هذا تقاعس يرقى إلى مستوى التواطؤ: أن تتعالى أصوات الخبراء محذرة من نهب إسرائيل لثروة مصر من الغاز، ثم لا يُحرك ذلك ساكنا لدى المؤسسات المعنية، وتستقبل تحذيراتهم بالصد والتجاهل. في دجنبر من العام الماضي (2011) سمعت لأول مرة بمحاولات السطو على الغاز المدفون داخل حدود المنطقة البحرية الاقتصادية لمصر بالتواطؤ بين إسرائيل وقبرص. كان جاري على الطائرة القادمة من تونس إلى القاهرة، أحد الخبراء المصريين المعنيين بالموضوع. حين تعارفنا لم يضيع الرجل وقتا وظل، لأكثر من ساعة، يشرح لي ملابسات عملية السطو ومخططاتها، وقال إن صوته بح وهو يحاول منذ سنة أن ينبه المسؤولين في وزارة وهيئة البترول المصرية إلى الجريمة التي ترتكب في حق مصر، إلا أنه لم يجد أذنا صاغية، وأخبرني بأن لديه مجموعة من التقارير التي نشرت في بعض المجلات العلمية المتخصصة تشرح بالتفصيل الجهود التي تبذل لاغتصاب غاز شرق المتوسط، وفهمت منه أن العلماء الإسرائيليين أعدوا عشرين تقريرا وبحثا في الموضوع. أثار الرجل حماسي فطلبت منه أن يوافيني بأهم تلك التقارير. ولم يكذب خبرا، لأنه بعد يومين أرسل إلي ما طلبته، مشفوعا بكمّ من الخرائط والرسوم البيانية التي فهمت موضوعها ولم أستوعب مضمونها جيدا. ولأنها كانت دراسات علمية مكتوبة بالإنجليزية ولا يستطيع غير المتخصص أن يستفيد منها، فإنني انتهزت فرصة أول لقاء مع اثنين من أعضاء المجلس العسكري الحاكم آنذاك فشرحت لهما الموضوع، وقدمت إليهما التقارير التي تلقيتها مفترضا أنهما سيحيلانها على جهة الاختصاص المعنية بأمن مصر القومي وحماية ثرواتها الطبيعية. ولم يتح لي أن أتابع الموضوع إلى أن وقعت في الخامس من يونيو من العام الحالي (2012) على دراسة نشرتها على صفحة كاملة صحيفة «الحياة اللندنية» لخبير مصري يقيم في الولاياتالمتحدة هو الدكتور نائل الشافعي، ضمنها نتائج الأبحاث التي قام بها مع فريق من المتخصصين، وكشفت الستار عن الجهود التي تبذلها إسرائيل للسطو على غاز شرق المتوسط. وأبدى فيها دهشته من سكوت الجهات المصرية المعنية على تلك الجهود، احتفظت بالدراسة التي أثارت ردود أفعال سريعة، حيث طُرح الموضوع للمناقشة في مجلس الشورى الذي طلب من الدكتور خالد عبد القادر عودة الأستاذ بجامعة أسيوط وأحد أبرز علماء الجيولوجيا المصريين بدراسة ملف القضية من الناحية العلمية، فأعد تقريرا من 18 صفحة، أيد فيه ما توصل إليه الدكتور الشافعي وحمَّل الجهات المصرية المعنية مسؤولية التقاعس عن الدفاع عن حقوق مصر والتفريط في حماية ثروتها الطبيعية (قال لي إنه كان ينوي تقديم التقرير كبلاغ إلى النائب العام، ولكنه عدل عن ذلك لأنه لم يكن مطمئنا إليه، منذ سبق له أن أصدر قرارا جائرا بحبسه في قضية سياسية ملفقة). النتائج التي توصل إليها الدكتوران الشافعي وعودة تضامن معها الدكتور إبراهيم زهران، الخبير البترولي ورئيس شركة الغاز السابق، الذي ما برح يشكو من استباحة المياه الاقتصادية المصرية، الأمر الذي دفعه إلى التعاون مع السفير إبراهيم يسري، مدير الشؤون القانونية السابق بوزارة الخارجية، الذي سبق له أن رفع دعوى إلغاء اتفاقية تصدير الغاز إلى إسرائيل، لتقديم بلاغ إلى النائب العام للتحقيق في الموضوع. ظلت كرة الثلج تكبر، فأعد الزميلان يسري فودة ووائل الإبراشي حلقتين تلفزيونيتين خلال أكتوبر الحالي حول القضية. وفي برنامج الأستاذ الإبراشي، قال رئيس الوزراء اليوناني كارلوس باباريوس إنه حذر مصر من مساعي إسرائيل إلى الاستيلاء على احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط وطالب السلطات المصرية بالتصدي لتلك المحاولات، لكن التجربة أثبتت أن كل الذين تحدثوا في الموضوع كانوا ينفخون في قربة مقطوعة! تصدمنا التفاصيل، ليس لأنها موجعة فحسب، ولكن أيضا لأنها محيرة ومريبة، ذلك أننا بصدد موضوع مثير يمكن أن يعد نقطة تحوّل في تاريخ وموازين منطقة الشرق الأوسط؛ فالعالم الذي انتقل خلال القرن العشرين إلى عصر النفط والبترول كبديل لطاقة الفحم الحجري، الأمر الذي أحدث نقلة هائلة في منطقة الخليج، مرشح في القرن الواحد والعشرين لأن يدخل إلى عصر الغاز الطبيعي، الذي تكمن ثروته في شرق البحر المتوسط. وهو طور إذا تحقق فإن من شأنه أن يغير من الخرائط والموازين، ويحدث نقلة مماثلة في المنطقة المحيطة تضارع ما شهدته منطقة الخليج. وللعلم، فإن تلك المنطقة المحيطة تضم مصر ولبنان وقبرص وتركيا واليونان. وقد فرضت إسرائيل نفسها عليها باعتبارها كيانا له إطلالة على البحر المتوسط. مفتاح فهم ذلك العالم الجديد يكمن في جبل هائل يرقد في أعماق البحر يحمل اسم «إراتوستينس»، وهو اسم أحد علماء الإسكندرية في عصر ما قبل الميلاد، حيث كان ثالث أمناء مكتبة الإسكندرية في عصرها الذهبي (276-194 ق.م). في ذلك الحين (مائتا سنة قبل الميلاد)، تحدث الرجل عن منطقة في شرق البحر المتوسط تقع على بعد 190 كيلومترا عن مدينة دمياط تعيش فيها أسماك وقشريات مختلفة من الكائنات التي تسبح في البحر. في العصر الحديث، جرى تفسير ذلك بوجود جبل غاطس ضخم في تلك المنطقة، يرتفع ألفي متر فوق قاع البحر، وقد أطلق عليه العلماء اسم الرجل الذي كان أول من لفت الأنظار إليه، وكان ذلك الرجل هو «إراتوستينس». في ستينيات القرن الماضي، برز الاهتمام بالجبل الغاطس وسفحه لاستكشاف أسراره، وبادر إلى ذلك علماء من بريطانيا والولاياتالمتحدة ثم روسيا وبلغاريا. وقامت إسرائيل بوضع عشرين ورقة بحثية عن جيولوجيا المنطقة. وكان مثيرا للانتباه أن أول بحث منهجي في قعر الجبل المذكور أجراه فريق بحثي مشترك من جامعتي حيفا الإسرائيلية وكولومبيا في نيويورك. وخلال عامي 1997 و1998، أجرى ذلك الفريق المشترك ثلاث عمليات حفر تحت قاع البحر في السفح الشمالي للجبل. أما الأكثر إثارة للانتباه فهو أنه منذ ذلك الحين تسربت أنباء التنقيب عن الغاز واكتشافاته في المنطقة. الأمر الذي لفت الأنظار إلى الثروات الكامنة في شرق المتوسط، فنشطت فيها المناورات البحرية والدوريات متعددة الجنسية، تارة بدعوى مكافحة الإرهاب وتارة أخرى لمنع انتشار تكنولوجيا الصواريخ الموجهة. وكانت تلك بمثابة ستائر الدخان التي أريدت بها التغطية على تسابق البعثات العلمية على مسح قاع البحر. وتوجه منصات الحفر البحري للتنقيب في سفح الجبل، ودخول شركات جديدة إلى الحلبة وانسحاب شركات قديمة منها. خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت تظهر ملامح ثروة هائلة من احتياطات الغاز الطبيعي الكامنة في أعماق جبل إراتوستينس الثابتة ملكيته الاقتصادية لمصر منذ نحو مائتي سنة قبل الميلاد. وهذه المنطقة تدخل ضمن امتياز شركة شمال المتوسط المصرية، المعروفة باسم «نيميد». وكان ذلك الامتياز قد منح لشركة «شل» في عام 1999، التي أعلنت في عام 2004 عن اكتشاف احتياطيات للغاز الطبيعي في بئرين على عمق كبير في شمال شرق البحر المتوسط. وأوضح البيان أن الشركة ستبدأ المرحلة الثانية من عملية الاستكشاف التي تستمر أربعة أعوام، وتستهدف تحويل المشاريع المكتشفة إلى