينها وزارة التجارة الخارجية. «أبدى المحققون الإيطاليون الذين بدؤوا التحقيق في الملف استغرابهم عدمَ دفع المصالح المغربية في اتجاه مواصلة التحقيق في الملف. والمثير أكثر هو أن المنتوجات المزورة ما زالت توزَّع بطريقة عادية حتى يومنا هذا»، يكشف مصدر «المساء». المصدر ذاته يضيف: «تلقى أشخاص فضحوا هذا الملف تهديدات بالمغرب وإيطاليا، ولا أحد يتحرك رغم أن الاقتصاد المغربي يفقد تحديدا 12 مليار درهم في العام بسبب أنشطة هذه الشبكة». تجارة الكنائس لم يعد نشاط الشبكات المغربية الدولية يتجه نحو توظيف الأموال غير الشرعية في أنشطة محظورة بشكل محض، مثل تجارة المخدرات والدعارة، كما أصبح أمرُ غسل الأموال في مشاريع عقارية أمرا عصيّا في المغرب بسبب خروج قانون خاص بمحاربة تبييض الأموال في المغرب سنة 2007. الحل هو التغلغل ضمن شبكات دولية واستثمار الأموال القذرة في أنشطة غير شرعية ولكنها تحظى بأغطية أمنية وجمركية. يهمّ جانب من عمل هذه الشبكات تهريب المواد الغذائية، وضمنها منتوجات حيوية للمغاربة، باللجوء إلى طرق فيها كثير من الدهاء. وذكرت مصادر التقتها «المساء» أثناء إنجاز هذا الملف أن أنشطة شبكات دولية مغربية للتبييض والتهريب بدأت تتجه نحو المواد الغذائية. أول الطرق هي الحصول على كميات كبيرة من المواد المستعملة في الصناعة الغذائية، وخاصة في ومجال الحلويات، مجانا، فكيف يتم ذلك؟ كشفت مصادر «المساء» وجود أفراد شبكات يعملون على تجميع كميات كبيرة من الدقيق منتهي الصلاحية والموهوب أساسا للكنائس من أجل إيواء نزلائها. تحصل هذه الشبكات الخاصة على كميات الدقيق هاته من شتى كنائس أوربا وتقوم بتجميعها وإعادة تعبئتها في أكياس، بعد تحريف تواريخ انتهاء صلاحية استعمالها. يحدث الأمر ذاته مع اللوز ومنتوجات غذائية أخرى تدخل في إطار صناعة الحلويات. بطرق معنية يتم إدخال هذه السلع إلى المغرب، دون مراقبة، ويتم بيعها بأثمنة منخفضة لزبناء ضمنهم، كما تفيد مصادر «المساء»، محلات معروفة لصناعة الحلويات. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قدّرت المصادر ذاتها كمية الدقيق منتهيَّ الصلاحية الذي يتم الحصول عليه من الكنائس ويتم تهريبه إلى المغرب بأزيدَ من 40 طنا سنويا. بلغة الأرقام أيضا، تحدث تقرير أُعدّ سنة 2008 عن تزايد أنشطة تهريب الحبوب إلى المغرب عن طريق الحدود الشرقية. ذكرت الدراسة أن التهريب تشرف عليه مافيا خاصة تستغلّ ارتفاع ثمن القمح دوليا من أجل بيعه في الأسواق المغربية. وهكذا يشير التقرير إلى مليونَي طنّ من الحبوب المهرَّبة يتم إدخالها إلى المغرب سنويا، برقم معاملات يقارب 600 مليون دولار..
الأسماك النادرة.. سلعة جديدة ضمن لائحة ما يهربه المغاربة أشرنا إلى أن الشبكات المغربية للتهريب وتبييض الأموال بدأت تتجه نحو أنشطة جديدة تهمّ أساسا ما يأكله الناس وتتم في إطار عابر للقارات. هذا ما خلصت إليه معطيات «المساء» ووصلت إليه تقارير دولية، من بينها تقرير أنجزه الصندوق العالميّ للبيئة، نُشر قبل أيام ودار حول تورّط المغرب، ضمن عدة دول، في عمليات لتهريب الأسماك. كشف التقرير أن مافيات مغربية، إلى جانب إيطالية وإسبانية وتونسية وتركية، قامت، ما بين سنتي 2000 و2010، ببيع أكثر من 18 ألفَ طن من سمك التونة بشكل غير شرعي عن طريق اصطياده بطريقة غير قانونية وتهريبها إلى اليابان. التقرير ذاته أكد تورُّط شبكات مغربية، إلى جانب أخرى، في تهريب كمية 13 ألفا و700 طن من «التونة» إلى دولة بنما لوحدها وفي ظرف عشر سنوات فقط. هكذا توجه نشاط شبكات مغربية إلى أنواع جديدة للتهريب غاية في التعقيد وتتطلب إمكانيات كبيرة لرصدها. تشمل هذه العمليات الصيد في أعالي البحار بطريقة غير منسجمة مع نظام الحصص، المفروض من طرف هيآت دولية لحماية أنواع بعينها من الأسماك، كما يتم فيها توفير وسائل لوجيسكية ضخمة. حوادث متفرقة تكشف وجود مافيات متخصصة في تهريب الثروة السمكية للمغرب. آخر هذه الحوادث محاكمة متهم في المحكمة الابتدائية في آسفي، خلال شهر أكتوبر الماضي، تم اعتقاله من طرف الشرطة القضائية للمدينة بعد حجز كمية 500 كيلوغرام من الأخطبوط المعَدّ للتهريب داخل مخزن في حي «التراب الصيني». التحقيق في الملف، وفي ملفات أخرى مشابهة، ينتهي بالاإطّلاع على حقيقة تكثف نشاط شبكات داخل الموانئ تقوم بتهريب كميات كبيرة من الأسماك النادرة والمطلوبة إلى الخارج.