باتت ميزانية الدولة في مغرب اليوم وثيقة مركزية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولهذا السبب، يرافقها سجال ونقاش حادان على غرار ما يحدث حاليا تحت قبة البرلمان بمناسبة عرض مشروع قانون المالية للسنة المقبلة على أنظار مجلس النواب من أجل مناقشته وإخضاعه لمسطرة المصادقة. لم يكد وزير الاقتصاد والمالية يكمل عملية تقديم المشروع أمام البرلمان حتى ثارت عاصفة من الانتقادات، بدءا من اتحاد الباطرونا، الذي قالت رئيسته: «كنا نتوقع جرأة كبيرة، بل وقطيعة مع ما سبق، غير أننا وجدنا أنفسنا أمام مشروع محتشم ووفي للاستمرارية». رصدت كذلك آراء مماثلة لدى قياديي عدد من الأحزاب السياسية والنقابيين وخبراء المالية والاقتصاد، ومنها تصريح لرئيس فريق التجمع الوطني للأحرار، قال فيه: «يتعلق الأمر بنص يفتقر إلى الالتقائية ويتضمن مجموعة من المقتضيات غير المتناسقة. نواجه صعوبات في تحديد طبيعته، لأننا لم نعرف بعد ما إذا كان قانونَ مالية تقشفيا أو مشروعا لتحقيق الإقلاع الاقتصادي وتنشيط الاقتصاد». ومن جهته، أكد محمد هاكش، عضو سكرتارية نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وجود «تباين كبير بين البرنامج الحكومي ومشروع قانون مالية سنة 2013». الحقيقة أن مشروع قانون المالية استقبل من قبل مختلف الفاعلين المعنيين بمناقشته بكثير من التحفظ، وهذا أقل ما يمكننا قوله، رغم أن الوزير المنتدب في الميزانية أرجع الانتقادات الموجهة إلى مشروعه إلى «جهل بيِّن بمحتواه»؛ فلماذا ترفض المعارضة هذا المشروع، وما الذي تعيبه عليه؟ تؤكد أحزاب المعارضة أن المشروع يغيِّب الأولويات القطاعية ويضحِّي بالقطاعات الاجتماعية في سبيل التقشف ويقر تدابير جبائية من شأنها أن تضعف القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة. ووصف قياديون من المعارضة المشروع الحالي بعديم اللون والرائحة والطعم: لا يدعم النمو ولا يركز على مناهضة أشكال اللامساواة، ولا يتحلى بالصرامة على المستوى الماكرواقتصادي. ولذلك، يؤكد أصحاب هذا الطرح أن المشروع الحالي لا يمكن أن يحقق أي هدف من الأهداف الثلاثة. الواقع أن الحكومة أعدت هذا المشروع في ظرفية صعبة ووضعت نصب أعينها إرضاء كتلتها الناخبة، مما أسقطها في فخ سياسة لا ترضي أحدا من الفاعلين، بل وترفع عدد معارضي المشروع برمته؛ فإذا كان المشروع يتضمن صندوق التماسك الاجتماعي الذي يعبر عن نية الحكومة الاستجابة لانتظارات الفئات المجتمعية الفقيرة، التي تشكل أغلبية الناخبين الذين أوصلوا العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، فإنه يقر تدابير من شأنها أن تؤثر سلبا على القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة. كما ينتظر أن تخضع رواتب الأجراء أيضا لمعالجة ضريبية قد تصل إلى 38 في المائة، في حين ستتراوح هذه النسبة بين 10 و20 في المائة في مجال الضرائب المفروضة على الأرباح العقارية والمنتوجات المالية. ومعلوم أن الأجراء والمقاولات الملتزمة بالشفافية في تعاملاتها هما الفئتان الأكثر تضريبا في المغرب، ذلك أن الثروات الكبيرة والفلاحة، بما فيها الاستغلاليات الكبرى، والقطاع غير المهيكل معفية جميعها من الضرائب. وقد وصلت الضرائب غير المستخلصة في السنة الجارية إلى 36.3 مليار درهم، ضمنها 2.9 مليار درهم في ذمة قطاع العقار لوحده. هل يكفي القول إن مشروع ميزانية 2013 أعد من قبل تقنيين وليس من قبل سياسيين على غرار ما قاله جمال أغماني، وزير التشغيل والتكوين المهني السابق؟ الواضح أن الميزانية المغربية لم تعد تتوفر على هامش كبير من المناورة في زمن «الأبقار العجاف» بسبب إكراهات الظرفية الاقتصادية الراهنة، وهو ما يفسر تواضع واحتشام محاولات الحكومة صياغة مشروع قانون مالية مختلف ومتميز عما قدمته الحكومة السابقة. وقد أحسن الوزير المكلف بالميزانية صنعا حين قال: «لقد لاحظتم أن إطارنا المرجعي، الذي مكننا من تفعيل هذه الإصلاحات، تجاوز منطق التدبير الموازناتي وبلور منطقا جديدا يقوم على ضمان السيادة في اتخاذ القرار». وعلى هذا الأساس، يتضح أن المجهود الذي بذل ليكون مشروع قانون المالية للسنة المقبلة متميزا مقارنة بما قدمته الحكومة السابقة كان ضعيفا. لنقل، بتعبير أكثر تبسيطا، إن إكراهات الظرفية، من جهة، وغياب رؤية شمولية، من جهة ثانية، لم يسمحا للحكومة بإبراز خيط ناظم يسهِّل قراءة متن هذا المشروع. ولهذه الأسباب، نتحدث اليوم عن مشروع «خلافات» لكونه لا يستجيب للانتظارات، بل ويعمق الإحباطات. المؤكد أن إدريس الأزمي الإدريسي اهتدى إلى التعبير الأمثل للخروج من هذا المأزق بحديثه عن «الميزانية الشعبية وليس الشعبوية». ولكننا نعترف بأن المفاهيم التي استعملها فاجأتنا، لأن وصف الميزانية بالشعبية أو الشعبوية يقحم مفاهيم سياسية صرفة في الميدان الاقتصادي ويسلبها كل معانيها. إجمالا، انتصرت الحكومة الحالية للاستمرارية ولم تحدث القطيعة التي طالما انتظرها الرأي العام في مجال إعداد مشاريع قوانين المالية. بحثنا طويلا عن لمسة الحكومة الجديدة، ولم نجد لها أثرا في مشروع قانون المالية للسنة المقبلة. وفي المقابل، وقفنا عند حدود عملية إحسانية لن يكون لها أي دور في الإقلاع الاقتصادي بدليل تراجع الاستثمارات العمومية ب4.26 في المائة. كما أن رفع كتلة الأجور، الثقيلة للغاية، قرار سلبي لأنه سيرفع حجم النفقات غير الإنتاجية على حساب تثمين الأنشطة الخالقة للقيمة المضافة. رجاء كفانا أوهاما، فالقطيعة الموعودة والمنتظرة أرجئت إلى أجل غير مسمى.