حقول منتجة. إلا أن مفاجأة حدثت في وقت لاحق، حين أعلنت الشركة عن انسحابها في مارس عام 2011، دون أية أسباب، وبالتالي انقطعت أخبار حفريات الغاز في شمال شرق البحر المتوسط. هكذا كتب الدكتور خالد عبد القادر عودة في مذكرته، ثم أضاف أن إسرائيل وقبرص أعلنتا عن اكتشافات للغاز الطبيعي في السفح الجنوبي لجبل إراتوستينس تجاوزت احتياطاتها 1.22 تريليون متر مكعب، تقدر قيمتها الحالية بنحو 220 مليار دولار، وتلك الاكتشافات مجرد باكورة التنقيب في المنطقة البكر التي أصبحت توصف بكونها تحتوي على أكبر احتياطيات الغاز في العالم. مما قاله في هذا الصدد أنه حاول الحصول على صور أقمار صناعية من موقع «جوجل إيرث» فوجد أنها، دونا عن باقى بقاع البحر المتوسط، ليست متوفرة، ولم يستبعد أن يكون إخفاء تلك الصور متعمدا، لأن بعض الدول، ومنها إسرائيل، تطلب إخفاء صور مفصلة للعديد من مناطقها. على صعيد آخر، بينت الدراسة التي قام بها الدكتور نائل الشافعي وفريقه العلمي أن حقلي الغاز المتلاحقين (لفياثان الذي اكتشفته إسرائيل عام 2010 وأفروديت الذي اكتشفته قبرص عام 2011) باحتياطيات تقدر قيمتها بقرابة مائتي مليار دولار، يقعان في المياه المصرية الاقتصادية الخالصة، إذ يقعان على بعد 190 كيلومترا عن دمياط المصرية، بينما يبعدان 235 كيلومترا عن حيفا و180 كيلومترا عن ليماسول القبرصية. والاثنان يقعان في السفح الجنوبي للجبل المصري الغاطس إراتوستينس. المثير للحيرة والدهشة أنه في حين سكتت مصر على الحفريات الإسرائيلية والقبرصية الجارية عند سفح الجبل المملوك لها تاريخيا، فإن تركيا هي التي أقلقتها تلك الجهود التي تمس أمنها القومي باعتبارها دولة مطلة على شرق البحر المتوسط، فقامت بوارجها في دجنبر عام 2011 بقصف الشريط الضيق الذي يفصل بين الحقلين الإسرائيلي والقبرصي، فتقدمت قبرص بشكوى إلى الأممالمتحدة ضد ما سمته دبلوماسية البوارج، في حين ألغت إسرائيل في الشهر ذاته صفقة بقيمة تسعين مليون دولار لتزويد سلاح الجو التركي بنظام استطلاع ورؤية متقدمين. إزاء السكوت المصري الأقرب إلى الغيبوبة على ما يجري في شرق المتوسط، فإن إسرائيل تتصرف على نحو يوحي باطمئنانها إلى السيطرة على حقول الغاز الموجودة في المنطقة. وتشير مختلف الدلائل إلى أنها منخرطة عمليا في عمليات بيع ذلك الغاز وتصديره. وقد استهلت جهودها بتطوير حقلين يتوغلان أكثر قربا من سواحل لبنان ومصر؛ ففي أبريل الماضي بدأت إحدى الشركات الأمريكية العاملة في مجال النفط والغاز في تطوير حقل شمشون البحري الذي اكتشفته إسرائيل والذي يقع على بعد 114 كيلومترا عن دمياط و237 كيلومترا من حيفا، وقدرت احتياطياته بقرابة 3.5 تريليونات قدم مكعب، وفي مطلع العام الحالي وقعت إحدى الشركات الإسرائيلية صفقة أولى لبيع غاز حقل آخر (باسم تمار) بكمية 330 مليون متر مكعب سنويا لمدة 16 سنة، قيمتها 1.2 مليار دولار. وفي ربيع هذا العام، كشفت إسرائيل عن نيتها نشر الصاروخ «مقلاع داود» على منصات إنتاج الغاز في حقلي «لفياثان» و«تمار» لتأمينها، وتسعى في الوقت ذاته إلى توفير وسيلة ثابتة لتصدير الغاز عبر خط أنابيب لا تتنازعه دول أجنبية، وهو ما يفسر اهتمامها بترسيم الحدود البحرية اقتصاديا، خصوصا أنها تنوي بيع الغاز لأوربا عبر قبرص واليونان، غير المتواصلتين في تلك الحدود. ذلك كله يحدث تحت أعيننا في داخل الحدود البحرية المصرية، ونحن واقفون نتفرج، الأمر الذي يستدعي السؤال: ما العمل؟ في الأسبوع القادم نجيب بإذن الله.