لم يكن الأمر مفاجئا بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي التي وجدت نفسها في مواجهة حالة لايقين اقتصادي تنعدم فيها الرؤية وتسود فيها شكوك حقيقية حول المستقبل المنظور في هذه الدول. لم يكن الأمر مفاجئا لأن عوامل كثيرة تواترت خلال السنين القليلة الماضية أشرت على أن دول منطقة اليورو ستواجه تداعيات كبيرة وعميقة ناتجة عن أحداث خارجة عن إرادات واضعي السياسات الأوروبية الخارجية من جهة، ومن جهة ثانية، عن أحداث أخرى انبثقت من صلب هذه السياسات. فقد هزت جائحة كورونا عروش الاقتصاديات الأوروبية، بعدما كشفت عن هشاشة قوية لهذه الاقتصاديات، إذ لم تقو على مواجهة الظروف الطارئة التي تسببت فيها هذه الأزمة، بعدما فرضت تدابير العزل والغلق وتوقف سلاسل الإنتاج والتسويق، وتعرض الاتحاد الأوروبي، الذي كان يقدم نفسه كأحد أكبر القوى الإقليمية والجهوية في العالم، إلى لحظة اختبار عسير جدا. ولم تقتصر تداعيات الأزمة الصحية العالمية على زمن الأزمة فقط، بل لم تكن مرحلة ما بعد الأزمة أقل تأثيرا وسوءا من المرحلة التي اشتدت فيها هذه الأزمة. والخلاصة الرئيسية التي لم تكن خافية في هذا الصدد تتمثل في أن الوضعية الاقتصادية لدول منطقة اليورو لم تكن قادرة على مواجهة طارئ عالمي معين. وإذا كان هذا العامل خارجا عن إرادة مراكز القرار السياسي والاقتصادي في الدول الأوروبية، فإن عوامل أخرى كانت نتيجة حتمية لطبيعة السياسات الخارجية التي تقررت في مختبرات صناعة القرار في القارة العجوز، يبقى أهمها ما يمكن تسميته بافتقاد دول الاتحاد الأوروبي لسيادة القرار تجاه أحداث عالمية كبرى، خصوصا ما يهم الحرب الروسية الأوكرانية التي اشتعلت في عمق القارة نفسها، وكان من المنطقي أن تواجه بسياسة أوروبية محضة تراعي المصالح الأوروبية أولا وأخيرا، والحال أن حكومات الدول الأوروبية اختارت مواجهة هذا التطور الخطير في إطار تكتل سياسي وعسكري يمثله الحلف الأطلسي، بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي مثلت الحرب الروسية الأوكرانية بالنسبة إليها فرصة كبيرة وسانحة لإضعاف منافسها الكبير وتثبيت الأحادية القطبية في النظام العالمي السائد، ووافقت حكومات دول منطقة اليورو على أن يقتصر دورها بنسبة كبيرة جدا على توفير السيولة المالية والدعم الإعلامي والديبلوماسي لحرب تمثل لحظة صدام حقيقية بين القوى الرئيسية الفاعلة في النظام العالمي السائد. ولذلك لم يكن غريبا ولا مفاجئا تدهور كثير من المؤشرات الاقتصادية في القارة العجوز بعدما توقف التموين الطاقي والغذائي من دولتين تستحوذان على إنتاج جزء كبير من سلة الغذاء والمخزون الطاقي في العالم. ولم تقتصر التطورات على هذا المستوى، بل امتدت التداعيات وانتشرت في مساحات شاسعة أخرى، بأن وجدت دول الاتحاد الأوروبي نفسها على الهامش في المنافسة الاقتصادية الحادة والعنيفة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين التي انتهزت حالة التوتر السائدة في العالم والمواجهة المحتدمة بين القوتين التقليديتين لتحقيق مكاسب اقتصادية استراتيجية كبرى. كل هذه العوامل والتطورات وغيرها كثير، كشفت عن مستجدات جديرة بالانتباه إليها وقراءتها في سياقها الحقيقي، فقد كشفت أن ما كان يدعى (مناعة اقتصادية أوروبية) تجتاز فعلا مرحلة صعبة وعصيبة نقلتها من مستوى المناعة المعلنة إلى وضعية هشاشة وتبعية. كما أنها كشفت عن حالة ضعف كبير في مراكز صناعة القرار الأوروبي، وأن صانعي القرار في منطقة اليورو لم يعودوا بالكاريزما والقوة اللتين ميزتا قادة سياسيين أوروبيين كبارا كانوا مؤثرين في الأوضاع العالمية. تقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي قبل شهرين من اليوم يؤكد هذه الحقائق، بأن نبه إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يواجهها ويعيشها الاقتصاد الأوروبي، وحذر مما وصفه ب(المعاناة البطيئة) للاقتصاد في القارة العجوز، وأشار إلى أن الإنتاجية الصناعية الأوروبية تتقدم ببطء كبير مقارنة بالمنافسين الكبار منذ ربع قرن، وإلى أن المقاولات الأوروبية تستثمر في التكنولوجيات الحديثة بنسبة قليلة مقارنة مع المنافسين الآخرين. كما أن بيانات صادرة عن وكالة عالمية متخصصة، سجلت قبل شهور قليلة من اليوم، أن دولا أوروبية في حجم ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، واجهت انخفاضا في إنتاجها من السلع الرأسمالية المعمرة والسلع الاستهلاكية. كما استدلت جهات أخرى في هذا الصدد بما وصفته ب(نداء الاستغاثة) الصادر عن مصانع أوروبية كبرى، كما هو عليه الحال بالنسبة لمصانع السيارات الأوروبية التي أعلن بعض منها عن إغلاق عدد من وحداته الصناعية الكبرى في دول أوروبية بسبب الصعوبات المالية الكبيرة التي تواجهها بعد احتدام المنافسة في هذه الصناعات وتوجهها للطاقات البديلة. كذلك، ذكرت هذه الأوساط بأن الصناعات الأوروبية تعاني بشكل خاص من تباطؤ الطلب المحلي ونقص العمالة المؤهلة ومن تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية، وأكدت في هذا الصدد أن دول الاتحاد الأوروبي تواجه متوسط أسعار طاقة يبلغ ضعف نظيره في الولاياتالمتحدة والصين. كما أعرب الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي السيد ماريو دراغي في تقرير قدمه إلى المفوضية الأوروبية عن قلقه مما سماه ب"تباطؤ الاتحاد الأوروبي مقارنة بالصين والولاياتالمتحدة". واعتبر أن الدول السبع ومجموعة العشرين محكوم عليها ب"الموت البطيء" إذا لم تتحرك. هكذا تكون السياسات الأوروبية التي صاغتها طبقة سياسية جديدة في القارة العجوز، قد خفضت مستوى ووزن الاتحاد ليساير حجم وقوة الطبقة السياسية الصانعة له، وتتحول بذلك دول منطقة اليورو إلى مجموعة ضعيفة التأثير في الأوضاع العالمية، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، فإن تراجع الدول الأوروبية في موازين القوى العالمية سيزداد سرعة، منذرا بتحولها في المستقبل القريب إلى مجرد تابع وموال لقوى عالمية معينة.