عندما وصل العسكريون إلى السلطة بعد انقلاب 10 يوليوز 1978 إلى حدود وصول العقيد معاوية ولد سيدي احمد الطايع إلى قيادة الدولة من خلال انقلاب عسكري بتاريخ 12 دجنبر 1984، حاولوا الاستفادة من الرأسمال الرمزي الذي كانت تتمتع به القوى الدينية، خاصة تلك الممثلة في «جماعة المساجد» التي كانت تتحدث باسم أغلب علماء أئمة المساجد في البلاد، فالمقدم محمد خونة ولد هيدالة، الذي تمكن من بسط هيمنته على اللجنة العسكرية الحاكمة نهاية سنة 1979، كان مضطرا إلى البحث عن غطاء «شرعي» لقراراته من خلال مراعاة مواقف آراء التيار الإسلامي، كما كان يدرك أن «مركزة» السلطة وانفراده بالقرار لن يتحققا إلا بتزكية من القوى الدينية؛ فمحمد ولد هيدالة بعدما شكل حكومة مدنية أناط بها مهمة وضع مشروع للدستور بتاريخ 19 دجنبر 1980 بعد أن صادقت اللجنة العسكرية الحاكمة على مشروع الدستور، تراجع عن تدابيره «الديمقراطية» بحل الحكومة المدنية وسحب مشروع الدستور يوم 24 أبريل 1981 بعدما تعرض لمحاولة انقلابية فاشلة يوم 16 مارس من نفس السنة. غير أن الملاحظ هو أن ولد هيدالة قدم، من ضمن مبررات تراجعه عن مشروع الدستور، مبررا يتعلق بالموقف السلبي للتيار الإسلامي من هذا المشروع، حيث اعتبره مشروع دستور يكرس الخيار العلماني ويخالف في جوهره الشريعة الإسلامية. إن ولد هيدالة تعامل مع الدين باعتباره آلية لإضفاء المشروعية على سلطته «المطلقة» عبر مغازلة القوى الدينية باتخاذه قرار تطبيق الشريعة الإسلامية بتاريخ 25 يونيو 1982، وهو القرار الذي اعتبره التيار الإسلامي إعلانا عن الاستقلال الحقيقي لموريطانيا باعتباره قرارا يحدث قطيعة مع قوانين المستعمر الكفرية. وكان ولد هيدالة في 9 نونبر 1981 قد اتخذ قرار إلغاء الرق الذي ظل حبرا على ورق بعد محاولته الحصول على فتوى من العلماء تجيز له ذلك. وكان الانقلاب العسكري الذي قام به معاوية ولد سيدي احمد الطايع ضد محمد خونة ولد هيدالة بتاريخ 12/12/1984 تدشينا لمرحلة جديدة في إعادة ترتيب عناصر المعادلة في العلاقة بين الدولة والقوى الدينية التي بدأت تهيئ نفسها للانخراط في العمل السياسي المباشر؛ فالنظام الجديد سعى منذ البداية إلى التمييز بين وظيفة الدين والدور الذي ينبغي أن تلعبه القوى الدينية. وفي هذا الإطار، صدر «ميثاق دستوري» على خلاف المواثيق الدستورية السابقة التي صدرت منذ الإطاحة بنظام الرئيس المختار ولد داداه في 10 يوليوز 1978، حيث يعتبر أن «الدين الإسلامي هو دين الشعب والدولة» وأن «المصدر الوحيد للقانون هو الشريعة الإسلامية». وهذا المقتضى الوارد في الميثاق الدستوري الصادر سنة 1985 لم ينظر إليه باعتباره مقتضى داعما للقوى الدينية بقدر ما نظر إليه باعتباره «تأميما» للدين من قبل الدولة وسحبا للبساط من تحت أرجل الإسلاميين بشكل خاص وعدم السماح لهم بممارسة العمل السياسي المباشر بصفتهم تلك كإسلاميين. وهذا لم يمنع ولد الطايع من محاولة قياس مدى حضورهم وقوتهم، حيث سمح لهم سنة 1986 بالمشاركة في الانتخابات البلدية، فشكلوا كتلة متميزة داخل تحالف «اللائحة البيضاء»، وشكلوا في الانتخابات الموالية لائحة خاصة بهم عرفت ب«لائحة الشورى». وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي وبتأثير وتفاعل مع المتغيرات الدولية التي أفضت إلى سقوط جدار برلين وتفكك المعسكر الشرقي والإعلاء من إيديولوجية احترام حقوق الإنسان وما ترتب عنها من تحولات إقليمية، قرر الرئيس معاوية ولد الطايع الإنهاء مع المرحلة الانتقالية وإدخال موريطانيا مرحلة الانفتاح الديمقراطي، حيث صدر دستور جديد في 20 يوليوز 1991 واعتمد