عرفت فرنسا منطق العرائض منذ 1789، أما بريطانيا فقد عرفت هذه الآلية منذ 1215. وقد أشار الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية إلى هذه الآلية. أما البرلمان الأوربي فقد أكد على ذلك في نظامه الداخلي. ومن أهم العرائض التي عرفها التاريخ السياسي المغربي وثيقة الاستقلال سنة 1944 التي أنتجت تداعيات مهمة توجت بإعلان استقلال المغرب. وقد وقعت هذه الوثيقة مجموعة من أفراد الشعب الذين ينتمون إلى فئات متعددة. وهذا هو عمق الترافع المدني. ويمكن استحضار المذكرة التي هيأتها الكتلة والتي توجت بدستور 1996 وتشكيل حكومة التناوب سنة 1998. هذه تراكمات تفسر، إذن، أن مجهودا دوليا وإقليميا بذل في جزء مهم من التشاركية التي لا يمكن تفسيرها إلا بالمنطق التكاملي مع الديمقراطية التمثيلية. فما هي المقتضيات الدستورية التي أطرت الروح التشاركية؟ ينص الدستور في تصديره على المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة. ودعا إلى الديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. ويبقى الاختيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة التي هي ملزمة بالمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ومن أجل المساهمة في التشاركية لا بد من أن يخضع هيكل المنظمات وتسييرها للديمقراطية، وأن يكون أعضاؤها مشاركين في الاستحقاقات الانتخابية حتى يتهيأ لهم الحق في إعداد القرارات والمشاريع التي تسلم إلى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، والمشاركة في إعداد السياسات العمومية وتنفيذها وتقييمها. والأهم من هذا كله هو حقهم في تقديم اقتراحات في مجال التشريع وتقديم العرائض، وحقهم بالمقابل في الحصول على المعلومة، وأن تضمن الدولة حق تأسيس الجمعيات. أما على مستوى الجهة، فالناس ملزمون بالمشاركة في تدبير شؤونهم والمساهمة في رسم جدول أعمالها. وإذا كان الدستور قد ركز على هيئات للنهوض بالتنمية البشرية المستدامة والديمقراطية التشاركية، فهي في جوهرها فضاءات للممارسة الديمقراطية، وهي المجلس الأعلى للتربية والبحث العلمي، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والوسيط، ومجلس الجالية المغربية بالخارج، والهيئة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، ومجلس المنافسة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري. ونظرا إلى أهمية هذه المؤسسات، أصبح من اللازم تقديم تقاريرها أمام البرلمان. انطلاقا من هذا المعطى الدستوري، نحا البرنامج الحكومي نفس المنحى داعيا إلى فتح ورش الديمقراطية التشاركية وإقامة الشراكات الوطنية والتكوين وتبسيط المساطر. من خلال هذا التأطير، كيف يمكن تفعيل كل هذا على المستوى العملي؟ إن أهم ما يميز هذه التشاركية هو التواصل الدائم بين كل الأطراف من أجل التنزيل الديمقراطي التشاركي للدستور وما يترتب عنه. ولن يتم هذا إلا إذا قمنا بعملية تبسيط كل آليات هذا التواصل تشريعيا وتنظيميا... ويترتب عن هذا التواصل البناء الإداري والتعاقدي والترافعي... اعتمادا على بنية تحتية تشريعية صلبة وحكامة جيدة والرفع من القدرات ودعم الشراكات.. كل هذا يتم في إطار الديمقراطية التشاركية التي تضبط أولا القطاع الحكومي من حيث توحيد الرؤى والأهداف والمناهج، تسهيلا لرؤية وطنية بين كل الأطراف، كل من زاويته، بناء على مأسسة كل المشاريع حتى نخرج من البناء العشوائي إلى التماسك في الرؤية والتنوع في الوظائف. هذا ما يمهد للإبداع التشريعي والرقابي الشعبي. لكن، لا يمكن أن نحقق كل هذا إلا بالتسلح بالديمقراطية والشفافية والتقويم المحاسبتي. إن الفعل المدني ثروة يجب أن تثمن وتدعم من حيث القدرات والمواكبة والتتبع والمعرفة والتعاون والانفتاح والتأطير وتسهيل الحق في المعلومة وبناء المعطيات وتطوير الكفاءات وتنمية الوسائط التواصلية الحديثة... بدون استعلاء ولا وصاية ولا حجر في إطار التنوع والاستقلالية، مع الاستحضار الدائم لوحدة المشروع الذي يمكن أن نوجزه في التنمية بأبعادها الأفقية والعمودية. انطلاقا مما ذكر، تعهدت الحكومة من خلال القانون المالي 2013 باعتماد المقاربة التشاركية في تفعيل مجموعة من الإصلاحات الهيكلية والمؤسساتية الضرورية، خاصة في مجال العدالة والجهوية المتقدمة واللاتمركز والقانون التنظيمي للمالية والنظام الضريبي ومنظومة الصفقات العمومية والمقاصة والتقاعد.. وقد تعهد القانون المالي كذلك بتعزيز قدرات تدخل الجمعيات. ولا غرو أن تلعب التكنولوجيا الحديثة دورا فاعلا في تطوير الديمقراطية التشاركية وبناء قدرات المجتمع المدني. إن كل ما ذكرناه متعلق بالتنزيل التشاركي والديمقراطي للدستور، لذلك أكد الفصل الأول على الديمقراطية المواطنة والتشاركية التي لن تكتمل إلا بالحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. وكون الجدلية حاصلة بين التنمية والتشاركية، فقد ركز الدستور على مجموعة من المجالات، خاصة التربية والتكوين والبحث العلمي والأسرة والطفولة والشباب والفعل المدني عامة.. وأخيرا، نؤكد أن الجميع مطالب بتفعيل الديمقراطية التشاركية، والتنسيق بين كل الأطراف المعنية، وتعزيز الحكامة، وتتبع ومواكبة الأنشطة... نور الدين قربال