قانون جديد للأحزاب يروم تنظيم التعددية السياسية. وقد استخدم النص الدستوري وقانون الأحزاب لسد الطريق أمام القوى الدينية الراغبة في الانخراط في العمل السياسي المباشر، فالدستور الجديد لم يختلف عما تضمنه الميثاق الدستوري الصادر سنة 1985 في ما يتعلق بتحديد علاقة الدين بالدولة، حيث أعاد إنتاج ما ورد في دستور 1961 أو ما تضمنه الميثاق الدستوري سنة 1985 من كون الإسلام هو دين الشعب والدولة، بما يفيد رغبة الدولة في الاستمرار في «تأميم» الدين وجعله ليس مجرد ثابت ناظم لوحدة الشعب فقط، بل مجالا محتفظا به للسلطة السياسية الحاكمة أيضا. وكان الرئيس ولد الطايع، وهو يعلن دخول موريطانيا مرحلة الانفتاح الديمقراطي، يدرك أن ذلك الانفتاح سيكون بدون معنى إذا لم يسمح بممارسة التعددية الحزبية، لكنه في الوقت نفسه كان يدرك حدود هذه التعددية التي لا ينبغي أن تشمل القوة الدينية واستحضارا منه لتجارب عاشتها دول قريبة منه في المنطقة واستيعابا منه للدرس الجزائري الذي اعتمد تعددية حزبية «مفتوحة» جدا استفاد منها الإسلاميون بتأسيس «الجبهة الإسلامية» للإنقاذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لكن سرعان ما أدخلت الجزائر إلى مأزق الحرب الأهلية. وانطلاقا من هذه الاعتبارات أتى الدستور الجديد لينظم هذه التعددية الحزبية، حيث نصت المادة الحادية عشرة منه على ما يلي: «... تساهم الأحزاب والتجمعات السياسية في تكوين الإرادة السياسية والتعبير عنها، كما أنها تتكون وتمارس نشاطها بحرية شرط احترام المبادئ الديمقراطية وشرط ألا تمس من خلال غرضها ونشاطها بالسيادة الوطنية والحوزة الترابية ووحدة الأمة والجمهورية، وأوكلت إلى القانون مهمة تحديد شروط إنشاء حل الأحزاب السياسية». بعد اعتماد الدستور، صدر أمر قانوني يوم 25 يونيو 1991 ينظم عمل الأحزاب السياسية. وإذا كانت المادة السادسة منه تنص على أنه لا يمكن أن يتأسس أي حزب سياسي على أساس عنصري أو عرفي أو جهوي أو قبلي أو جنسي أو طائفي، وهي مقتضيات لا تختلف عموما عما كان ينص عليه الفصل 17 من قانون تأسيس الجمعيات والأحزاب المعمول به في المغرب منذ 15 نونبر 1958، فإن المثير في قانون الأحزاب الموريطاني هو حسمه بشكل واضح في قضية الأحزاب الإسلامية منعا لأي تأويل، حيث نصت مادته الرابعة على ما يلي: «تمتنع الأحزاب عن القيام بأية دعاية مخالفة لمبادئ الإسلام الحنيف ولا يمكن أن ينفرد أي حزب سياسي بحمل لواء الإسلام». في مرحلة الانفتاح الديمقراطي، حاول الإسلاميون في موريطانيا الاستفادة مما كان يجري في محيطهم الإقليمي ليتحولوا إلى قوة «سياسية» من خلال تأسيس أحزاب خاصة بهم، خاصة وأن الاتجاه الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي في إطار توافق لم يستمر مع الانقلاب الطبي لزين العابدين بن علي ضد الحبيب بورقيبة يوم 7 نونبر 1987 وحوَّل حركته إلى حزب سياسي باسم حزب حركة النهضة؛ كما نجح الإسلاميون في الجزائر في الحصول على اعتراف قانوني بحزبهم: «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». وعليه، فقد سعى إسلاميو موريطانيا إلى تأسيس «حزب الجبهة الإسلامية» سنة 1991، غير أن السلطات الموريطانية رفضت تمتيعه بالاعتراف القانوني، معللة رفضها بأن «تأسيس الحزب مخالف لمقتضيات قانون الأحزاب». وقد عاود الإسلاميون الكرة سنة 1993، لكنهم فشلوا مرة أخرى في الحصول على الاعتراف القانوني بحزبهم الجديد باسم «حزب الأمة». وبررت السلطات رفضها بكون الحزب يتضمن مصطلح «الأمة» الذي يفيد مدلولا دينيا شموليا، إضافة إلى اتخاذه من الآية 91 من سورة الأنبياء شعارا له.